إنّ مع اليوم غدًا/ جواد بولس

|جواد بولس| من حين لآخر أختار أن أحرِّرَ مقالة ترصد بعض […]

إنّ مع اليوم غدًا/ جواد بولس

سجن مجيدو

|جواد بولس|

جواد بولس

من حين لآخر أختار أن أحرِّرَ مقالة ترصد بعض الأحداث أو الممارسات المتزامن وقوعها. أستهدف من هذا عرضًا مكثفًا لظاهرة مقلقة و/أو مستفزة، تكون تجلّياتها في مواقع مختلفة وبأساليب مغايرة، بيد أنها تصب كلها في “المحقان” ذاته وتقطر سمًا يرسب، تأثيره بطيء ومفعوله طويل!

كلكم تمرّون بمحاذاته. موقع لا يستثير أيّ شعور مغاير أو غير عاديّ. على هضبة غير مرتفعة. أسوار تحيط منطقة مخفية، تسمح حتى للافتراض أنها تخفي منتجعًا ساحرًا ينساب مع ما يحيطه من حرش وأشجار خضراء.

“سجن مجيدو” اسم فيه من جلال تاريخ المنطقة وزيفه، ودليل لحائر لم يهتدِ بعد كيف تغتصب الجغرافيا ويحتفي إله القهر والعربدة. في حياتي المهنية زرته بعدد ما سقط من شعر رأسي وما ابيضّ، وبعد كل زيارة كانت تنتصب المهزلة/المأساة. سادة قوم وأشرافُه يدفعون أثمان عربدة أبناء النار، ضحايا ليالي “البلور” والقنص.

ألف أسير حرية فلسطينيّ لا ينامون لياليهم كما ينام الدوري وريحان مرج ابن عامر. ألف أسير فلسطينيّ، منهم اليافع والشاب والرجل والكهل والشيخ؛ فإله الرعد والبرق لا يأبه لبيولوجيا ولا للعنة شيب ذُل وعنفوان شاب يعضّ على النواجذ.

أصل في الساعة المحدّدة مسبقًا للزيارة. أسلّم بطاقتي وأنتظر خارج بوابة حديدية صمّاء منفِّرة. على مقعد خشبي بال وفي جو لاهب حارق أحاول أن أسلّي نفسي بعدّ السيارات العابرة على الطريق الرئيسي المحاذي. أصلي أن تتباطأ كليتاي وأن لا تدفع فضلاتها في تلك اللحظة.

أحاول آن أستعجل الضابط بلغة أمّي وأمّه ويطالبني بالصبر لأنه ينتظر من سيرافقني برحلتي إلى بطن المعاناة. الحرّ رهيب ومؤذٍ ولكن لا مفرّ فلقد وعدت عائلات من سأزورهم بطمأنتهم وعليّ أن أفي. بعد حين يصل مرافقي، سجّان وافد من بلاد لم تعد تطيقه أو يطيقها. لا يجيد العبرية ولا أجيد أنا الأثيوبية، يفاتحني ببعض الكلمات بالعربية ويطمئنني أنه يدرسها هنا لأنه يحب لغتنا! أجيبه بالعربية، لكنه يقاطعني مشككًا بأنني أسخر منه ومن حديثه.

يدخلني الضيف/المضيف إلى غرفة لقاء المحامين بالأسرى. أبدأ زيارتي للدكتور غسان. رجل  لون وجهه في سمار الظل الواقع بين “عيبال” و “جرزيم”، قامة متوسطة الطول كعمره. ثابت الملامح رصين إلا عندما تستحثه الطرفة يكشّف عن أسنان بيضاء سليمة.   أطمئنه عن بيته وأنقل له أشواقهم. يرد عليّ بثقة المؤمن وحنين زوج وأب. أخذوه من بيته وأخبروه بأمر اعتقاله إداريًا لستة شهور. لا تهمة ولا تحقيق. يدرّس موضوع علم النفس التربويٌ في جامعة النجاح. بلوعة واستهجان يعلمني بأنه فاتح القاضي العسكري وواجهه بعبثية ما تفعله سطوة الاحتلال وعجرفته: “الرومان حاكموا الحجر والشجر، لكنّهم أحضروا الشجر والحجر واسمعوهم التهم الموجهة إليهم وأعطوهم حق الدفاع”، هكذا يا أستاذ قلت للقاضي. هكذا قال وهو يعرف أنّ هذا لن يسعف ولن يفيد!

سمعت من “غسان” وأسمعته ما يليق بالمقام وواقع الحال لكنه “ذبحني” عندما أوصاني بأن أنقل اعتذاره إلى “معاذ” ابنه بشكل خاص. لقد اعتقلوه يومًا قبل ميعاد زفة العريس معاذ ولذا أجّلت العائلة الحفل مما جعله يشعر بالضيق والحرج. شرح وغصّة رجل خالطت كبرياءه. حاولت أن أخفف وتمنيت أن تكون الفرحة باثنتين قريبًا، فنظر إليّ وببسمة خجولة تمنى الخير وبريق دمعة أب حارقة تدحرجت، استثارتني فبدأت أتنفّس من ثقب إبرة ووعدته بالخير ووعدني بالصباح وبياسمين “جبال النار”.

لم تكن قصة الدكتور غسان مأساة “مجيدو” الوحيدة فعن أخواتها ومثيلاتها في “مجيدو” وإخوانه سأروي وأحدّث مستقبلًا. تركت السجن خائر القوى ومتعب النفس، هاتفت العائلات ونقلت التحيات والعزائم وأقفلنا على أمل وتمنٍّ أن يلتئم شمل ويطيب لقاء وتتم أفراح.

وصلت البيت لا أرى إلا الفرشة ملاذًا والأحلام ملجأ. لم أحظ بها. في البيت سمعت من ابني الذي عاد من رحلة استجمام أوروبية، أرادها نوعًا من توديع حياة اللهو والزمن المضاف ليبدأ تدريبه طبيبًا في أحد مستشفيات البلاد، ما لاقاه في ساعة العودة للبلاد من مهانة وإذلال وعربدة. وصل إلى مطار إحدى العواصم الأوروبية. انقضّ عليه “كلاب” الأمن الإسرائيلي واقتادوه إلى غرفة جانبية. بدأوا بتفتيش جسده بعد أن أجبروه على البقاء في ملابسه الداخلية. أمطروه بأسئلة سخيفة لم تنتهِ إلا بعد أن اقترب موعد إقلاع الطائرة. أخبروه بأنّ حقيبته في مكان آخر وبأنّها تمرّ عملية تفتيش جذرية. بعد أكثر من ساعتين أخبروه بأنهم أنهوا التفتيش لكنّه لا يستطيع مغادرة الغرفة إلا برفقتهم ومباشرة للطائرة. رفض ذلك واستمرّ في نقاشهم ومجادلتهم ومناكفتهم كما فعل طيلة ساعتين. أعلمهم بأنّه بحاجة إلى دورة المياه. عارضوه وحاولوا منعه فأخبرهم بأنه سيخلع بنطاله ويقوم بما تمليه حاجته وضرورة اللحظة في الغرفة أمامهم. استهجنوا وعارضوا وهدّدوا، لكنّه لم يتردّد وبدأ بحلّ أزرار بنطاله. بدا جديّا فخافوا أن “يفعلها” فوافقوا أن يذهب للحمام لكنٌهم أصروا على أن يرافقه أحدهم.

دخل واحتل مرحاضًا. بدأ المرافق المرحاضي بالتأفف واستعجاله. لكنّه ماطل وأطال الجلسة فطال انتظار المرافق وقصر صبره. حاول المرافق أن يضغط عليه لكنه أقنعه بأنه يحاول أن يضغط على أمعائه لكنّ العملية متعسّرة لما يعتريها من اضطراب و”نرفزة”! براحته أنهى وعاد. بطريق عودتهما سأله المرافق لماذا فعلت هذا لي؟ أجابه: إذا وترت امرءًا فاحذر عداوته/ من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا”، فماذا ينتظر من يزرع الحقد والمهانة والمذلة! أما علَّم التاريخ أن مع اليوم غدًا.

(كفرياسيف)

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>