في مهرجان فلسطين الدولي للموسيقى والرقص رأيت غسان كنفاني/ زياد خداش

|زياد خدّاش| كانت الفكرة أن أكتب عن غسان، في ذكرى الرحي […]

في مهرجان فلسطين الدولي للموسيقى والرقص رأيت غسان كنفاني/ زياد خداش


سعاد ماسي في رام رام الله. "تلقائية ناعمة ورقص طبيعي"


|زياد خدّاش|

زياد خدّاش

كانت الفكرة أن أكتب عن غسان، في ذكرى الرحيل، فإذ بي أكتب عن قوة تعبير هذا المهرجان عن تمسك الحياة فينا، وتمسكنا في الحياة، لأكتشف أنني كتبت عن الحضور الكثيف لغسان بيننا. كان الهاجس أن أقول إنني لن أنسى غسان ما دامت شمس في سماء، فإذا بي أكتب عن شدة انتماء فكرة المهرجان إلى فلسطين تراثاً وأفقاً إنسانياً وجمالاً فنياً، فاكتشفت أنني كتبت عن استحالة نسيان غسان. كنت أريد أن أسال سؤالاً حارقاً أبدياً: يا الله، كيف ننتقم لمقتل غسان؟ فكتبت عن حب الفلسطينيين الكبير للفن على الرغم من كل ذكريات الجراح، وواقعها المستمر الذي سيصبح لاحقاً ذكريات، فإذا بي أجيب بما كتبته عن السؤال. كنت أريد أن أجدد حبي لغسان، فإذا بي أحب هذا المهرجان، وتحديداً دورته هذه الثالثة عشرة، فاكتشفت أنني ضاعفت حبي المتجدد لغسان.

لم يكن داعٍ لخطب ومقالات عاطفية وكلمات لإحياء ذكرى غسّان، كان يكفي هذا المهرجان: مهرجان فلسطين الدولي للغناء والموسيقى، الذي تتصادف فعالياته مع ذكرى رحيل المبدع الكبير، تابعت كل فعاليات المهرجان إلا فعالية واحدة، (ولأسباب قاهرة)، أمضيت وقتي متجولاً باستمتاع خلف سور عال يُطلّ على الجمهور المصفق بانفعال، والعاشق بنبل ووعي، كنت أريد أن أرى المشهد من فوق؛ لأراقب التفاصيل التي لا ينتبه إليها أحد، كدموع تسقط من عيني سيدة خمسينية تصفق وترقص بتمايل يصل حتى الأرض، كعفوية وهستيرية جسد شاب يكاد صوت ترديده للمقاطع الغنائية يصل إلى سماء الحنجرة، كستيني يقف معانقاً زوجته أو ابنته، كصحافي يدع كاميرته تسقط من يده ليصوّر بقلبه، كأطفال يرقصون وحدهم تحت أقدام الناس، من دون أن ينتبه إليهم أحد، حتى أهاليهم انفصلوا عنهم، فبدا المشهد وكأنه قيامة فرح عجيب.

رأيت غسان كنفاني في المهرجان، كان هناك؛ أقسم بأني رأيته: في بحة صوت إيمان حموري مديرة المهرجان، وفي ثقة ثوبها بها؛ في فاكهة صوت جيفارا ولغتها الصحيحة؛ في فرح المتطوّعة المواظبة الفلسطينية الرائعة (سبرنسا) وهو يمور على المنصة ارتباكاً حلواً، وعدم تصديق طفولي؛ في الأدب المرح لصوت جمال حداد، وهو يقدم إحدى الفعاليات؛ في ابتسامة خالد قطامش، وهي تطلب من الناس التراجع ضبطاً لفوضى قد تحدث وتداركاً لتبعثر قد يتسبب به تدافع الناس على المنصة؛ في وزن أسماء عزايزة الذي نقص، في تعبها الجميل وهي تدير إعلام المهرجان باقتدار ومسؤولية كبيرة؛ في الرّقص الجانبي للمتطوّعين والمتطوعات في الساحة العشبية خارج ساحة الغناء (كانوا يديرون شؤون المهرجان رقصاً)؛ في غياب الشجارات بين الجمهور، وبين المتطوعين والجمهور وبين المتطوعين أنفسهم؛ في التناغم المدهش بين طواقم المهرجان، فلم أرَ متطوعاً أو متطوعةً يركض بتشنج، أو يصرخ بغضب، كانوا يتنادون غناء، ويتنقلون من مكان إلى آخر ضحكاً، ويحلّون بعض الإشكالات باسمين مطمئنين واثقين.

رأيت غسان كنفاني في هستيريا فرح الجمهور المنضبط والمثقف، في نشيد بلادي بلادي، بصوت ايمان البحر درويش، في سحر رقصات الفلامنغو الأندلسية، ومهرجان الألوان في رقصات فرقة بافوتشي التشيلية؛ في غيتار سعاد ماسي وتلقائيتها الناعمة ورقصها الطبيعي واعتزازها الدافئ والإنساني بأعضاء فرقتها، ويدها وهي تمسح من تحت عينيها الندى؛ في إيقاع الأغاني الشعبية والثورية لفرقة “وسط البلد” المصرية؛ في الإبهار الدائم لفرقة الفنون الشعبية؛ في رقص مكادي نحاس المتشح بالخجل الحلو، في عناق باكٍ وسعيد لثلاث نساء ساحليات المصدر، تركن المهرجان نصف ساعة، ليقفن فخورات، جليلات الإحساس، أمام ضريح شاعر كبير اكتشفه وشجعه ولفت الناس إليه مبدع كبير هو غسان نفسه، وكأنهن قلن لمحمود درويش في وقفتهن تلك: جئنا نقول لك: ما زلنا نحب الحياة وفلسطين يا معلم حب الحياة وفلسطين.

يحق لمركز الفن الشعبي أن يفخر بإنجازه السنوي، تحديداً هذه الدورة من المهرجان، تستحق هذه الدورة بالذات أن تكون درساً لكلّ من يريد أن يتعلم فن إدارة المهرجانات. تستحق فلسطين أن تفاخر نفسها والأمم بقوة الحياة فيها وقوة الانتماء، وهاتان القوتان جسّدتا كأصفى ما يكون التجسيد في الدورة الـ13 من هذا المهرجان.

مزيداً من المهرجانات يا فلسطين، مزيداً من غسان، أراهم الآن أعداء وقتنا وشجرنا وحليبنا، وهم يتشاورون: لا أظن أننا قتلنا غسان، وأكاد أسمع صوت النساء الثلاث وهن يهبطن منحدر التلة، عائدات إلى المهرجان (إلى محمود درويش، إلى غسان كنفاني) وهن يتهامسن: لم يمت محمود درويش، لم يمت محمود درويش، لم يقتل أحد غسان، لم يقتل أحد غسان.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>