أسمع الآخرين يتحدثون عن رائحة التراب في الشتاء الأول/ راجي بطحيش

ها أنا أسمع الديدان تتراقص صفوفا صفوفا فرحًا برطوبة التربة، ابتهاجًا بالمطر الأول، ولا أفهم: هل أنا من أخطا في حساب المسافة بين أسفل عنقك وهذا المعول؟

أسمع الآخرين يتحدثون عن رائحة التراب في الشتاء الأول/ راجي بطحيش


المطر الأول. رسم: أريئيل جولي

المطر الأول. رسم: أريئيل جولي


|راجي بطحيش|

raji-qadita

1

أسمع الآخرين يتحدثون عن رائحة التراب في الشتاء الأول، ولا أفهم: أأنا من أخطأ في حسابات شعائر القيظ أم أنّ النواحي الشعرية باتت مفتوحة الفرج لمن هم سواي فقط؟ أسمع الآخرين يتحدثون فيما بينهم عن رائحة الشتاء الأول ووجوب شرب زجاجة نبيذ أُخرجت لتوّها من قبو منسيّ –آه لحظة- ودلق أول رشفة منها على حلمة الحبيب وتذوّق الفرق، ولا أفهم: أأنا وحدي من يجلس بدل ذلك ويحسب كم تستغرق المسافة بدقة غير متناهية بين شجرة جافة تحتضر من الفناء والغياب وبين شجرة بدأت تحتضر هي الأخرى من شدة الفيض وزحام المرايا…

(لحظة) كما أنّ لا زجاجة نبيذ مناسبة في هذا القبو الذي ورثته عن ملاك متخفٍ، والزجاجة التي تستلقي فيه عصية على الفتح وقد تستدعي حسابات طويلة يكون المطر الأول قد مضى ندما خلالها وهجمت الشمس الحارقة بما فيها من سخرية سوداء ليعود المطر الثاني بعد أن يكتسب صفة “العالة”. ها أنا أسمع الديدان تتراقص صفوفا صفوفا فرحًا برطوبة التربة، ابتهاجًا بالمطر الأول، ولا أفهم: هل أنا من أخطا  في حساب المسافة بين أسفل عنقك وهذا المعول؟

2

أسمع الآخرين يتحدثون عن زحمة الأوراق المتراصّة على الرصيف بعد الشتاء الأول ولا أفهم أأنا من أخطأ في حسابات نظريات التساقط أم أنّ رياح الخريف تهبّ في نواحٍ لا تصطفّ فيها الأسئلة خيوطا متناسلة. أسمع الآخرين يتحدثون فيما بينهم عن قصائد الحبّ التي ترسمها الأوراق المتراصّة عند زحمة الرصيف بعد الشتاء الأول بيوم واحد، وأهمية تغطية جسد الحبيب بتلك الأوراق الرطبة الترابية كي يفرّ عفريت الغيرة إلى لا رجعة، ولا أفهم: أأنا وحدي من يجلس بدل ذلك ليحسب كم تستغرق المسافة اللازمة لاجتياز درب يبدأ بورقة واحدة متساقطة وينتهي بسيول من الندم لا تتوقف؟

(لحظة) كما أنّ لا قارورة زيت مسحور تستحقّ كلّ هذا الثمن في القبو الذي ورثته عن احتمال جدتي. أما القارورة التي تستلقي في زاوية التبوّل فهي تحوي رسالة نسخها صبيّ في الثامنة من كتاب “الموطن” موطنه؛ ها أنا أسمع الطحالب تتراقص دوائرَ دوائرَ احتفالا ببشائر الدمع، ولا أفهم: هل أنا من أخطأ في حساب المسافة بين إظفري وحوافّ ظهرك؟

3

أرى الآخرين يدوّنون أصوات المزاريب بنوتات موسيقية على الأرض الرطبة في الخارج بعد الشتاء الأول، ولا أفهم أأنا من أخطأ في حسابات هندسة الخشوع الشتائيّ المداهم أم أنّ سمفونية المزاريب تفوق صياح ديك آيل للذبح في تجريحها؟ أرى الآخرين يجلسون على مقاعد قديمة في حدائق الغياب وحدهم يعدّون الغيوم الرمادية المتدافعة من بين أنامل آلهتها ويبتكرون أحدث طرق الانتحار وأشجاها ليدسوها في أوراق بنية فاتحة لن يقرأها سوى ظلهم المالح، ولا أفهم: أأنا وحدي من يكتب نثرًا عن نغمات احتكاك السراويل بأفخاذ صلبة، طرية شقية تبحث عن مرتع ترتطم فيه بمرايا الدنس؟

(لحظة) كما أنّ لا غيم في القبو الذي ورثته عن رجل الصورة. في القبو صور لناس غابوا. غاب أكثرهم… لم يبقَ أحد بحقّ. في القبو شمعدانات لم يضع أحدٌ فيها شموعَ المطر الأول منذ قرون. وفي القبو ماكينة حياكة “سينجر” نسي الغازون إدخالها ضمن قوائم غنائمهم المعنوية. وفي القبو مقصّ شكلت فيه سيدة هيئة سحرها الأخير. وفي القبو دمية شقراء كنت قد نسيتها منذ عام 1982 هناك، ولكنها لم تتوقف عن ملاحقتي في كلّ قبو حللتُ فيه. في القبو صورة قديمة لعائلة اختفت على ضفاف بحيرة طبريا، ولا أفهم: هل أنا من أخطأ في حساب المسافة بين شهوتك وتقشر جلدي؟

(الناصرة)

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>