آرتو والبحث عن مسرح خالص/ محمد سيف

… |محمد سيف| “أنا أكتب للّذين لا يقرأون ولا […]

آرتو والبحث عن مسرح خالص/ محمد سيف

أنتونان آرتو. في أعقاب المسرح الشرقيّ

أنتونان آرتو. في أعقاب المسرح الشرقيّ

|محمد سيف|

“أنا أكتب للّذين لا يقرأون ولا يكتبون”؛

“أن تكون مثقفا معناه أن تحرق الأشكال لكي تربح الحياة”

أنتونان آرتو

يناقش أنتونان آرتو في كتابه “المسرح وقرينه” الذي صدر عام 1938، مسألة المسرح “الخالص”. ويحتوي هذا الكتاب على خمسة عشر مقالا مكتوبا بين 1931 و1936. عنوانه غاية في الأهمية ويحيل إلى العديد من المعاني والدلالات: المسرح وقرينه.

كتب آرتو، من الباخرة التي أقلته إلى المكسيك في 25 كانون الثاني/ يناير سنة 1936 إلى جان بولون(1) ليقول له: “أعتقد أنني وجدت العنوان المناسب لكتابي. وسيكون “المسرح وقرينه”، لأنه إذا كان المسرح قرينا للحياة، فالحياة قرينة بالمسرح الحقيقي”(2). ومع ذلك، فعندما يستدعي آرتو القرين، فإنّ هذا المصطلح لا يعني انعكاسًا بسيطًا للواقع. يقول: “يجب أن نعتبر المسرح قرينًا، لا لذلك الواقع اليوميّ المباشر الذي أصبح، شيئا فشيئا، مجرد صورة جامدة منه، بل قرين لواقع آخر نموذجيّ وخطير”(مجلد 4 ص 46). وقال أيضًا: “هناك ما بين المسرح والحياة فصل سخيف”(مجلد 4 ص218)، ويضيف: “إذا كان المسرح قد فقد منذ فترة طويلة كلّ اتصال مع الواقع، فبإمكاننا أن نحيي هذا الاتصال”(مجلد 4 ص227)؛ أو: “ليس الفنّ محاكاة للحياة، بل الحياة هي محاكاة لمبدأ مُتعالٍ يضعنا الفنّ في تواصل معه”(مجلد 4 ص242).

“يجب أن نعتبر المسرح قرينًا، لا لذلك الواقع اليوميّ المباشر الذي أصبح، شيئا فشيئا، مجرد صورة جامدة منه، بل قرين لواقع آخر نموذجيّ وخطير”

هذا هو الشيء المعقد في أفكار آرتو، ولكن، إذا كان المسرح لا يعرض ولو جزءًا بسيطًا من الواقع، فماذا يشاهد المتفرج على المسرح بعد ذلك؟ ولتوضيح هذه النقطة، لا بدّ لنا من مقارنة أفكار آرتو التي تتعلق بالمسرح الشرقيّ والمسرح الغربيّ. لهذا نقترح أولا معرفة حدود المسرح الغربي. ثم سندرس بعد ذلك إمكانية المسرح الشرقي، لكي يتسنى لنا تحديد معنى المسرح الخالص لدى آرتو.

حدود المسرح الغربي

نحن نعلم أن آرتو تأثر ببعض الثقافات الأجنبية، مثل الثقافة المكسيكية والباليه، مثلما نعلم أيضًا أنه لم يتوقف عن انتقاد المسرح الغربيّ والإشادة بالمسرح الشرقيّ. ما هي عيوب المسرح الغربيّ؟ يجب أن نتصدّى لمسألة اللغة، التي تقع في مركز بحث آرتو. فعدم ثقته باللغة يظهر في مقدمة “المسرح وقرينه”: “يعني تحطيم اللغة من أجل لمس الحياة، وصنع المسرح أو صنعة ثانية”(مجلد 4 ص14). لماذا ينبغي تحطيم اللغة من أجل القيام بصنع المسرح؟ لأنّ اللغة لا تمتلك الخصائص المسرحية التي يبحث عنها آرتو، كيف “يترك -على الأقل- المسرح كما نعرفه في أوروبا، في مركز ثانويّ كلّ ما هو مسرحيّ بحت، أي كلّ ما يخضع للتعبير، بالكلمات، أو إذا شئتم، كلّ ما لا يشتمل عليه الحوار”(مجلد 4 ص35.) يوضح هذا الاستشهاد أنّ العناصر في المسرح يجب أن تكون حرة: كلام، كلمة، وحوار. ويلخص آرتو سمة المسرح الغربي في تفوق الكلمة: “الكلمة في المسرح كلّ شيء بالنسبة لنا، ولا وجود لأية إمكانية خارجها”(مجلد 4 ص66). إنّ حدود المسرح الغربي تكمن في اعتماده على الكلمة بشكل مفرط. لماذا تقوم الكلمة دون غيرها بتحديد وتقويض المسرح؟ يحلل جاك دريدا أفكار آرتو بدقة في “مسرح القسوة وحدود التمثيل”. إنه يُسمّي ستّ موضوعات ليس لها علاقة بمسرح القسوة. فهو يعتقد أنّ الجوهر العميق لمشروع آرتو وقراره التاريخي-الميتافيزيقي، أنه أراد مَحْو التكرار بعامة: “كان التكرار في نظره أصل الدَّاء، ويمكن بلا شك أن ننظم قراءة كاملة لنصوصه حول هذا المحور”(3). لكنّ الكلمة تحتوي بالفعل على تكرار الحروف، لأنّ الكلام ينتمي إلى النظام اللغوي الذي يجب أن يكون المعنى فيه معروفا، وأن يبقى هو نفسه. إذًا، إنّ رفض التكرار في المسرح يكاد أن يكون مستحيلا طالما يتدخل فيه الكلام.

لماذا ينبغي تحطيم اللغة من أجل القيام بصنع المسرح؟ لأنّ اللغة لا تمتلك الخصائص المسرحية التي يبحث عنها آرتو


أنتونان أرتو

يظهر موقف آرتو ضد الكلمة، أيضًا، في عملية الكتابة. وسنقدم تعريف آرتو للحوار: “الحوار  -المكتوب والشفويّ- ليس ملكًا للمسرح خاصة، إنه ملك الكتاب” (المجلد 4 ص36). ويقول في رسالة موجّهة إلى كريميو 1931: “يُخيل إلي أنّ على المسرح -هذا الفن المستقلّ- إذا ما أراد أن ينبعث أو ببساطة أن يعيش، أن يؤكد وبوضوح على المسافة التي تفصله عن النصّ وعن الكلام الخالص وعن الأدب، وجميع الوسائل الأخرى المكتوبة والمثبتة” (المجلد 4 ص102). إنّ عملية الكتابة تستند على وضع النص. وبالنسبة لآرتو يكمن جوهر المسرح في الحركة الملائمة. ويذكر في كتاب “المسرح والآلهة”، الذي صدر في عام 1936: “فالمسرح الحقيقيّ مثل الثقافة، لم يكن مكتوبا أبدًا”(المجلد 8 ص165). يتهم آرتو اللغة إلى حدّ قوله: “أنا أكتب للّذين لا يقرأون ولا يكتبون”. ولكنه لا يجرؤ على التخلي عن اللغة. وبدلا من تقييد إمكانيات المسرح، يحاول توسيع لغة الخشبة وإدخال لغة جديدة، مستقلة عن الكلمة قائمة بذاتها: “أقول إنّ خشبة المسرح مكان ماديّ ملموس يطلب منا أن نملأه، وأن نجعله يتكلم لغته الملموسة”(المجلد4 ص36). أين توجد هذه اللغة الجديدة التي تناسب المسرح الذي يختلف عن الكلمة؟ إنّ آرتو يبحث عن هذه اللغة في المسرح الشرقي.

إمكانية المسرح الشرقي

شاهد آرتو في عام 1931 مسرح بالي في باريس في معرض المستعمرات. وقد أتاحت له هذه الفرصة تعميق أفكاره المسرحية، وبشكل خاص تلك التي تتعلق في إمكانية الطعن في هيمنة الكتابة. ويحوي كتاب “المسرح وقرينه” مقاليْن يخصّ فيهما الثقافة الشرقية: “عن المسرح في بالي”، المكتوب العام 1931، و”المسرح الشرقيّ والمسرح الغربيّ” المكتوب العام 1935. إنّ المعارضة بين المسرح الغربي والشرقي في منطق آرتو تعتبر واضحة؛ فالثقافة الغربية تعتمد بشكل مفرط على الكلمة، في حين تمتلك الثقافة الشرقية وسيلة أخرى للتعبير على المسرح، وهي اللغة الجسدية: “أعطانا اكتشاف مسرح بالي فكرة مادية، لا كلامية، عن المسرح، حيث يظلّ المسرح داخل حدود كلّ ما يمكن أن يحدث على الخشبة، بغضّ النظر عن النصّ المكتوب، في حين أنّ المسرح كما نفهمه في الغرب متفق مع النصّ ومحدّد به”(المجلد 4 ص65). وقد اتجهت عيون آرتو نحو إمكانية القيام بمسرح يكون خارج النصّ: “كلّ ما أعتبره مسرحيًا في المسرح يُسمى بإهمال فنًا، عندما يُوجد خارج النص”(المجلد 4 ص 39).

“يُخيل إلي أنّ على المسرح -هذا الفن المستقلّ- إذا ما أراد أن ينبعث أو ببساطة أن يعيش، أن يؤكد وبوضوح على المسافة التي تفصله عن النصّ وعن الكلام الخالص وعن الأدب، وجميع الوسائل الأخرى المكتوبة والمثبتة”

سنعرض هنا بعض التناقضات بين المسرح الشرقيّ والمسرح الغربيّ: الأول يعتمد على النزعات الميتافيزيقية، والثاني يعتمد على النزعات النفسية؛ الأول يعتمد على الحركات والإشارات والوقفات والأصوات التي تتكون منها لغة الإخراج والمسرح، في حين أنّ الثاني يعتبر الكلمة كلّ شيء. وقد سبق لنا وأن قدّمنا بعض العناصر التي تعتبر “غير مسرحية”: الكلام، الكلمات والحوار، على عكس لغة المسرح الشرقي التي تتيح إمكانية إنشاء نظام جديد لا ينتمي إلى نظام الخطاب، الذي يأخذ مكانه الوحيد على خشبة المسرح، لغة شرقية نستخلصها من: “متاهة من الحركات والوقفات والصرخات المنطلقة في الهواء، وبعض التحركات والخطوط المائلة التي لا تدع جزءًا من الفضاء المسرحيّ من دون أن تستخدمه، كما نستخلص معنى لغة جسمانية جديدة أساسها الإشارات لا الكلمات”(مجلد 4 ص52). يقدّر آرتو الكفاءات البدنية المتوفرة في المسرح الشرقي، وهذه اللغة التي تحتوي على نوعيْن من التعبير: البصريّ والسمعيّ. إنه يفضل الشكل البصريّ على الكتاب في المسرح، ويستبدل الكتابة بالحركات والإشارات. وإذا جرّدنا المسرح من الكلمات، لم يبقَ أمام الممثلين إلا أن يعبّروا بأجسادهم. يتعلق الأمر هنا باستبدال اللغة الناطقة بلغة مختلفة الطبيعة، تتساوى إمكانياتها التعبيرية بلغة الكلمات: “علينا أن نعثر على نحو هذه اللغة الجديدة، الحركات مادتها ورأسها، وألفها وباؤها، إذا شئنا. وهي تبدأ من ضرورة الكلام أكثر مما تبدأ من الكلمة المكوّنة سلفا. وإذا وجدت في الكلمة طريقا مسدودا، تعود إلى الحركة تلقائيا”(مجلد 4 ص106).

يواجه آرتو هذا “الطريق المسدود” في محاولته لتحويل الكلمة حتى تتمكن من التعبير أكثر بعد ذلك. إنه يعيدها إلى الحركة، ويقترح عليها طريقا جديدة. كما نلاحظ التعبير الذي يستخدمه عندما يقول: “علينا أن نعثر على نحو هذه اللغة الجديدة”. أي أنّنا سنحقق من خلال الحركات لغة لا زلنا لم نعثر على قواعدها النحوية. لهذا يلغي الرجوع إلى الكلمة ويخترع لغة بدنية لا يمكن أن يكون لها معنى خارج الفضاء المسرحيّ. وفيما يتعلق بالإشارات، يكتب آرتو في مقاله “الإخراج والميتافيزيقا”: “إنّ شكل هذا الشعر الفضائيّ (…) يوجد في لغة الإشارات. وآمل أن تتاح لي فرصة الحديث عن الوجه الآخر للغة المسرحية الخالصة، تلك التي تفلت من الكلمة، لغة الإشارة والحركة والوقفة، كتلك التي في البانتوميم غير الفاسدة”(مجلد 4 ص38). إنّ مفهوم الإشارة عند آرتو يعتمد على اللغة البصرية التشكيلية، وليس على كونها تمثل دائما شيئا ما. فهو واقع تحت تأثير وسحر مسرح بالي، لذلك يعتبر جسد الممثلين مثل الإشارات: “إنّ هذا العرض الرائع يتألف من مجموعة صور مسرحية خالصة، تجعلنا نفهم لغة جديدة يبدو أنه قد تم اختراعها، ويبدو هؤلاء الممثلين، بأزيائهم الهندسية، وكأنهم حروف هيروغليفية حية ومتحركة”(مجلد 4 ص58). وفي مقال مسرح القسوة (المَنفيستو الأول)، يقول آرتو: “وبما أنّ المسرح قد وعى هذه اللغة في الفضاء -لغة الأصوات والصرخات والأضواء والكلمات التي تحاكي الصوت- عليه أن ينظمها، وبأن يجعل من الشخصيات والأشياء رموزًا حقيقية”(المجلد 4 ص87). أو في المَنيفستو الثاني: “ويمكن أن نقول إنّ روح أقدم الحروف الهيروغليفية ستشرف على خلق هذه اللغة المسرحية الخالصة”(المجلد 4 ص 120). ستكون الكتابة الهيروغليفية بلا معنى إذا كنا لا نعرف الرمز أو الشفرة. ولقد تحدث مالارميه عن راقصة واصفا حركاتها “بالكتابة الجسدية”(4)، وهنا يحول آرتو الشخصيات والأشياء إلى كتابة بلاستيكية بحتة، ذات قيمة تصويرية.

“علينا أن نعثر على نحو هذه اللغة الجديدة، الحركات مادتها ورأسها، وألفها وباؤها، إذا شئنا. وهي تبدأ من ضرورة الكلام أكثر مما تبدأ من الكلمة المكوّنة سلفا. وإذا وجدت في الكلمة طريقا مسدودا، تعود إلى الحركة تلقائيا”

إنّ الشكل السّمعي البديل للكلام، هو الترنيم والتعزيم. ولكن يجب أن لا ننسى أن آرتو يعتبر اللغة الواضحة لغة “غير مسرحية”. ولكن اللغة السّمعية، ألا تعتبر هي الأخرى لغة واضحة ومحكية؟ تجدر الإشارة هنا إلى جانبين من جوانب اللغة الواضحة: الصوت والمعنى. فالترنيم يشير إلى الاستخدام الخاصّ للصوت الذي يؤكّد على مظهره الصوتي: “ولا يمكن تعريف هذه اللغة إلا بإمكانيات التعبير الديناميكي في الفضاء، وهي تناقض إمكانيات التعبير بالكلمة داخل الحوار(…) هنا تتداخل النبرات، والطريقة الخاصة التي تنطق بها الكلمة”(مجلد 4 ص 86). كما إن الترنيم يطور لغة موسيقية انطلاقا من النطق المستقلّ عن المعنى المادي للكلمات. أما التعزيم فله استخدام أيضا آخر للكلمات؛ يكتب آرتو: “يعني صنع ميتافيزيقا الكلام المنطوق (…) يعني أخيرًا النظر إلى الكلام على أنه سحر”(مجلد 4 ص 44). يحاول آرتو استخدام اللغة للتعبير عمّا لا يعبر عنه بالعادة. وبيد أنّ التعزيم مثل نقطة النهاية لهذا العمل، يقول: “تستخدم هذه اللغة المسرحية الموضوعية المحسوسة في الإحاطة بالأعضاء وتثبيتها، بإحساس شرقي بحت بالتعبير. فهي تجري في الإحساس. وإذا نتخلى عن الاستخدام الغربي للكلمة، نجعل من الكلمات تعزيما. وندفع الصوت، ونستخدم ذبذباته وأنواعه”(المجلد 4 ص 88). إنّ التعزيم هو استخدام الكلمات التي تسمح بالتأثير بالعاطفة بقوة، بحيث لا يتوجه إلى الذهن وإنما إلى الحساسية. وهنا يجب علينا أن نتوقف عند كلمة “صوت”. فالصّوت لا يغادر أبدًا هذا الذي يتكلم هنا الآن، على عكس الكتابة المسرحية الموجودة خارج المشهد. إن آرتو يعطي تعرفيْن “للغة المسرحية الخالصة”، في مقال “مسرح شرقي ومسرح غربي”، كما أنّ طبيعة عناصر اللغة الشرقية تتلخص في هذيْن التعريفيْن:

= من ناحية، تجسيدًا مرئيًا تشكيليًا للكلمة؛

= لغة كلّ ما يمكن أن يُقال ويتم التعبير عنه على خشبة المسرح، بغضّ الطرف عن الكلمة، لغة كلّ ما يجد تعبيره في الفضاء، أو ما يمكن أن يبلغه الفضاء أو يحلله (المجلد 4 ص 67).

محمد سيف

محمد سيف

إنّ الحركة والترنيم والتعزيم هي محاولات ضدّ الكتابة وضدّ الكلام. ولكن إذا ما تشكل المسرح من عناصر لا معنى لها سيتحوّل إلى فضاء غير معقول. وهذا النوع من المسرح لا يبحث عنه آرتو. فهو لا يقبل بمسرح لا يتأسّس على الوظيفية الفكرية. لهذا فهو يكتب في عام 1925 مَنيفستو في اللغة الواضحة: “أنا أستسلم لحمى الأحلام، ولكن لاستخلاص قوانين جديدة… أنا أبحث عن التكاثر والدقة والعين الفكرية في الهذيان، وليس التنبوء المقامر”(مجلد 2 ص 52). كما يتهم الإبداع السهل المصنوع من اللاوعي أو المصادفة. لذلك يجب إعادة بناء مسرح جديد، مسرح خالص.

حول المسرح الخالص

سبق لنا وذكرنا ما يعنيه المسرح “الخالص”. إنه يتكوّن من عناصر مثل: الحركة، الصراخ، الترنيم، التعزيم، وباختصار شديد: كلّ ما ينتمي إلى المسرح الشرقي. وبالإضافة إلى ذلك، يعترف آرتو نفسه بوجود إخراج مسرحي خالص في مسرح بالي. ولكن يجب أن لا نكتفي بقائمة خصائص المسرح الشرقيّ؛ فماذا فعل آرتو الأوروبي لكي يعثر على المسرح المثالي؟

إن المسرح “الخالص” بالنسبة لأرتو هو مسرح قد انتهى مع اللغة ومع الكتابة، كما أنّ جوهره يكمن في الإخراج: “يختلط المسرح في نظري بإمكانيات إخراجه، وتنتمي هذه الإمكانيات بأكملها إلى مجال الإخراج، باعتباره لغة تتحرك في الفضاء”(مجلد 4 ص 44). وهذا يعني أنّ المسرح من خلال الفضاء والحركة يوفر حقلا مميزًا للإخراج.

لا يحتاج الإخراج إلا لفضاء واحد، وهو فضاء المسرح خارج النصّ. ستتخلص اللغة المسرحية هذه المرة من الكلمة من أجل بناء فضاء لغويّ مستقلّ، وهذا الفضاء لا يحتوي إلا على عناصر مسرحية فقط. سنقتبس عبارة دريدا: “إعادة تأسيس فضاء مغلق يعود إلى التمثيل الأصلي”(5). نجد هنا أنّ تعبير دريدا يبدو متناقضًا، لأنّ التمثيل يحتاج دائما إلى نموذج ينتسب إلى مكان آخر. وهنا يجد مسرح آرتو خصوصيته. ففي هذا “الفضاء المغلق” يتمّ تحويل الكلمة إلى “لغة المسرح الخالص”، وتبدأ في خلق معناها الخاصّ، الذي يُعتبر هامًا وبليغًا مرة وإلى الأبد على الخشبة: “ولندع نقد النصوص للحمقى ونقد الأشكال لعلماء الجمال، ولنعترف بأنّ ما قيل لا ينبغي أن يُقال، وبأنّ التعبير لا يُستخدم مرتيْن، ولا يحيا مرتيْن، وبأنّ كل كلمة ينطق بها كلمة ميتة لا تؤثر إلا في اللحظة التي يتم النطق بها، وبأنّ الشكل المستخدم لا يستخدم، ولا يدعونا إلا إلى البحث عن شكل آخر، وبأنّ المسرح هو المكان الوحيد في العالم الذي لا تتكرّر فيه الحركة مرتيْن”(مجلد 4 ص 73). فكرة أنّ المسرح لا يعيش إلا مرة واحدة، هي التحدّي والاعتراض الكبير في تاريخ المسرح الأوروبي ومسرح المحاكاة.

إن المسرح يتنبأ بتدميره عند تنفيذه “مرة واحدة”، لأنه كما يقول آرتو: “كل كلمة يُنطق بها كلمة ميتة لا تؤثر إلا في لحظة النطق”

إن المسرح يتنبأ بتدميره عند تنفيذه “مرة واحدة”، لأنه كما يقول آرتو: “كل كلمة يُنطق بها كلمة ميتة لا تؤثر إلا في لحظة النطق”. وبمجرد ما تولد الكلمة تذهب نحو الموت. ومع ذلك، فإن الحياة المسرحية التي تتحقق “إلا مرة واحدة” لا تخضع إلى تدمير وحشيّ. وهنا يأتي موضوع الحياة والموت. ينادي آرتو في المَنيفستو الأول بتحطيم اللغة من أجل ملامسة الحياة. إلى جانب هذه المحاولة، يختبئ الموت دائمًا. ويشير آرتو في كتابه “المسرح والآلهة” إلى التعايش بين الحياة والموت في الفضاء: “الثقافة في الفضاء تعني ثقافة فكر لا يكفّ عن التنفس والإحساس بالحياة داخل الفضاء، ويطالب بضمّ أجساد الفضاء إليه كموضوعات فكره نفسه، ولكن باعتبارها فكرًا متمركزًا وسط الفضاء، أي في نقطته الميّتة”(مجلد 8 ص 164).

في هذا النصّ، الثقافة مطابقة للمسرح. يقول آرتو على إنها حركة ذهابا وإيابا بين الحياة والموت: “إن الثقافة حركة فكرية تنتقل من الفراغ نحو الأشكال، ومن الأشكال تدخل في الفراغ، وفي الفراغ كما تدخل في الموت. أن تكون مثقفا معناه أن تحرق الأشكال لكي تربح الحياة. يتعلق الأمر بمعرفة كيف نقف مستقيمين داخل الحركة الدائمة للأشكال التي ندمرها على التوالي”(مجلد 8 ص 165). إنّ المسرح مثل الثقافة؛ إنه أحد المجالات التي نقاوم فيه التدمير المتوالي. بعد هذا الدمار، ما الذي يبقى على الخشبة؟ لا شيء سوى مصطلح “الخالص” الذي يُوحي بهذا العدم. إنّ آرتو يقارن المسرح بالطاعون: “والطاعون داء أسمى لأنه أزمة كاملة لا يبقى بعدها سوى الموت أو أقصى التطهير، وكذلك المسرح داء، لأنه التوازن الأعظم الذي لا يُكتسب بلا هدم”(مجلد 4 ص 341).

في المرحلة الأخيرة للطاعون، يوجد “التطهير” الذي لا نتمكن من الحصول عليه إلا من خلال الموت، من خلال تدمير له. وتأتي هنا ضرورة مقارنته بالخيمياء(6). يقول آرتو في مقاله (المسرح والخيمياء): “إنّ العملية المسرحية التي تسعى إلى صنع الذهب (…) تذكرنا في نهاية الأمر بالنقاء والمطلق المجرد، الذي لا يوجد بعده شيء”(مجلد 4 ص 49). وهنا تبدو المسرحة “الخالصة” مثل النقطة القصوى التي لا يوجد بعدها شيء، النقطة الأخيرة بين الحياة والموت، والمحافظة عليها والدمار. ويتوصل آرتو إلى اقتراح هذه النقطة الحاسمة من خلال تشييده لمكان مغلق توجد فيه حركة مستمرة تؤدّي إلى الدمار.

إنّ المسرح الخالص يصنع المشهد الذي تكون فيه اللغة معناها الخاصّ غير القابل للاستبدال والتكرار أبدًا. كما أنّ محاولة خلق المسرح الخالص، في نهاية المطاف، هي بناء فضاء مغلق حيث لا يتكرر فيه شيء.

_____________________________

إحالات:

1= جان بولون: هو كاتب وناقد ومحرر فرنسي، ولد في ديسمبر 1884 وتوفي في باريس  تشرين الأول 1968.

2= إن جميع الاستشهادات  الموجودة في هذا المقال، مأخوذة من أعمال أنتونان آرتو الكاملة (الطبعة الثانية)، دار نشر غاليمار الفرنسية.  ونحن نشير إليها في النص نفسه بذكرنا لرقم المجلد ورقم الصفحة. المجلد الخامس، صفحة 196.

3= جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، (مسرح القسوة وحدود التمثيل)، ترجمة كاظم جهاد، دار نشر توبقال، المغرب سنة 1988، صفحة 95.

4= ستيفان مالارميه، (بالية)، دار نشر غاليمار، مجموعة شعر، 1978، صفحة 192.

5= انظر جاك دريدا، مسرح القسوة وحدود التمثيل، المرجع السابق، صفحة 349.

6= الخيمياء، وهي الكيمياء القديمة، وكانت غايتها تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، واكتشاف علاج كلي للمرض، ووسيلة لإطالة الحياة إلا ما لا نهاية.

(مسرحي عراقي مقيم في باريس؛ muhamadsef@hotmail.com)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>