ما يشبه الهذيان.. أو أكثر/ نائل بلعاوي

|نائل بلعاوي| أحياناَ… حين لا تعرف عمّا تبحث، حين […]

ما يشبه الهذيان.. أو أكثر/ نائل بلعاوي

|نائل بلعاوي|

نائل بلعاوي

أحياناَ… حين لا تعرف عمّا تبحث، حين يشتد حصار الصورة والفكرة والخبر المفتوح على ألف خبر، حين تصير القباحة منهجاَ ووسيلة للعيش والتفكير؛ هناك، في تلك الأحيان، وهي كثيرة وعصية على التفسير، تختار ما ألفته الروح من متع قديمة.. حالماَ بعودة المعنى إليك. بلحظة سحرية الإيحاء تكون أنت سيدها، فتدرك ما تريد وما تقول، وتكفّ -إذا استطعت- عن دور الأسير لهذه الصورة وذلك الخبر، وتهرب من دور الضحية/المتلقي الأبدي للفكرة. لا لتدخل طور إنتاجها المرغوب، تلك غواية أخرى لا تجيد شروطها. بل لترجع، مثل قطٍ جائع، إلى البذرة الأولى.. أصيلة العمق والنبع، شهية الإبعاد. فربما تعود، من هناك، أنت؟

إلى المتع القديمة والأليفة ترجع باحثاَ عن شاعر لم ينل حظه من وقتك المهدور بما ألفت. تقرأ من جديد ما تحبّ من القصائد. تحاول، مرة أخرى، قراءة ما تبقى من فصول رواية لم تعجبك. تشاهد آخر الأفلام. وتسلم كل ما لديك من حواس، لفتنة الإيقاع والمقام والصوت الجميل. وقد تنام؛ يأخذك الموت المؤقت ساعاتٍ إلى اللاشيء، إلى حلم ستفشل، حين تصحو، في استعادته. وتفشل في الهروب مجدّدًا من طامة الأخبار والصور الكئيبة، من حقيقة أنّ ما اشتهيت وانتظرت غيابه، لم يزل.. كما كان، قبل انصرافك للغياب.. لم يزل ذاك الممثل الفعلي لكل أشكال القباحة يذرع الصحراء، مثل الموت، بحثاَ عن ضحايا الوقت والأوهام واللعنات والأديان والفكر السخيف، ويهذي، بين ضحية وضحية ستتبعها، بجنون قوته وبحقه الأزلي، إلهي السطوة، في السيادة والتسيد.

تصحو، لتعرف مرة أخرى، بأنّ مخلوق ليبيا العجيب (انصهار الأنظمة القبيحة في شخص واحد) لا يزال هنا، لا تزال عباءة ما قبل التاريخ واللغات، تلقي بظلها البدائيّ على قطعة جميلة من الجغرافيا وتصادر سحرها. وكأنّ الموت، سيد النهايات جميعها، يؤجّل المرة تلو الأخرى، ولحكمة خفية لا تدركها، ضربته الأخيرة الأنيقة، هناك، ويطيل من عذابك..

تصحو، وترى الفواجع تنهمر في مفردات وسائل الأخبار وفي الصور. عاد الإله من مشفاه إلى اليمن… أو لم يعد… قد يعود غداً… وربما يسمح، من منفاه في جوف الظلام، لليمني بموت عاديٍ. وربما يعترف، إن عاد أو لم يعد، بشروط الوقت. القباحة والبلاهة تصعدان إلى السماء الداكنة، وأنا أفتش من جديد عن حكمة الموت الخفية، عن هذا المُؤجل الحتمي، وأنتظر.

أنت تهذي الآن. تعود من نوم عميق، إلى سديم مصادر الأخبار وتنتظر ما لا يجيء، فكل ما تأتي به الأقمار والشبكات والصحف الرّديئة، لا يقول بما تريد. لا يخفف من قباحة كلّ شيء، ولا يزيح عن سماءات الأمكنة التي أحببت سحابها الأسود.

تهذي وتهذي، والسحاب الأسود الوحشي يمعن في الكثافة، يعتلي درج السماء ويحتويه، ويسدّ نافذة القمر: أمل الشفاء الأخير من عتمة العقود والقرون الماضية. قمر الحياة الوحيد، مجاز البقاء والتكوين واحتمال الغد. تهذي، ونوافذ البيت القليلة مغلقة، ونوافذ الأمكنة البعيدة/القريبة مثل رمش العين مغلقة وعصية على التطويع.. فالقتل في المرصاد، سلخ الجلد وقطع الأعضاء في المرصاد. كهوف ما تحت الأرض وما فوقها، تلك المعدة للحجز والذبح في المرصاد.. كل ما وصلت إليه فنون القباحة وانهيار الآدمي، هي الآن هناك، في الشام، في المرصاد.

لا شيء يدعو للفرح، في هذا الصباح الصيفي النادر، أو يدل عليه: يسلخون الجلد عن لحم الضحية… يفتكون بفرصة العيش الأخيرة… يرجمون البلاد بأنواع القذائف وحاصدات الموت، ويهتفون صباح مساء بتحفة “الوطن الموحد” والصمود… ويهتف المثقف (حاصد الأفكار وسيد التأويل) من خلفهم. يمتطي فرس الحداثة/ بديل الحمار الشهير لدون كيشوت، ويذهب في رحلة البحث البنيوية عن رمزية الفعل الاستثنائي المعنى، ذاك المتمثل في سلخ الجلد عن الجسد، على اعتبار أن الجلد هو الفكرة والجسد هو المصدر، كما سٌلخت الأساطير الشرقية عن منابتها الإغريقية، وتأثير ما تقدم على نفي أوفيد (سلخه) من روما إلى رومانيا الحالية ليكتب (التحوّلات). وقد يذهب المثقف الأكثر قدرة على التحليل -بحكم اجتهاده المعرفيّ- بعيداَ في قراءة واقعة قطع العضو الذكري ومطابقتها -بجدلية الخصب والقحط- كنعانية الجذور.

وأنت تهذي الآن. عليك أن تهذي فقط، أن تعود إلى المتع القديمة حالماَ بمفردات لا تثير الرعب: “الوطن. الصمود. المثقف. مكائد التابو.” فقد تنسى هناك، ما تود أن تنسى. وربما تنام، وقد تصحو، إن صحوت، لتعرف مرة أخرى، بأنك لم تزل في ظل ذات الجدار… ذات الوجوه والصور القبيحة، وأن الموت يمد لسانه إليك.. ويضحك عالياَ، منك أو عليك، ومن شغف انتظارك.

(فيينا 2011)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>