اكتظاظ/ أمل الهاني

اكتظاظ/ أمل الهاني

تونس: اكتظاظ أمام المخابز، اكتظاظ في السّجون، اكتظاظ بسوق السيارات المستعمَلة، اكتظاظ بالمقابر، اكتظاظ بالبلديّة، اكتظاظ بالميترو، اكتظاظ بالمستشفيات، اكتظاظ بساحات الجولان، اكتظاظ مسافرين، اكتظاظ بمؤسّسات رعاية المُسنّين، اكتظاظٌ في الآراء الداعمة والرافضة والحانقة، اكتظاظ في مطالب الشغل، اكتظاظ في شهادات الدّكتوراه، اكتظاظ في مفترق خارج مناطق العمران، اكتظاظ في الشارع، اكتظاظ أمام بيتي

يويو زيهاو، على الرصيف، تقنية طباعة، 2015

يويو زيهاو، على الرصيف، تقنية طباعة، 2015

.

|أمل الهاني|

أملل الهاني

أمل الهاني

من رحم الأصوات الصاخبة والأجساد المتضاربة استطعتُ بصعوبة الانسلاخ عن كتلة اللحم البشريّة المُتكدّسة في زقاق سوق بومنديل، والمرور نحو الشارع الموالي الذي كان أشدَّ وطأة من كثافة الناس وتصايح الباعة. ذهبت في مهمة رسميّة لمعرفة أسعار اللعب البلاستيكيّة من أجل تأثيث مركز ترفيهيّ للأطفال، غير ذلك يكون الذهاب غير المُبرّر اقترافَ ذنب في حقّ نفسك.

كُلّما نزلتُ إلى قلب العاصمة راودني السّؤال السّاذج نفسه: لماذا كُلّ هذا الاكتظاظ ولماذا لا يكُفّ الناس عن الترحال لبؤرة الضجيج وقرف المواصلات؟ أنا عن نفسي ارتحلتُ أيضًا واندمجتُ تمامًا مع نسق كريهٍ وحياة سريعة جدًّا. لا تكاد أن ترى تباشير الصباح حتى يهجم الليل فجأة فتنزوي في السّرير مغلقَ العينيْن أو مفتوحهما، في انتظار أن تُغلق وتنام.

بريق العاصمة الخادع! حياة مليئة بالناس والأضواء والمقاهي والمراكز التجاريّة والمنتجعات الصحيّة ومدينة الألعاب والملاهي والحانات المُتفجّرة بسوائل الخمور… لكنها حقيقةً حياة قاسية وجافّة، تكاد أن تقترب من نسق آلة مبرمَجة لتكرار مجموعة من الوظائف، في خضمّ يوم مُكتظّ مجنون! اكتظاظ شبيه بيوم الحشر الموعود؛ اكتظاظ أمام المخابز، طوابير من الأمعاء الخاوية تتلهف لشراء العجين؛ اكتظاظ وتشدّد في السجون.. وكورونا؛ اكتظاظ بسوق السيارات المستعمَلة: اليوم الأحد، فرصتك الذهبيّة لعقد صفقة شراء ذات العجلات الأربعة؛ اكتظاظ بالمقابر: اِدفنْ الجثة على الجثة، الله يرحم موتانا ويرزقهم من نعيم جنّاته؛ اكتظاظ بالبلدية: فلنَتمنَّ صبر أيوب، السليم فينا قد يفقد أعصابه من هول الانتظار ورتابة الخدمات البطيئة؛ اكتظاظ بالميترو: مُحلّل سياسيّ وخبير في علم النفس وعالم اجتماع: الاكتظاظ سبب من أسباب التحرش!؛ اكتظاظ بالمستشفيات الآيل بعضها للسّقوط وقد سقط طبيب في عزّ شبابه من الطابق العلويّ ومات شهيدًا، آسفة على إعادة الخبر والنبش في قلوبكم الجريحة، ربما لا علاقة له بالاكتظاظ ولكن ربما كان السّبب هو اكتظاظ المهمّات الواجب إتمامها وقد خيّر النزول السريع بدلا من المدارج فاصطدم “بأسونسور” الموت!؛ اكتظاظ وغليان بساحات الجولان؛ اكتظاظ تسبّب في تدافع المسافرين وأودى بحياة شخص وجرح آخرين؛ اكتظاظ في البريد اليوم الاثنين: تسليم جراية الشيخوخة!؛ اكتظاظ بمؤسّسات رعاية المُسنّين: يُصرّح بعض المسؤولين: ارتفعت نسبة مطالب الإقامة بدور العجز ويجيبه آخر من منبر صحفيّ: تؤكد الدراسات الاجتماعيّة والنفسانيّة تراخي الإحساس بالمسؤولية لدى الأبناء وفراغ الروابط الأسريّة، ما أدّى إلى تفاقم نسب الإقامة بدور العجز؛ اكتظاظٌ أيضا في الآراء الداعمة والرافضة والحانقة؛ اكتظاظ في مطالب الشغل واحتقان أمام الوزارات التي لا تعترف بصرخة الأصوات المكتظة؛ اكتظاظ في شهادات الدّكتوراه المختومة بطابع الدولة التونسيّة والمتروكة إلى أجل غير مُسمًّى؛ اكتظاظ في مفترق خارج مناطق العمران: مرور موكب رئاسيّ؛ اكتظاظ في الشارع: “سامحني نتعدّى”؛ اكتظاظ أمام بيتي!

ماذا جرى؟ ماذا هناك؟

لا شيء، هذا المكان فاضي ينفع لأشخاص غيرك.

.

(6/12/2020. مقتطف من نصّ يوميّات في الشارع؛ كاتبة من تونس، فنانة تشكيليّة ومتحصّلة على الدكتوراه في علوم الفنون وممارساتها)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>