الطبيعة السياسية والبعد الثالث للزمن/ نصر جميل شعث

قراءة في قصائد بعض شعراء الأحلام العربية الكبرى: محمد عفيفي مطر، صلاح عبد الصبور، صلاح جاهين وأدونيس

الطبيعة السياسية والبعد الثالث للزمن/ نصر جميل شعث



الشاعر محمد عفيفي مطر




|نصر جميل شعث|

في هذه الدراسة أقترح تفرقة جدلية، خدمةً لجماليات معينة، بين قصيدة الطبيعة الريفية، قصيدة الأحياء الشعبية، وقصيدة المدينة؛ في الشعر المصري، بشكل عام. ولكن لماذا مصر بشكل خاص؟ لأنها تتميّز بخصوصية عربية، على المستويات الطبيعية والجغرافية والإجتماعية العربية إذ هي قلب الوطن العربي، ويشقّ النيلُ صحراءَها. وعلى صعيدِها الكثير من اللافتات والأروح المنسيّة والمكابدات الاجتماعية والثقافية.

في أوّل موقفٍ من مواقف هذه الدارسة، سيميل المعنى إلى الطبيعة الأولى، وفيه ستتحلّى “قصيدةُ الطبيعة” بمظهرها وبمحيطها الجمالي، في مسعىً لإخلاص أنطولوجي يدعّي تجرّده من بيئات إجتماعيّة وسياسية مرفوعة حتماً في مصطلحَ “الإيكولوجيا” الذي يشير، بدوره، إلى العلْم الذي يدرس “الإرتباط” بين الكائنات العضوية وبين البيئة.

وإنها لمهمّة مضنية في مثاليتها أن تبتني فكرةُ الخلاص، في الشاعر، تصوّراً يدفع بالكتابة الشعرية إلى خلاصها وصفائها في زمن انهماك الشاعر العربي بقضاياه. ولو نجحت  هذه الكتابة، بذاتية الشرط والدفع الفنّي، في صرف الشاعر عن المواضعات وما يكدّر الروح؛ لوجدنا من يصف هذه المبادرة الناحجة، جمالياً، بالسلبية لسحبها الشاعر من بيئته الاجتماعية والوطنية ووضعه في قائمة رومانتيقي القرن التاسع عشر. لتصبح مهامه منصبه لتأمل معطيات وموجودات محض جمالية بين الأرض والسماء.. تسكن، بدورها، فضاء الغمغمة والغموض الممسوح بنشيد روحي سيستغرق ذلك المتُّجَهَه واصلاً مديات عفويّة ستشكّل سعة تضمن للحظة الشعرية، على أية حال، ديمومة التولّد والتحول والتناقش خلال تمازج العناصر والأشياء والفرادة في الصورة والغمغمة.  فلا يُستثنى إيحاء ولا إشارة من إرتباطات بين الروح والحواس لإدراك الحرية في لحظةٍ لها أن تُسمّى نفسَها بمختلف كلمات الإصرار على الأصل، الاحتفال (الكرنفالي)، التشوف، الاندماج، الحلول، وتجلّى الروح والرقص في المطلق الرحب الحرّ من الضغط السياسي والإجتماعي. حيث الشمس المصرية شال من ذهب اليمام، و شال حرير على صباحات أو ظهيرة الفدادين والغيطان المزروعة وآصائلها، وحيث الشجر والشجى والنسوة الفلاحات وصِبية الريف والأعشاش وعائلات الفصائل والأنواع. الطبيعة، إذًا، في قصيدة ذاهبة في الطبيعة تحاول اكتشاف نفسَها في شعر يصدر عن روح معنية بالحميمية الوجودية ومهمومة بسؤال الوجود.

الشاعر محمد عفيفي مطر (الذي لن يتخلى، على أيّة حال عن إيقاعات الحلم العربي و السياسة) بدا، في مساحات من تجربته، داخل حضن الطبيعة وشجنها وبوحها الشفيف هو واحد منها. وبالتعريج على قصيدة المدينة والحي الشعبي، قصيدة عفيفي مطر لم تشتغل على تفاصيل وطقوس المدينة والحيّ الشعبي؛ فلا توجد مفرداتٌ  بحسّها الشعبي كالمقهى وورق اللعب والنرجيلة والجدَل ومفارقات الشارع والنكات على أنواعها. كذلك يقلّ تعيين رواتب وأسماء الشخصيات والشوارع، وطقوس الشاي والنعال والإسكافي، وما إلى هنالك من تفاصيل الشارع المصري. ذلك أن شاعرًا كصلاح عبد الصبور، هو الذي انتبه لضرورة تطويع وإدخال القصيدة فضاء الشعبيّ، بحيث تبدو تنطق باستجابتها للإيقاعات الاجتماعية. والقصيدة اليومية الحالية في مصر تتحرّك في أفق اليوميّ أكثر من أي وقت مضى، وتغطي مساحة واسعة من نصيب  القصيدة اليومية العربية عمومًا.

وبالعودة إلى قصيدة عبد الصبور يمكن القول إنها ظهرت مبكّرًا كنموذج في الجمع بين المدينة والحيّ الشعبي، فكأنها كانت تمشي ورباعيات صلاح جاهين بموازاة أغاني الشيخ إمام الملتزمة وأغاني أم كلثوم بمختلف ألوانها المقبلة على الحياة. ذلك أن قصيدة عبد الصبور وأغاني الشيخ إمام وأم كلثوم من المشتركات الحيّة في الذائقة العربية العالية، دون فسخ العقد الوجداني بين النخبة والشعب.


محمد عفيفي مطر “مسامرة الأولاد كي لا يناموا”

في هذا الجزء من القراءة في قصائد شعراء الأحلام العربية الكبرى، أتوقف عند ديوان خاصّ للشاعر محمد عفيفي مطر، قام “بيت الشعر الفلسطيني” بطباعته في العام 2005، احتفاءً بالشاعر وتكريمًا له. حمل الديوان عنوانًا رئيسيًّا: “صيد اليمام”، ­وزاده هذا العنوان الإضافي: (مسامرة الأولاد كي لا يناموا).

وإذا كانت هناك مِن أسئلةٍ يَحار القارئ في الإجابة عليها، في إثر جانبِ العنوان الإضافي، والذي يبدي حرص الشاعر على إطالة المسامرة لخلق الجفوة بين الأولاد والنوم؛ فإنّ إحدى الإجابات العميقة سوف تتبّدى، أوّلاً، كسؤالٍ مَركزي عن العلاقة بين “صيد اليمام”، في سهرات قارىء، وبين أوّل قصائد المجموعة بعنوان “حجر الأجيال”. ليسَ هذا وحسب، فلربما كانت الإجابة الأعمق هي العلاقة ذاتها التي تربطني الآن بـ “صيد اليمام” و “حجر الأجيال”؛ بوصفي قارئًا فلسطينيّـًا أنتمي إلى الجيل الذي دَرَج الناس على تسميته بجيل “انتفاضة الحجارة”!

وكان دعاني أحد الأصدقاء، من رام الله، قبل عامين من تاريخ كتابة هذا المقال في 17 آب(أغسطس 2008)، لأكتب مقالاً عن الشاعر عفيفي مطر للعدد الخاصّ به في “مجلة الشعراء” الفلسطينية. لم أستطع أن أكتبَ، حينها؛ لأنّ الرغبة جاءت من خارجي. كما وألحّ عليّ صديق آخر أن أكتب، قائلاً لي عبر الهاتف: “إذا نويتََ كتبتَ.. إسْهرْ ليلةً واحدةً وفي الصباح ستجد نفسَك انْجزتَ المقال”. حاولتُ أن أكتبََ، كتبتُ قرابةَ نصفَِ صفحة بالقلم، بعد أنْ زوّدني الصديق علي أبو خطاب بمجاميع الشاعر التي كنتُ قرأتها في سُبل وفترات متباعدة، في السابق. ولكني عدمْتُ نصفََ الصفحة صبيحة اليوم التالي؛ فمحتواه لم يكن صلبًا، فلا يمكن اتّخاذه حجرًا لبناء مقالاً عن شاعر بحجم محمد عفيفي مطر، لا استعمال الإنجاز المتعثّر الناقص في صيد اليمام من تجربة الشاعر!

وفي إحدى سهراتي في ليلة من أعالي صيف “قطاع غزة”، كنت أقرأ من باب الحنين للشعر الجميل، ومن باب الوقاية من الموت العبثي على يد مجانين الشارع الفلسطيني.. أقرأ في “صيد اليمام”. إذ تمثّل “مشاغبة الإهداء” بحدّ ذاتها قمة التحدّي. فهي تستفزّ نزق القارئ وتُحرّضُ على السفر في اليقظة. حيث يكتب مربّي اليمام: “إلى الطلائعِ الجديدةِ من الأبناءِ والأحفادْ:/ أطلِق أمامكمْ بعضَ اليمامِ الذي عشَّشَ/ فى قلبي، وأُغْريكم باصطياده../ حياةُ الأمة كلِّها هي آفاقُ طيرانه،/ وأَمَلِي أن تُداوِرُوهُ بشباكِ الفهمِ الكادحِ/ وسهامِ الذكاءِ اليقظِ المتوقِّد../ هذا هو الرِّهـانُ بيننا.. فأيُّنا سيخذلُ الآخرَ/ ويهربُ من صعوبةِ الرهانْ؟!/ أطلقْتُ رهاني وكلِّي ثقةٌ بأنَّكم أذكياءُ/ جادّونَ لا يصعبُ عليكمْ صيد./ أمْ سيكونُ الخذْلانُ منكمْ باستسلامِ/ الصيادينَ للتسليةِ والسهولة،/ والتسليةُ والسهولةُ صيدٌ لا يكلِّفُ جهداً/ ولا مشقَّــة؟!/ لعلَّكمْ ستقولون:/ ما لنا ولهذا الصيدِ في الآفاقِ العالية،/ وما لهذا الشاعرِ لا يَضَعُ ما يريدنا/ أن نصيدَ على أطرافِ أصابعنا وفي/ أكفِّ أيدينا؟!/ هوَ رهانٌ بيننا إذن. فهيَّا اخْرجوا معي/ إلى براحِ السَّهرِ الصعب/ وبيننا الأفقُ الوسيعُ ليمامِ القراءةِ/ الكادحةِ والذكاءِ النبيل.”

وباعتباري قارئـًا مُحبّا للقراءة بالمعنى العميق، أجتهد في تقديم قراءة أعترف مسبقـًا بأنها متواضعة أمام إجمالي تجربة شعرية متعدّدة الاقتراحات الجماليّة تستحق التعمّق فيها. وليس بوارد، على الأرجح، أن يدلفَ المرء، دفعة واحدة، في سهرة ممتدة حتى الصباح، لمكنونات تجربة شاعر كعفيفي مطر. لذا، أكتفي بالتركيز على قراءة قصيدة “حجر الأجيال” والعلاقات والتحولات التي تُشكّلُ إيقاعاتِ جانب من السياق الدلالي في المجموعة.

فنتساءل أولاً: هل نحن أمام دعوة بدائية من الشاعر لـ”صيد اليمام” بـ “الحجر”؟ الإجابة على سؤال كهذا، نجدها في العلاقة بين “صيد اليمام” في سهرات قارئ، وبين أولى القصائد “حجر الأجيال”. وهي علاقة تبعث إلى إدراك وظيفة الحجر كأداة في أياد الأولاد للرماية على الطرائد والثوابت من الطير والحيوانات والشجر. لوهلة أولى، نَظنّ باحتمال النزعة العدوانية بحقّ الطبيعة. ولكنّ المفاجأة التي ستنجلي عن تحولاتٍ في الحجر واستعمالاته؛ ستتمثل في حركة الارتداد الخفيّة والعميقة للإجراءات، أي أننا نشهد ارتدادًا عكسيًا لاتجاه مسار العلاقة بين الحجر واليمام- على صعيد الاستعمال والبناء البنيوي والمعنوي- من حجر صائد إلى حجر مُصطَاد! وعندما ندرك أو نتذكّر الحجرَ بوصفه جسدًا مهزومًا، فإنّ هذا الإدراك أو التذكّر يطالبنا باسترجاع قصة ارتداد ذخائر البنادق العربية إلى صدور مستعمليها في أحد أعراس النكبة العربية! إذًا، في ظلّ فلسفة نكبة الاستعمال هذه، تنطلق دعوة شاعر للأجيال، لأجل صيد المعاني الكامنة في تحوّلات الحجر، وتحرير يَمام الذكاء للنجاة. فالقصيدة هي تحدّ ومسؤولية ثقيلة، لا تـَرِد في شكل إجراءات عمل مطلوبة، ولكنها أسئلة في العمق، يربطها الشاعر بمسيرة الحجر عبر رصده للتحولات الجوهرية والشكلية التي جرت وتجري عليه.

يبدأ الشاعر القصيدة بمناداة حجر بعيد، في الذاكرة يعرفه، مَعرفة آمنة، حجرًا مأمونَ الجانب يبسط وجهَه على عتبة العمر (الطفولة) والبيت. إنها معرفة شيء لذاته في مكانه. قبل أنْ تجري عليه – وعلى الأولاد الذين يخاطبهم الشاعر بالأجيال- التحولاتُ التي انطوَتْ على سؤال الشاعر المتكرر لا للحجر هذه المرة ، ولكن لصمت الحجر. ففي آخر مقطع من القصيدة يتساءل الشاعر:

هل صرختك الملساء الحبلى

تحملها عربات خراب مندفعة

بنقلها بناءؤن لصوص من أعتاب البيت

لبناء السجن وتعلية الأسوار؟!

أم هذي الصرخة فجر فضاح مكتومْ

سيشعشع حين يدق الولد الآتي

من ظلمات الغيب –

نواة المشمش والخروب؟!.

بينما في بداية القصيدة ساد الأمنُ العلاقةَ بين الحجر ولهْو الأولاد فوق العتبة؛ فكانوا في شمس طفولتهم وصباهم يصطادون فَراش الأحلام:

يا حجرًا أعرفه مذ كنت صغيرًا ألهو

فوق العتبة.

وأدقّ عليك نواة المشمش والخروبْ

في المدخل../ كنت تنام عميقـًا..

لا توقظك الشمس ولا

هرولة الأقدام.

كنا في شمس طفولتنا وصبانا

نصطاد فراش الأحلام.

ومن طريق ذلك، ينفتح مَعنى دَقّ الولد – على الحجر- نواةَ المشمش والخروب، بحجر مستعمل بقبضة اليد؛ ينفتح على فِطرة النزوع للتعرّف على الأِشياء وكشف كنهها، حيث سيكرّر الشاعر عفيفي مطر مساءلة الشيء/الحجر في ذاته، خارج ثباته على مكان؛ بعد أن بُدِئَتْ القصيدة بمخاطبة الحجر لذاته، في مكانه الذي رسخ كمعرفة شكلية وحنينية في الذاكرة. وعلى هذا النحو تأتي القصيدة اللاحقة بعنوان “مناجم الجوهر”، مباشرةً، بعد قصيدتنا الحالية “حجر الأجيال” التي نرصد فيها التصاعد المتوازي للفلسفة والثورة في القصيدة:

يا حجرًا أعرفه..

هل كنت الموسيقى المخبوءة في

شعر الشعراء أم كنت نداء كونيًا يصّاعد من صمت الشهداء؟!

أزمنة مرت..

كانت تنثرُ فضّتها ورمادَ

كهولتها في الشعر

ووهن الخطوة

والجسد المهزومْ.

وقد اختتم الشاعر القصيدة بصورة دقّ النواة في إشارة عميقة لا تؤخذ إلا بوصفها نشدانًا لنتيجة، من المستقل، المسؤول عن تحقيقها جمعُ الولد الآتي من ظلمات الغيب. لأجل ذلك، كان يُبدِي الشاعر محمد عفيفي مطر حرصَه على مسامرة للأولاد كي لا يناموا، حيث يختم قصيدة له بعنوان: “سهرات العالم” بدعوة عامة في صيغة خاصة تقول: “إسهر حتى تنجو”.


صلاح جاهين.. الغزل بوصفه شعارًا يُؤسس لسلطة الإثارة/الثورة

الشاعر المصريّ، العاميّ، الأهم والأشهر الراحل صلاح جاهين جمع في رباعياته – وإن جاءت بالعامية–  بين قصائد الطبيعة والأحياء الشعبية والمدينة. إذ تنمّ رباعياته عن فلسفة صادرة عن خلاصات تجارب في مدينة يسودها الضجيج والصخب والتفاوت والتناقض في مستويات وتفاصيل التجربة المعاشة، وعلى تخومها، وفي قلبها، تفاصيل الأحياء الشعبية التي لا تنفك تثرثر بفهارس مطاليبها وأوجاعها. ولنقرأ هذه الرباعية، كمثالٍ يَتصادى مع رباعياتٍ كثيرةً لجاهين: “زِحام وأبـواق سيارات مـزعجة/ للي يطول له رصيف.. يبقى نجا/ لـو كنت جنبي حبيبي أنا/  مش كنت أشوف إنّ الحياة مبهجة/ عجبي!!”.

ولكن ما سنسلط الضوء عليه، في هذه المقالة، هو “لجوء” صلاح جاهين إلى الطبيعة وتوظيف كائناتها في بنية مُغرية ومثيرة وحميمة؛ حتى لتكاد تكون رومانتيقية. وذلك خدمةً لغرض أو هدفٍ ثقافي واجتماعي في رائيها أو موظّفها. إذاً، في هذا الإطار، نستشهد بهاتين الرباعيتين، وندعمهما بقراءة لعلّ قارئًا يراها قدرةً على التأويل المقبول. فلنقرأ هذه الرباعية الأولى:

كان فيْ  قمر كـَأنه فـرخ حمامْ

على صغره دقّ شْعاعْ شقّ الغمام

أنا كنت حاضر قلت لـه ينصرك

إشْحال لمّا حـَتبقى بـدر التمامْ

عجبي!!.

وأما الرباعية الثانية، فتقول:

الـنهد زي الفهد نـَطَ انـدلــعْ

قلبي انهبش بين الضلوع  وانخلعْ

ياللي نهيـت البنت عَـن فعلـها

قـول للطبيعة  كمان تبطّـل دَلعْ

عجبي!!.

وفي مقدورنا، إذًا، أن نرى كيف تفضي التشابيه الجميلة، في هاتين الرباعيتين، إلى تداخل أهواء الشاعر التي تثير، في آن واحد، تساؤلات عما إذا كان ثمة إخلاص فطري عفوي، من جاهين، باتجاهه للطبيعة والتغني بجمالها لذاتها في ذاتها، أم تحت إهاب ذلك توجد محرّكات أو محرّضات ظرفية ما انفكت تدعوه لتجنيد مفردات الطبيعة والعمل على تقوية الغزل والمرح الذين يظهران في الرباعية الأولى مرتبطين بالجدّ والأمل. إننا أمامِ “فَرَخ حَمَامْ” على الرغم من صغره إلا أنه كان مُحرِّضًا على  خلق صورة جمالية لافتة، ولم يكن أمام (الأنا) المُشاهِدة والمشاركة في تلقّى هذا الخلق، إلا التشجيع والنصرة. فما إن يتخيّل السامعُ صوتَ هذه (الأنا)؛ يجد الصوتَ مجلّلاً بإيقاعات الدعم والحماس والمراهنة على الاستمرار في النضج والتكملة. لكن، الأهم من هذا التذوّق السماعي، هو أنّنا نرى الطبيعة بوصفها موضوعا ظاهرا في هذه الرباعية؛ فاعلةً ومتحوّلة، ذاتيّا، مثلما تقول لنا الصورة الشعرية التي تقف على النقيض من الصورة الكاريكاتورية لدى برجسون، صاحب فلسفة الضحك.. فالكاريكاتور يقوم على التشويه باعتباره نوعًا من التصلّب يصيب الشكل، ويرْجع إلى تَصلّبِ حركةٍ فقدَتْ مرونتها إلى حدّ أنْ تحوّلتْ إلى تجعيدة تجمّدت وسكنت سكونًا لانهائيًا، فكأنما “الطبيعة” قد تَصلّبتْ في يدٍ بالمطلق!!

إذًا، يدافع كلّ من الرباعيتين عن المدلول الإنساني الاجتماعي بأسلوب تقديم الطبيعة على الإنسان، وجعلها تعبّر عن معانٍ تمسّه في الصميم. فالجوهر الفني، هنا، هو في تحويل الطفل برفعه- بوصفه معادلاً طبيعيًّا ناميًا- في الحرية بحالات نموّها وتحوّلها المستمرّ نحو إكتمالها. وقد تَجسّد ذلك كله في قمرٍ أنه “فرخ حمام دقّ شعاعّا..”، والشعاعُ، بدوره، قد “شقّ الغمام”. وهكذا يُوظّف صلاح جاهين الطبيعة بحالاتها النامية والمتحولة الوثيقة بالبعد الثالث للزمن(المستقبل)، مازجًا هوى التغزّل بتأمّل ثوريّ واجتماعيّ عميق، في قمرٍ كان على الأرض هو الزعيم العربي الراحل: جمال عبد الناصر، الذي عاصرَه جاهين ونصرَه بالدعاء: “أنا كنت حاضر قلت له ينصرك”. لكن ينادي الشاعر، في واقع هذه الرباعية، بعدم الفصل، في الحياة، بين الغزل والأمل، أو الحبّ والثورة. وعند هذا التوظيف والمزج نميل إلى، كشف رموز الغزل، بتسمية “فرخ الحمام” بالأنثى. ولم نسأل عن جنسه في البداية. ولكن سوف تؤسّس هذه الاحتمالية المؤوّلة والمعلنة، في التو، الصراعَ على مستقبل يؤول “حَمامةً” سوف تنقسم، بوصفها علامة تفكيكية، على نفسها: حرب/ سلام. ومن جهة مقابلة ومعقّدة: عند الميل إلى ترجيج أنّ الفرخَ هذا هو “ذكَرُ حمام”؛ سوف نستحضر عملية التسافد بين الرجل الشجاع القويّ والحرب، كما فعل الرئيس المصري الراحل: أنور السادات، الذي صنع السلام على أسس الشجاعة والقوة وحسابات السياسة الإقليمية، واستطاع، في ظلّ هذا التحوّل السياسي، تفريغ “الأنا الناصرية” من جذوتها في صدور الحالمين. أو أنْ نجد أنفسَنا أمام معادلة الشجاع والهزيل، وهي المعادلة التي ستفضي إلى نتائج تتمخّض، وما تزال، عن علاقات الأمن والتهديد؛ تلك المبنية مع  “الحمامة” السياسيّة، على مبدأ الركاكة والحماقة والاصطياد. وهنا تقفز لأسماعنا، بالضبط، مقولة: “سلام الشجعان” للزعيم الفلسطيني الراحل: ياسر عرفات، ولطالما علّقها كـ “لافتةٍ صوتية” على شفتيه، أمام الطرف الإسرائيلي والمجتمع الدولي. وقد كان يعرف هو ومن حوله أنه سلام الرجل العربي الهزيل!

لقد رفعَ جاهين بفتوةِ جسدِه الواحد، بيدِهِ اليمين، لافتة: “ثورة الجسد”، بموازاة يده اليسار التي انشغلت بحمل لافته ثقيلة من كثرة الأحلام الكبرى، وهي: “جسد الثورة”. وتنضوي الرباعية الثانية تحت اللافتتين، لمَا تقود إليه مفردات، بعينها، مثل: 1- “النهد”، 2- “اندلع” و 3- “انخلع”، وتحديداً المفردة الأولى التي يتـُحوّل المجازَ المرسل خلالها من غزل إلى شعارٍ يُؤسّس لسلطة الإثارة/الثورة المترجمتين بردود أفعال الجسد: “اندلع” و “انخلع”. وهذا، كله، إنما يؤكّد، بالفعل، على جذب الكاريزمية “الجمالية” لشعراء الرومانسية الثورية الحالمين. وهكذا الطبيعة تبدو الوعاء الوظيفيّ للأغراض والحجج والتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية.

لكن ستثير الرباعية الثانية التساؤل المشروع، في إطار الجمال والأخلاق، حول طبيعة الإثارة المندلعة وتأثيرها الأخلاقي على المجتمع؛ في ظلّ لغة الجسد التي استخدمها جاهين. فلوهلة أولى نسمع الرباعية الثانية تناشد بفتح الباب واسعًا على استغلال الجسد، في ظل شيوع قيم “البورنو”. غير أن المعنى لا يأخذ هذا البعد لدى جاهين، وإنما يقف – بالتأمل الأعمق- في مواجهة المنهيات الاجتماعية والثقافية، أي المناداة بالحرية كمعنىً لا يتساهل مع أي قراءة سطحية هنا. وفي حال القراءة السطحية، ستكون هناك مفارقة وهي: لهاث المدينة وفتحها الباب واسعًا على قيم “البورنو”؛ في مقابل تحفّظ الريف والحيّ الشعبي والامتناع عن الاستجابة لظاهر القول في رباعية الراحل صلاح جاهين.


أدونيس.. حامل اللافتة الشهير

.. وإذا جرّدنا المجتمع/ الجسد/اللغة/ والمدينة العربية، بصفة خاصة، من الجسد كلذة، وأشبعنا هذه الكلمات بعموم القيم الوطنية العربية الكبرى، ثم أدرجناها تحت لافتة: “جسد الثورة”؛ سنرى إلى أدونيس باعتباره حاملاً شهيرًا لهذه اللافتة الاجتماعية والتحرّرية العربية التي حَرّضت الشاعر، منذ صعوده كطليعيّ ونخبويّ، على حشد وتعبئة المدينة/ الجسد/ التاريخ، في القصيدة بوصفها خريطة تجسيدية تتعاقب عليها عوامل التعرية رغبة في تقويض الثابت. وقد جسّد أدونيس ذلك بإلحاح ذهني يدور في فلك الوجدان، في دواوينه التي على صعيد النظرية يشدّها الالتزام الفكري والذهني بخيط، إنما، هو في حالة إخفاء ظاهراتي. لاسيما في حرص أدونيس على الجمع بين مقولات التقابل والتعدد والتشاكل والوحدة في القصيدة. ولننذكر، على سبيل المثال لا الحصر، شيئـًا من ديوانه “مفرد بصيغة الجمع”، وفيه يقول:

كن الهباءة والحصاة في جسد واحد

أكمل جسدك بنفيه

ولتكن اللغة شكل الجسد.

كما، تأخذ اللغة شكل المدينة والتاريخ. والمدينة شكل الطفل، الضحية، المقبرة. إذ يحشد أدونيس أسماء المدن العربية في قصائده النخبوية. وحتى “غزة” لم تغبْ عن وجدانه في قصيدته الشهيرة “مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف”؛ وهي القصيدة التي أهداها أدونيس إلى الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر بهذه الصيغة: (تحية إلى جمال عبد الناصر، أوّل قائد عربي حديث عمل لكي ينتهي عصر ملوك الطوائف ويبتدئ العصر الآخر)، وهو الإهداء الذي توّج به أدونيس القصيدة( في الصفحة 581، المجلد الثاني من الآثار الكاملة الصادرة، في 1971، عن دار العودة ببيروت، الطبعة الثانية. وقد اختفى الاهداء من الطبعات اللاحقة).

لقد التقط أدونيس في بداية القصيدة الشهيرة المذكورة صورةً لمدينة “يافا”. فكان لهذه الصورة قيمة مزدوجة: البراءة والوداعة كأصل، والظلم والفاجعة كأثر: “وجه يافا طفل”.. حيث جاءت أسئلة الشاعر، تاليًا، على وقع الأثر لا الأصل:

هل الشجر الذابل يزهو؟

هل تدخل الأرض في صورة عذراء؟ مَن هناك يَرجّ الشرق؟.

لكنّ إيقاعَ الحدَث قد تواضع أمام الإجابةٍ التي قدّمها أدونيس بنفسه، حيث اختزل فعلَ الإيجاب وفعل السلب، معًا، في بنية شعرية رائعة وصادمة تمثلت في قوله:”جاء العصف الجميل، ولم يأت الخراب الجميل”. إذ استطاعت هذه الكلمات، بفضل البنية الرائعة والصادمة، في الجمع بين المتناقضات، أن تحضرَ كشاهدة، كحكمة، على لسان الحريصين على إعطاء إجابة عميقة لأسئلة السياق العربي؛ تظل تحضر- للعقل المنفتح على الجميل- كواحدة من الإضافات القريبة الممنوحة لنا، مقولات أو أبيات شعرية.

وأيضاً، في إطار صورة “وجه يافا طفل” يمكننا، من جانبٍ دلالي، إدراك الارتباط المؤسّس على قاعدة أو لافتة “جسد الثورة” بين “المدينة والطفل” عند أدونيس، وبين “فرخ حمام دقّ شعاع شق الغمام” عند صلاح جاهين، وبين “الفجر” في قصيدة “حجر الأجيال” الذي “سيشعشع حين يدقّ الولد الأتي من ظلمات الغيب نواة المشمش والخروب”، كما هو عند محمد عفيفي مطر. إذ، يتمحور الجميع في ثيمة “الطفل” الذي سيأخذ بعدَ المستقبل، وهو البعد الثالث الذي رسمَه جاهين، لا بصورة كاريكاتورية، وإنما بصورة جمالية طبيعية ذاتية الارتسام والتحوّل والصيرورة في “بدر التمام”، كناية عن النضج والاكتمال.

إنه الطفل الأمل، يتمثّله الشعراء في صور الجمال والنضج الحتمي. حيث يرسمون مساراً لصورة الطفل الذي سيكبر، استنادًا لسيناريوهات وتصورات وأحلام ثورية ( رأوها) ولم تتحقّق على أيديهم. ما جعلهم يُحمّلونها الأجيال القادمة كتركةٍ ثقيلة وكأمل جليل. فهذا هو أدونيس، دائمًا، بعد أن ابتدأ قصيدته الشهيرة بصورةٍ أعطتْ وجهَ المدينة البريئة الضحيّة شكلَ طفل؛ نجده في “المطابقات والأوائل”، وفي آخر قصيدة بعنوان “أول الكلام”؛ يخاطب طفلَه الذي كانـ (هـ) قائلا له:

أيها الطفل الذي كنتُ، تقدّم

ما الذي يجمعنا، الآن، وماذا ستقول ؟.

ومثله في أخر قصيدة “حجر الأجيال”، كان قد ألقى محمد عفيفي مطر بالمَهمّة الثورية على الولد؛ متمثلة بفعل دقّ النواة.

في “بيان للكل لا لأحد”، في كتابه “فاتحة لنهايات القرن” (دار العودة، 1996، ص123)، يقول أدونيس:

“ليس لنا نحن الذين شيخنا أن تحلم. للأطفال وحدهم أن يحلموا. لأحلامهم وحدها أن تعلمنا: كل شيء يسقط  الآن. الأفكار والأعمال. الرؤى والمخططات، والأشياء الفاجعة المنغرسة في تاريخنا، والتي حاولنا أن نقتلعها يوما ما، سبقتنا وتكاثرت”.

وفي مقام كهذا، قد يحضر شاعر العرب المتنبي بوصفه أقدر من حكم الشعر بالحكمة، قادماً من قول في صباه الذي شهد نضوجه المبكّر؛  ليردّ ببيته الشهير هذا على شعراء الأحلام الكبرى:

كَفَى بِجِسْمي نُجولاً أنني رَجُلٌ ////// لولا مُخاطبتي إيّاكَ لمْ تَرَنِي

في هذه اللحظة الحرجة التي ينظر فيها الشعراء إلى الطفل بوصفه أمل المستقبل والرجل الفردوسي المأملول في امتلائه واكتماله. والذي لم ولن يخلع الله من ضلعه المرأة/الثورة. الرجل الطفل الكامل في براءة وحدته الروحية والجسدية. ذلك الحلم العالي في مقابل إزعاج التقابل والانفصال. وذلك الشباب الذي  سيضيء أرواح المدن بأنوار المجتمع العربي. وهكذا الشعراء حلموا بطفل عربي سيتطوّر بشكل صحي ومثاليّ إلى رجولة خالية الخسارات الشخصية أو منطلقة منها وتجاوزها لغيير الواقع وأخذه إلى بر الأمان.

أما نواة الثورة، أيضًا، فقد جسّدها أدونيس، بالتصريح المباشر والإجرائي في: “مقدّمة لتاريخ ملوك الطوائف”. فجاء تصريحه عن: “نواة رفضيّة بعمق الضوء”. وبلغ الإجراء الثوري، في لغة القصائد، ذروتَه عندما عبّر الشعراء، باللغة، عن قوّة الفعل باستخدم فعلَ الدقّ، عينه، ببـُعديه: الماضي والمضارع: (دقّ ، يدقّ). كما هو الحال عند صلاح جاهين ومحمد عفيفي مطر. ولكن أدونيس بالغ في رسم واتخاذ إجراءات الثورة، عندما لجأ لكسر مادة “دقّ” عينها؛  فبعدَ أنْ تَساءلَ: “مَن هناك يَرجّ الشرق؟”، وجدناه يستبدل، بجهد ذهني، فعلَ “الرّجّ” بـ “الدقّ” بكسرهِ مادة «دقّ» نصفين أي حرفين: دال، قاف. وقد حَضَر التشديد، أي حركة الشدّة، على حرف القاف من طريق  تكرار أدونيس للمطلع الذي كان ابتدأ به القصيدة، وتكراره اللافت لسؤال الجملة الفعلية:

وجه يافا طفل هل الشجر الذابل يزهو؟ هل تدخل

الأرض في صورة عذراءَ

مَن هناك يرجّ الشرقَ

جاءَ العصف الجميل، ولم يأت الخراب الجميل صوت شريد…

سقط الماضي ولم يسقط ( لماذا يسقط الماضي ولا يسقط؟ )

دال قامة يكسرها الحزن( لماذا يسقط الماضي ولا يسقط؟ )

قاف قاب قوسين وأدنى

أطلب الماء ويعطيني رملاً

أطلب الشمسَ ويعطيني كهفًا.

هذا التكرار في الشاهد السابق ينطوي على مطالبة ومرافعة داخل بنية القول الثورية الشجاعة أو الحائرة في تشخيص ما يتعلق بالمستقبل وبعلوق العرب في مسائل خطيرة في طريق أفق الحداثة والحلم. وربما يسمح لنا هذا المعنى أن نضيفه كدليل، إلى فهرس أدّلة الخسارة والحيرة الكبرى. حيث يدّخر الشعراءُ إرادة التعويض، في طاقات الجيل الفتي والشباب الحالي والقادم والغارق حتى أذنيه بخسارته الشخصية والوطنية، وهذا ما يستدركه أدونيس في “المطابقات والأوائل”:

قرأ الأطفالُ كتابَ الحاضرِ، – قالوا:

هذا زمَنٌ

يتفتّح في رحمِ الأشلاءْ،-

كتبوا:

هذا زمَنٌ شاهَدْنَا فيهِ

كيف يُربّي الموتُ الأرضَ،

وكيف يخونُ الماءُ الماءْ.



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>