أبو عمّار/ هشام نفّاع

منهم من رمى الرجل بحركة إلغائية من طرف خنصره وهو يتمتم: “هو المسؤول عن وضعنا المأساوي”. وفيهم من اعتبره مفرّطًا، مهادنًا، مستسهلا، متساهلا، بل بائعًا لقضية شعبه.. ثم أتبعَ جواهره اللفظية القاطعة بمجّة طويلة من سيجاره المستورد أو وقفة ناعسة على ضفاف غليونه

أبو عمّار/ هشام نفّاع

 

ياسر عرفات في أيامه الأخيرة. "الاحتمالات هي إما شفاء عرفات وإما موته!"

ياسر عرفات في أيامه الأخيرة. "الاحتمالات هي إما شفاء عرفات وإما موته!"


|هشام نفاع|

hisham-qadita

مطلع تشرين الثاني 2004 كانت المؤسسة الإسرائيلية، بسياسييها وعسكريّيها وإعلامييها، على أحرّ من الجمر انتظارًا لوفاة ياسر عرفات.  جاءوا الليلة تلو الليلة بالأخبار المستعجلة عن الموت، لكنه ظلّ يراوغهم. وبلغ الأمر بأحد الصحفيين القول بغضب إن “عرفات ليس بسبع أرواح، بل بعشر أرواح”. الصحفي كان يحاور وزيرًا (سلفان شالوم) في حكومة تصرّفت يومها وكأنها تلقت مهاتفة من السماء حول “حلول ساعة عرفات”.. أو أنه كانت بحوزتها معلومات سريّة قد يمر وقت طويل حتى نعرف حقيقتها!

كانت التخبّط الإسرائيلي يتعثـّّر في اتجاهين: الأول شخصنة الصراع مع الشعب الفلسطيني وقصّه وقصره وتقليصه إلى شخص عرفات. والثاني افتضاحٌ اسرائيلي ذاتي لتعاطٍ غير عقلاني معه. فمثلاً: قائد المخابرات العسكرية حينذاك، الجنرال أهرون زئيفي، قال في اجتماع يُفترض أنه جدّي للجنة الخارجية والأمن البرلمانية إن تحليلات شعبة المخابرات العسكرية التي يديرها تفيد بما يلي: الاحتمالات هي إما شفاء عرفات وإما موته!

إكتشاف رهيب فعلا.. يا حبلى يا مش حبلى!

دولة إسرائيل المأزومة كانت تبشّر بـ “عهد ما بعد عرفات”. قباطنتها بشّروا بذلك الإسرائيليين المخنوقين في غيتو الخوف والعداء للغرباء، على “أرض الخلاص الموعودة”! الخلاصة التي كان مطلوبًا من الإسرائيليين فهمها دون استئناف أو جدال هي أن استحقاقات التسوية السياسية ستتغيّر برحيل أو ابتعاد عرفات عن مركز الحلبة السياسية. فهو “ليس شريكًا” بنظر الجنرال إيهود براك و”غير ذي صلة” بنظر الجنرال أريئيل شارون.. وكأنّ الاحتلال والاستيطان والقمع والسيطرة بالرصاص والدبابات على الشعب الفلسطيني هي قضايا ستبتعد مع ابتعاد “شبح” عرفات.

وفي تشرين الثاني المذكور،  قبل ست سنوات، رحل أبو عمار؛ رحل قائد المسيرة التي وضعت الشعب الفلسطيني وقضيته في أدفأ نقطة من الضمير العالمي. بكاه كثيرون وافتقده عديدون، وكان هناك من احتفل أيضًا. لكن الصلاة لرحيل عرفات لم تتمّ بالعبرية فقط. فقد كان من السهل (والموضة) ممارسة رياضة النفور من عرفات، باللغة العربية (ومنها الفلسطينية) أيضًا..  سالَ الكثير من الكلام المطهّم العاجيّ البارد والمغرور بحقه. كلام متذمّر نظيف من المسؤولية ومن معايير النقد الواجبة والضرورية (بشرط اعتماد النزاهة الفكرية)، ألقاهُ بعضٌ من حملة الألقاب؛ بعضٌ من حائزي الشهادات؛ بعضٌ ممن يمسخون السياسة، بكل خطورتها، لغوًا انفعاليًا وهرجًا ومرجًا؛ بعضٌ من هواة خوض السياسة “النظيفة”، فقط، بالـ ريموت كونترول؛ بعضٌ ممن يؤلفون المخزون الاحتياطي الوطني لأحد أعراض السلوك الاستحواذي، ممن يعون بشكل حاذق (ولضرورات الريزوميه) ضرورة الكلام الاستعراضي بالسياسة (في الوَساع)، كجزء من الرّتوش والاستعدادات الأخيرة للقفز صُعدًا في السلالم الاجتماعية المتبرجزة نحو التربّع على لقبٍ أو منصب أو صفة اعتبارية، تقتصر حقيقتها على ما يؤلفه لمعان النيون المزعج.
منهم من رمى الرجل بحركة إلغائية من طرف خنصره وهو يتمتم: “هو المسؤول عن وضعنا المأساوي”. وفيهم من اعتبره مفرّطًا، مهادنًا، مستسهلا، متساهلا، بل بائعًا لقضية شعبه.. ثم أتبعَ جواهره اللفظية القاطعة بمجّة طويلة من سيجاره المستورد أو وقفة ناعسة على ضفاف غليونه.
وسط سيل الكلام هذا قضى عرفات محاصَرًا يحاصر حصاره ومحاصريه، كما قال الشّاعر، رافضًا جميع عروض أنظمة الذلّ العربية إرسال هذه المروحية أو تلك له كي يغادر.
في تلك الأيام نعاه أهله الحزانى في مخيم البقعة للاجئين، فقالوا: “لقد ارتبط بالتاريخ الفلسطيني المعاصر.. هو قريب من الفلسطينيين، فلا عاش في قصور ولا في بيوت فارهة. عاش ومات وفيًا لمبادئه ومبادئنا كشعب فلسطيني.”
هذه الشهادة النبيلة الصادقة تكفينا، وتكفيه.

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. اعتقد ان المقال موضوعي جدا، وهو يخاطب من بعد واقعي… ولكن اذا نظرنا الى المعطيات السياسية نجد ان ما قدمه عرفات بصمة، – علما بانني ضد اوسلو قلبا وقالبا- عرفات شخصية مراوغة، ذكية، ولن اكون عاطفيا بالتعبير، انما كان فعلا ثوريا، استطعنا ان نستشف هذا الموضوع من موقفه الاخير الذي دفع حياته ثمنا له، مع لني التمس ان تصريحاته الاخيرة ايضا بانه يريدونه ميتا، مؤشر يعتمد على حدسه المعهود بان احد مما وممكن حوله سيتكون له اليد في تحقيق حلم السياسيين الاسرائيليين باغتياله، وحدسه كان مكانه.
    لن انكر بان عرفات كان قادرا على ادارة المشرق العربي كله، وليس فلسطين فقط، بالرغم مما خلفه لنا من جيل سياسي كئيب، متطرف، غبي…

  2. مع تقديري لهشام، علي أن أعبر عن انزعاجي من المقال. شخصية ياسر عرفات أقل ما يقال عنها أنها مثيرة للجدل، ولكن يشهد له أنه في النهاية مات اغتيالا.

    أما بعد، فان الاستخفاف من قبل الكاتب بالانتقادات لسياسة عرفات وتعامله مع الفصائل الأخرى، ونعت هؤلاء كمن “يحكون في الوساع” هي بعيدة عن الموضوعية، وهناك من الشخصيات السياسية التي لا تحكي بالوساع اطلاقا ومنها من هو في السجون ومنها من لم يعد معنا في هذا العالم، فمن ناحية الوساع ليس هناك وساع لكل من ينتقد عرفات، وتحويل انتقاد عرفات، وسياساته المثيرة للجدل، الى خطيئة كبرى هو أمر خطير جدا وعرفات هو رجل سياسة في نهاية الأمر، لم يكن كاملا متكاملا ولا معصوما عن الوقوع في المطبات.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>