أمجد ناصر يصدر عمله الروائي الأول: “حيث لا تسقط الأمطار”

رواية يعود بطلها إلى بلاده بعد عشرين سنة من المنفى عاش خلالها رحلة تنتفي فيها الفروق، أحياناً، بين الحقيقة والخيال وبين الذاكرة والواقع • مقطع من الرواية يُنشر هنا في قديتا.نت بالتنسيق مع الكاتب

أمجد ناصر يصدر عمله الروائي الأول: “حيث لا تسقط الأمطار”

غلاف الرواية الصادرة عن دار الآداب

غلاف الرواية الصادرة عن دار الآداب

عن دار “الآداب” في بيروت صدرت للشاعر والكاتب الأردني أمجد ناصر رواية بعنوان “حيث لا تسقط الأمطار”، وهي العمل الروائي الأول لناصر الذي أصدر عشر مجموعات شعرية وأربعة كتب في أدب الرحلة، فضلا عن كتاب في السّيرة الشعرية والأدبية. ويشغل ناصر مهام المحرر الثقافي في صحيفة “القدس العربي” الصادرة في لندن.

تتحدث الرواية، التي وضع مقدمتها الكاتب اللبناني المعروف الياس خوري وتقع في 263 صفحة من القطع الوسط، عن عودة بطلها إلى بلاده بعد عشرين سنة من المنفى عاش خلالها رحلة تنتفي فيها الفروق، أحياناً، بين الحقيقة والخيال وبين الذاكرة والواقع (على حدّ تعبير الياس خوري)، وتشترك في ذلك بالخيط العام للأوديسة سواءً من خلال زمن الرحلة أو محاولات العودة الفاشلة أو عبر الندبة التي يظلّ البطل يتحسّسها كأنها هويته السرية.

في عمله الروائيّ الأول يستنفر ناصر كلّ مخزونه اللغويّ والتعبيريّ في كتابة سردية شديدة الإحكام صانعاً عالماً روائياً مختلفاً سواءً أمن حيث استخدامه للغة والمجاز أم الضمائر التي تتولى عملية السرد، حيث يهيمن ضمير المخاطب على جوّ الرواية جاعلا منها رواية متفردة على هذا الصعيد. ففيما يسود ضمير الغائب وضمير المتكلم في الرواية العربية يذهب أمجد ناصر نحو استثمار امكانيات ضمير المخاطب كاستراتيجية سرديّة مما يساعد على إضفاء طابع درامي على الشخصيات والأحداث.

يخترع أمجد ناصر مكاناً روائياً يسميه “الحامية” وهو مثال للمكان العربي، أو المكان في العالم الثالث، الذي يعيش كابوس القمع ومحوَ الشخصية الفردية وإذابتها في شخصية الزعيم القائد

يخترع أمجد ناصر مكاناً روائياً يسميه “الحامية” وهو مثال للمكان العربي، أو المكان في العالم الثالث، الذي يعيش كابوس القمع ومحوَ الشخصية الفردية وإذابتها في شخصية الزعيم القائد الذي ترى صوره وتماثيله في كلّ زاوية من ذلك المكان الروائي. والملاحظ أنّ ناصر اعتمد تغييب الاسماء، بل لا وجود لأسماء أمكنة أو حتى أشخاص في العالم الواقعي باستثناء أسماء شخصيات الرواية وذلك بغية خلق نموذج قابل، نسبياً، للتعميم.

كما ترصد رواية “حيث لا تسقط الأمطار” انهيار اليسار العربي وتكسر أحلام مثقفيه الذين التحق بعضهم بأجهزة النظام العربي في مواجهة الموجة الأصولية الصّاعدة التي بدأت، كما تشير الرواية، بتحالف مع النظام العربي في أكثر من بلد وانتهت إلى الانقضاض عليه.

في مقدمته للرواية يقول الياس خوري : “قد يجد القارئ في هذه الرواية حكاية عن النظام العربي، وعن نظام معارضته أيضاً، وهذا صحيح. فالمشرق العربي بأسره، عاش تجارب تحويل الوهم حقائق سياسية واجتماعية صارت راسخة. وأنا أستثني هنا مصر، لأنّ تاريخها الحديث مختلف، رغم أنها صارت الآن تشبه “الحاميات” الأخرى، في كلّ شيء تقريباً. هذه القراءة ليست خاطئة، وقد تكون ضرورية، كجزء من قراءة تحولات الوعي العربي، وفهم المتغيرات الكبرى التي قادت إلى انقلاب المفاهيم، في زمن صعود التيارات الأصولية”.

ويضيف الياس خوري في تقديمه منتقلا إلى مفصل آخر من مفاصل الرواية: “يفتح النصّ السردي أبوابه منذ اللحظة الأولى. رحلة عودة يونس، أو أدهم، إلى وطنه، بعد غربة امتدت عشرين عاماً، تشكّل مفتاح الذاكرة. نحن أمام ذاكرة تعيد تركيب الماضي، لا من أجل استعادته، أو رثائه، بل في وصفه مرآة للذات. يونس يقف أمام هذه المرآة ليجد أمامه شخصاً آخر. و”رلى”، لا تستعاد في وصفها حباً أبدياً لا يزول، بل تستعاد في وصفها أمّاً للانقسام الذي سيطاول ابن الراوي. يونس الذي تزوّج في الجزيرة بعد الرحيل الكبير من مدينة الحصار، سوف يسمّي ابنه بدرًا، على اسم الشاعر العراقي الكبير الذي يحبّ، وحين يعود إلى “الحامية”، سيكتشف أنّ “رلى” أطلقت على ابنها الأول الاسم نفسه، في لحظة تلتبس فيها العلاقات والمعاني، بحيث لا ندري هل يونس هو والد بدر الثاني، وهل انقسام البطل الى شخصيتيْن سوف يستمرّ في ابنين يحملان الاسم نفسه؟”

وعن العالم الشعري للرواية يقول خوري: “ليس من تقاليد المقدمات كتابة النقد، لكنني وجدت نفسي وأنا أقرأ هذا النصّ وأعيد قراءته ممتلئاً بالكلام عنه. وهذا ناجم عن سحر ما أحبّ أن أطلق عليه اسم “شعرية الرواية”.

شعرية الرواية، لا علاقة لها بما يمكن أن نسميه الرواية الشعرية، التي تحشو النصّ السردي بتأملات مشعرنة لا معنى لها. إنها نتاج نثر منضبط، يقتصد ويسترسل، كي يروي. وحين ينجح النصّ في رواية حكاياته، فإنه يفتح شهية القارئ على روايتها من جديد، وبأشكال متعدّدة. شعرية الرواية تفتح أبواب الحكاية التي لا نهاية لها، وتأخذنا في رحلة إلى عالم تنتفي فيه الفروق بين الحقيقة والخيال، وبين الذاكرة والحلم.

“مدينة اللاأين” التي يقع عليها القارئ عند أمجد ناصر هي المكان الذي يتقاطع فيه الخط العربي بالشعر، بالعودة الى اللامكان. أي أنها مكان روائيّ بامتياز، وإطار لا نرى فيه خيانة الأفراد وحيرتهم فحسب، بل خيانة الزمن، وتقلباته، ووحشية التاريخ”.

بلطف من الكاتب وبإذن منه، ينشر “قديتا.نت” مقطعًا من الرواية:

يقع المُجمّع الثقافي الذي عقدت فيه التظاهرة بجانب النهر. بالقرب منه عدد من المقاهي والحانات. كان الوقت عصراً. النهر الكبير الذي يقسم المدينة قسميْن يتلوى كجسد حَنَشٍ أمردَ. قاتم. غامض. تطفو على وجهه بعض نفايات الاجتماع البشري، تماماً، كما وصفها شاعر المدينة الشهير. رجال ونساء يحملون مظلات في أيديهم تحسباً لمطر قد يهطل في أيّ لحظة يعبرون في الاتجاهيْن من دون أن يلووا على شيء. لاحظتَ أنَّ “محمود” كان يطلق عينين نهمتين، فيما هو يتكلم إليك، وراء العابرات على نحو يخرق برتوكولات السلوك في المدينة الرمادية والحمراء. تلك العادة التي يضطر القادمون من عالمك إلى التخلي عنها، على مضض، بعد وقت من الإقامة فيها. فلا أحد، تقريباً، في المدينة الرمادية والحمراء يحملق في أحد، لا أحد، تقريباً، يصوِّب نظرات فاضحة إلى صدور النساء ومؤخراتهن. الأسوأ أن يطلق المرء نظراته تسعى خلف امرأة تجتازه. هذا فعل مستهجن تماماً. كنت تراهن، عندما ترى شخصاً يفعل ذلك، أنه قادم جديد إلى المدينة، وقلما خسرت الرهان. هذا لا يعني أنها المدينة الفاضلة. فالرذيلة، أيضاًَ، موجودة، ولها سوق وزبائن. الرذيلة سلعة معلبة. وهناك من يبيعها ويشتريها. كنت ترجع الأمر، عندما حللتَ فيها، إلى الرأسمالية نفسها التي تُسلِّعُ كل شيء بما في ذلك جسد الإنسان وأشواقه، ثم صرت تحار في تصنيفه، فاعتبرته، أخيراً، مزيجاً من التسْليع والعلل البشرية التي لا شفاء منها. لا تنكر أنك رأيت، في المدينة الرمادية والحمراء، أنواعاً من الشذوذ لم تسمع بها من قبل. لا تفزع، فلم تكن رؤية عيان، بل في المجلات المعروضة على الرفوف العليا في محال بيع الصحف (التي كنت تختلس النظر إليها، أحياناً). عرفتَ، من خلال تصفحك المضطرب لتلك المجلات، أنّ للأقدام والأحذية والثياب الداخلية والروائح العضوية نواديها، ولكلبشات الشرطة والخوازيق والمساطر وسلاسل العبيد من لا ينتشون من دونها. هل تذكر النائب البرلماني المحافظ الذي وجِد معلقاً على شجرة في حديقة عامة بملابس نسائية داخلية؟ نائب محافظ، من المنادين بصيانة القيم وتماسك العائلة يعثر عليه أناس الصباح المبكرون إلى عملهم مشنوقاً بثياب نسائية داخلية على شجرة؟ هكذا تساءلت. لكنك تتذكر موقفاً غريباً آخر حصل معك أنت تحديداً، ولكن ليس هنا. قد لا يكون شاذاً غير أنه بدا لك غريباً ولم تعثر، لحظتها، على تفسير له. الأهم أنه لم يصادفك من قبل. إنه يتعلق بالأرملة الشابة، زوجة أحد رفاقك الذين استشهدوا في مدينة الحصار والحرب. كنت قد ذهبت لتعزيتها في شقتها. فوجئت بالتحوّل السريع للموقف. من تربيتك على كتفها ووضع يدك، مواساةً، على يدها إلى ضمِّها لك بقوة، ثم بلهفة، ثم بقُبلٍ نارية، فخلعها ثياب الحداد السوداء كيفما اتفق في أرجاء الصالون الصغير. ليست النار التي اندلعت في جسدك مع تصاعد دراما الرغبة المفاجئة هي التي أثارت استغرابك، على غرابتها حينها، بل كلماتها المتحشرجة وهي تمسك عضوك الذي انتصب كخشبة. كلماتها التي تطالبك بالفعل الجنسي بأكثر ألفاظه مباشرة وسوقية. ربما بسبب تلك السّوقية التي طلعت من لحظة اختلطت فيها العواطف وانساقت في مجرى من الغرائز الخام صارت تبكي، بما يشبه الهستيريا، بعد فراغكما من ممارسة جنس محموم. جنس لا مقدمة له على الإطلاق، انجرفتما في تياره العاتي من دون وعي. فرحت تهوِّن عليها الأمر وهي تعتذر وسط دموع غزيرة قائلة لك: أرجوك لا تأخذ عني فكرة سيئة. ظلت تكرّر تلك الجملة حتى غادرتَ مثلما كانت تكرّر، وأنتما في حمى الانزلاق الغرائزي المفاجئ، طلب المضاجعة بكلمات لها رنين العهر في الأحوال العادية. لم تكن تلك الانزلاقة الغريزية المفاجئة مع زوجة رفيقك الشهيد نهاية المطاف. فعندما شعرت بالرغبة، مجدداً، في تلك الثمرة الغريبة، التي تدلت أمام فمك من غير توقع، عدتَ إليها. في الواقع أنت لم تنسَ تلك الحمحمة الجسدية الملتبسة. ولا تلك الكلمات السوقية. فقد أثارتك عندما استرجعتها ثانية. تلك السّوقية بالذات التي استنكرتها في داخلك لدى سماعك إياها أول مرة.

فالرذيلة، أيضاًَ، موجودة، ولها سوق وزبائن. الرذيلة سلعة معلبة. وهناك من يبيعها ويشتريها. كنت ترجع الأمر، عندما حللتَ فيها، إلى الرأسمالية نفسها التي تُسلِّعُ كل شيء

الذاكرة العجيبة أرجعت إليك، بلمح البصر، ذكرى أقدم بكثير. أغرب أيضاً. طفت من قعر ذاكرتك صورة ضابط في “الحامية” دفع لفتاة ليل في زيارة له إلى المدينة المطلة على البحر، قبل أن تنشب فيها سلسلة حروب متعاقبة، ثلاثمائة ليرة مقابل أن تتبول أمامه. فقط كي يرى ذلك السائل المصفر يدفق من فرجها، أو لكي يعرف، حسب تعبيره، بمَ يختلف تبول الرجل عن تبول المرأة.

بيدَ أنّ كل هذا شيء وما تواضع عليه السلوك العام في المدينة الرمادية والحمراء شيء آخر. سمِّه تهذيباً، ترفُّعاً، نفاقاً اجتماعياً. التسمية لا تغير حقيقة أنّ الحملقة والتطفل على خصوصيات الناس ليسا أمراً مستحباً في هذه البابل الصاخبة التي تمور بالسّحن القادمة من مختلف أرجاء الأرض، ويرطن في شوارعها وحاناتها وأنفاقها الأرضية مئة لسان ولسان، هذه الحاضرة المبذولة والمتعالية، السهلة والمعقدة في آن.

مررتما بكوكبة شابات وشبان يتناولون سندويشات، على الواقف، أمام مطعم للوجبات السريعة ويتضاحكون بخفَّة مُعدية. واضح أنهم خارجون من أحد المكاتب المجاورة. قال “محمود” وهو يشير بيده إلى الكوكبة المتضاحكة: كيف حال الغزو؟ لم تفهم أول الأمر. تجاهلت حركة يده السّمجة. لكنك فهمت، بعد قليل، معنى كلماته ومصدرها. كان يشير إلى قول شهير لبطل رواية قادم من عالمكم: جئتكم غازياً! فكَّرتَ، للحظة، بتلك الفحولة التي ينطوي عليها قول بطل الرواية الذي صنع من سريره أرضاً لمعركة تختلط فيها الغرائز والرموز والتناقضات الأبدية: الأبيض والأسود، الشبق والانتقام، الرمل والماء، التفوق والدونية، عطيل وديدمونة، القوة والضعف، القضيب والمبهل، الصهد والبرد، محمد والمسيح. سلسلة لا متناهية من ثنائيات لا تلتقي إلاّ على جانبيّ الهوَّة. علاقة مؤبدة في الصدام والمواجهة.  تجد أصل عللها، برأيك، في طبيعة الاستغلال وليس في طبيعة الانسان نفسه. فالشرق ليس شرقاً دائماً ولا الغرب غرباً دائماً ولا هما خطان متوازيان لا يلتقيان. العالم أكثر تعقيداً من سكة حديد.

تساءلت في نفسك: هل يتساوى غزو السّرير بغزو الأرض، القضيب بالإحتلال؟ ليس غائباً عن بالك تشبيه الاحتلال بالانتهاك، بالفضِّ، ففي لغتكم يقترن احتلال الأرض، أيضاً، بالاغتصاب. في هذا قد تنفردون بين الأمم. لا تعرف لغة تجعل الاحتلال نظير الهتك الجنسي غير لغتكم. لكنَّ بطل الرواية لم يطلق العنان لفحولته المنتقمة، المتشفية، لقطرة السّم الذي حقن به الغازي الحقيقي شرايين التاريخ، أمام مقرات السيادة والقوة وأقبية اللعب بالمصائر، بل في أسرَّة النساء اللواتي كن يتساقطن عليه كالذباب. يتساقطن عليه كالذباب! كدت تضحك وأنت تتذكر هذه الجملة. ثمة من كتب ممتدحاً غزوات البطل الروائي بهذا المجاز الدبق. واضح أنّ من كتب ذلك، أو تصوّره في خياله الجنسي المكبوت، لم يضع قدماً في المدينة الرمادية والحمراء. فأنتَ لم ترَ نساء يتساقطن كالذباب على القادمين من عالمكم ولا على غيرهم. هل حصل ذلك من قبل؟ في الزمن الذي لم تكن فيه سحنة كسحنتك قد شوهدت كثيراً في المدينة وصارت، كما يقولون، من حواضر البيت؟ أيام كان الشرق حِقَّاً من العنبر والبخور ومثالاً في الفروسية والشبق الظامئ في خيالٍ صنعت نسيجه الخرافي حكايات الرحالة والباحثين عن البكارة والبداوة وتلعثم اللسان؟ هل وجِدَت أسطورة كهذه فعلاً بين الناس هنا؟ لقد سمعت شيئاً من ذلك، حتى إنّ صدى هذه الأسطورة كان يتردّد بين شبان بلادك الذين لم يغادروا “الحامية” قط.

تذكَّرتَ الدفاتر العتيقة التي كان يُقلّبها صاحب لك جاء قبلك إلى هذه المدينة بزمن طويل. إنه يشبه، إلى حدٍ ما، بطل تلك الرواية. فهو ظامئٌ، شَبِقٌ، مولعٌ بالبياض والاكتناز، تسيل ريالته ما إن يرى سمانة ساق امرأة تمرُّ من جانبه. كان “الصياد” (وهذا لقب أنت أطلقته عليه من باب السخرية وليس اسمه) صاحبك الأثير في جلسات الشراب المتطاولة التي يكبحها جرس الحادية عشرة إلا ربعاً. لكن صاحبك لم يأتِ إلى هذه المدينة غازياً أو باحثاً عن انتقام، بل فارَّا، مع نخبة المال والسياسة في بلاده، من انقلاب عسكري. افتتح مطعماً يقدم مأكولات شرقية، ونال نصيباً من النجاح. عازبٌ دهريٌّ. كهل، لكن له همَّة الشباب. لم يخلط “الصياد” بين شبقه الذي لا يرتوي، حسب دفاتره العتيقة، وبين الانتقام الرمزيّ في جسد المرأة. لم يربط، على الأقل في كلامه لك، بين الاثنين. فالجنس بالنسبة له فعل حيوي وضروري. كالطعام. كالماء. تجدد دورة الجسد الحاجة إليه بلا انقطاع. دافع الجنس، ومرجعه، عنده هو الجنس نفسه، بل ربما لذة “الصيد”، قد يكون الكبت المزمن. لست واثقاً، تماماً، من الدوافع التي تتناوب في كلامه. كنت لا تصدق، أحياناً، حكايات قنصه من فرط سهولة الصيد. القنص والصيد والطريدة والعدَّة تعابيره الحرفية التي كنت تمجَّها وتردعه عنها لكنه لم يكن يرعوي، فيقول دعك من قشرة الثقافة والتهذيب المزيف. الصيد حالة انسانية أبدية حتى لو ارتدى الانسان أفخر الأزياء، فتحت البدلة والثوب والشَّعر المشذب هناك الصياد والطريدة، الذكر والأنثى، السالب والموجب! الرجل يخرج صباحاً كصياد والمرأة كطريدة. الرجل يشحذ سلاحه وينتضيه، والمرأة تعرض إغواء الطريدة المحصن بالمكر. كل حركاتنا اليومية قائمة، من دون أن ندري، على هذا الجذر الأزلي. كانت حكايات صاحبك هذا عن لياليه الحمراء تبدو لك فنتازيا. لكنك تعرف أنه لا يكذب. ربما يُبهِّر حكاياته لكنه لم يكن يخترعها. كنت تسأله: ماذا الذي حصل، إذًا، كي تمرَّ بنا الأعين ولا ترانا؟ أنظر. ها نحن نجلس منزويين في ركن معتم يفوح برائحة البيرة لا أحد يقترب منا ولا نقترب من أحد، كالمنبوذين أو المصابين بالجذام! ليس هذا ما كان يحدث في حكايات لياليك الحمراء؟ يجيبك: أنت، أولاً، لا تملك غريزة الصياد وعدّته. السياسة والثقافة لحستا دماغك وشوشتا حواسك. ثانياً، لقد جئت هذه المدينة قبلك بزمن طويل، في فترة كانت الحياة فيها أكثر استرخاء وأماناً وتبطّراً. لم يكن هناك هذا العدد الهائل من المهاجرين القادمين من كلّ بقاع الأرض. الأهم لم يكن هذا المرض اللعين قد عُرِفَ بعد. ستتذكر، لاحقاً، بل ستتذكر طويلاً، كلام صاحبك “الصياد” عن المهاجرين والأمراض والخوف من الغرباء. سترى في أنفاق المدينة الأرضية ملصقات كبيرة تقول بالحرف الواحد: لا تتكلم إلى الغرباء! كان صاحبك، ذو الدفاتر العتيقة التي يستعيد صفحاتها الذهبية في ركن حانة معتم يفوح بكمخة البيرة، قد قرأ، مثل معظم القادمين من عالمكم إلى هذه المدينة تلك الرواية التي يصرخ فيها البطل “جئتكم غازياً” بل يعرف كاتبها الذي كان يتردّد إلى مطعمه. فقد أخبرك أنّ لا شيء مشتركاً بين بطل الرواية وكاتبها، وهذا الأمر لم يعجبه، فقد ظن أنهما يتقاسمان شغفاً واحداً.

ستتذكر، لاحقاً، بل ستتذكر طويلاً، كلام صاحبك “الصياد” عن المهاجرين والأمراض والخوف من الغرباء. سترى في أنفاق المدينة الأرضية ملصقات كبيرة تقول بالحرف الواحد: لا تتكلم إلى الغرباء!

لكنك لم تأت الى المدينة الرمادية والحمراء كما جاء بطل الرواية. فلا وضعك الشخصي مثله، ولا زمنك زمنه. فهو جاء طالباً ومقطوعاً من شجرة في ذروة الزمن الكولونيالي. أنت جئت وزوجتك لاجئيْن سياسييْن في زمن الدولة الوطنية، بعد أن طالبت سلطات “جزيرة الشمس” مجموعتكم مغادرة أراضيها تحت ضغط من حكومة بلادك التي أرادت أن تضيق بكم الأرض ما أمكن لها أن تضيق، أن تبتعدوا عن سماء بلادكم  بقدر ما يمكنها أن تفعل ذلك، أن تعووا كالكلاب الضالة على أرصفة باردة وبعيدة. الفارق بينك وبين بطل الرواية ليس في الشخص والزمن، بل في الفكرة أيضاً. فكرتك عن نفسك والعالم مختلفة. فأنت لا تصدر من فكرة العوالم المنقسمة على نفسها أبداً، المتصارعة أبداً، التي لا تلتقي أبداً، بل من فهم آخر للتاريخ بوصفه مسرحاً للقوة والطبقات والاستغلال بصرف النظر عن لون البشرة وحجم الجمجمة والدين والختان والكتابة من اليمين إلى اليسار. هذه هي الفكرة التي جئت بها إلى المدينة الرمادية والحمراء. وهي فكرة مختلفة. يمكنك أن تسمّيها أممية. الآن تسمى طوباوية. اهتزّتْ فكرتك بسقوط نماذجها التطبيقية، وبالتقادم الذي يصيب الأفكار مثلما يصيب الواقع، بالطريق التي طالت وطالت، لكنها لم تسقط. لم ترد لها أن تسقط مثلما سقطت أشياء كثيرة على الطريق. كان يخيفك سقوط هذه الفكرة. لأنك، شخصياً، لا تملك بديلاً لها، ولأنّ بديلها، على المستوى العام، العوالم المنشطرة  أبداً، التي لا لقاء بينها إلاَّ في الميدان.

ولكن ماذا عن مصير ذلك الغازي الذي اتخذ من السرير أرضاً لمعركته الدونكيشوتية؟ لقد عاد إلى مسقط رأسه ليختفي تماماً. كأنه لم يكن. كأنّ صراعاته في الأسرَّة لم تكن سوى انتقام سريع، هش، سُجِّلَ في محضر الجريمة وليس في مدونة التحرر. لو أنّ الانتقام من الغزاة على شاكلة بطل الرواية لتمنى أحفاد القضاة والمحلفين الذين حاكموا ذلك البطل الجنسي أن يبقى كذلك، فما كانوا سيعرفون الأحزمة الناسفة والمقبلين على الموت كما يقبلون هم على الحياة. هذا هو شكل الانتقام الآن: أحزمة ناسفة عمياء. طائرات تهوي بمن فيها على العمائر والأبراج وتدكها دكاً. لا كلام ولا سلام بل موت مرفرف تحت هبوب رائحة الجنة وتراقص خيالات الحور العين في الآخرة. فأين أنت من بطل الرواية غازي الأسرَّة والفروج، وأين أنت من شبيبة الأحزمة الناسفة المدججين بقهر التاريخ وانحطاط الواقع وانسداد الآفاق؟

قمعت سؤالاً معاكساً لقول “محمود” راح يتشكل في ذهنك: هل جئت إلى هذه المدينة مهزوماً؟ لم يخطر الغزو في بالك، قط، على طريقة “محمود” أو بطل الرواية. فأيّ غزو هذا؟ لكن لماذا فكَّرت في الهزيمة؟ رمى صديقك اللعين بذرة وسواس في داخلك. كلما أحبطت سؤال الغزو والهزيمة في ذهنك عاد يطلّ برأسه من جديد. السّماجة التي بدا عليها تساؤل صديقك القديم وحركة يده المحرَجة في اتجاه الفتيات اللاهيات عن وجودكما أمام مطعم للأكلات السريعة حركتا سؤالاً قديماً في داخلك، سؤالاً كنت تحتال عليه بالإرجاء والتمييع كعادتك. إنه السؤال الذي راح يتراءى لك كتلويحةٍ شاحبةٍ، ولكن دؤوب، مذ خرجت من مدينة الحصار الحرب: أين الخطأ؟

(أمجد ناصر)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>