أمكنة لم تكتمل بذكرياتها، وذكريات لم تكتمل بأمكنتها

|سليم البيك| انتبهت لأمرٍ مؤخراً، وبات يقلقني كلّما فكّ […]

أمكنة لم تكتمل بذكرياتها، وذكريات لم تكتمل بأمكنتها

|سليم البيك|

انتبهت لأمرٍ مؤخراً، وبات يقلقني كلّما فكّرت به بشكل جدّي أكثر: علاقتي بالأمكنة، إذا كان ثمّة علاقة.

ولدت وكبرتُ في أبو ظبي؛ عشت في أحد المخيمات في سوريا فترة تكوين وعيي الثقافي والفكري؛ رجعت للعمل في أبو ظبي ولا أشعر بالحنين –أقصد ذاك غير المحتمل- لأيٍّ من المكانيْن. انتمائي الأول أشعره تجاه مكان ليس لي فيه (أو له فيّ) ذكريات، مكان لم أزره، هو آخر مكان في العالم يمكنني أن أفكر، عملياً، في زيارته الآن -ولا أدري إلى متى- وهو في الوقت ذاته المكان الذي لن أفكّر لحظةً في زيارته –والعيش فيه- لحظةَ تمكني من ذلك لأني سأكون مسبقاً هناك.

سأقول إني أحسد، بكل ما في هذه الكلمة من غيرة، الفلسطينيين في الداخل، في أية منطقة من فلسطين، وأحسد بنسب أقل أبناء المخيمات خارج الوطن. لكلّ منهم مكان، له/لها فيه ذكريات حقيقية وعميقة ومفصّلة ولا تنتهي رواياتها. مطمئنين لحالة انتماء وجداني لمكان ما (وإن مؤقتاً بالنسبة لأبناء المخيمات). يمكنني الرجوع إلى المخيم لأعيش فيه، لكني تورّطت، لا ذكرى لي في المخيم سوى ما عشته في فترتي الجامعية وإجازاتي الصيفية التي كنت أقضيها، صغيراً، مع الأهل في سوريا، حتى أمكنة هذه الذكريات موزّعة بين حلب (بيت جدّي) ومخيم حمص (بيت جدّي الآخر).

الآن، لا أشعر بأيّ انتماء إلى أيٍّ من الأمكنة التي شكّلت جزءاً من ذاكرتي: الإمارات: أبو ظبي، دبي، سوريا: المخيم، حمص، حلب. وإن كان هنالك شعور طفيف بالحنين لا يصل حدّ النوستالجيا؛ وهو الشعور المركّب لدي حيث (فقط) أشعرها تجاه مكان لم أزره هو فلسطين، والجليل، وترشيحا تحديداً.

لا أدري ما قدرة هذه النوستالجيا على الإقناع بمدى مصداقيتها كون لا ذكرى مادية/ فعلية/ حقيقية، حصلت في مكان وزمان محدّدين معروفين، تكتنفها. لكني أكتفي بها تقنعني وحدي وتستولي على معظم تفاصيل وهموم حياتي ونصوصي، تقنعني وحدي ويكفيني.

انتبهت الآن فقط إلى أنّ المكان في نصوص كتابي السابق هو هذا المكان التخيّلي المختلق الذي لم أعشه: الجليل قراه ومدنه. وأنه في نصوص الكتاب الذي انتهيت منه مؤخراً هو مكان مؤقت لا يخلق أيّ نوع من الانتماء أو الذكرى الباقية: مقهى، غرفة.. وأنه في النصوص التي أشتغل عليها: الجسد وتفاصيله.

أتمنى أن لا يكون الأمر بهذه الفداحة.

لا أشعر بالحنين إلى المخيم، انقطعت عن زيارته لأربع سنين ثم زرته ثم رجعت إلى أبو ظبي ثم لم أزره الصيف الذي تلاه، زرت أماكن أخرى، وهأنذا سأزور أماكن جديدة هذا الصيف، ولا أشعر بذلك الحنين المُلح تجاه المخيم (ولا أي مكان آخر)، فلم تتشكّل لي ذكريات بتلك القوة فيه “بعد” (ولا في أي مكان آخر)، وقد فاتتني تلك الذكريات الآن، ولا فرصة لتشكيلها بأثر رجعي.

الحقيقة، لا أشعر تجاه أي مكان على هذا الكوكب، بانتماء وحنين طبيعيين وحقيقيين، كأي إنسان طبيعي على هذا الكوكب.

لا أشعر بالحنين إلى أبو ظبي- فأنا مستعد لتركها والعيش في أي مدينة أخرى. إلا أني سأفتقد عائلتي الكبيرة والمتشعّبة هنا، وكمّيات الكتب والأفلام الكبيرة التي لديّ، لا المكان، لا تفاصيل وطرقات المدينة.

انتبهت مؤخراً بأنّ ليس لي جذور في أيّ مكان، جذوري أحملها على كتفي وأمشي بها. لا أدري إن كان فعلاً “وطني حقيبة”، وأني سأُبقي جذوري على كتفي إلى أن ألقي بها على تراب ترشيحا الأحمر وعشبها الفستقي وحجارتها البيضاء. لن أستطيع خيانة هذه الأشياء الجميلة، القاسية، البعيدة، شبه الحقيقية.

أعرف أنّ الكثيرين يشاركونني هذا القلق: لاجئون ومنفيون فلسطينيون وغير فلسطينيين لم يستطيعوا تشكيل انتماءات لِـ -وذكريات في- أماكن يعشقونها، ولا في تلك التي يشعرون بالفتور تجاهها. لكن الأمر يقلقني حين أنتبه بأني أحد هؤلاء، بأني لست ضمن ملايين الفلسطينيين الموجودين الآن في فلسطين، أو في المخيمات، أو حتى في شتاتهم وقد استقروا منذ زمن، حيث شكّل كلّ منهم انتماءاته وذكرياته وقد تصالح مع -واستقرّ في- ذلك.

وأعرف بأن ما أملك من ذكريات وانتماءات، يشوبها بعض تشويهات خلقية قد فات أوان تصحيحها.

وأعرف الكثير من الأمور القاسية في هذا العالم.

(www.horria.org)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>