القذافي والناتو ضد ليبيا/ هشام نفّاع

المسؤولون الغربيون لا يستبعدون إبقاء القذافي في السلطة – خلافًا لمطلب الشعب الأساس. الأمر ليس متروكًا للقدر بالطبع، بل هو واحد من السيناريوهات المقرّرة. هنا لا يتم أخذ موقف الشعب الليبي بالاعتبار، بل شكل ترتيب المصالح الأجنبية. وبالتالي فهذا العدوان يهدد باغتيال الثورة وأهدافها

القذافي والناتو ضد ليبيا/ هشام نفّاع

|هشام نفاع|

لم يتردّد رئيس الجامعة العربية عمرو موسى، يوم الأحد، في التصريح أن “ما حدث في ليبيا يختلف عن الهدف من فرض الحظر الجوي”، قاصدًا القصف الجوي على أراضي ليبيا. وهو لا يكتفي بهذا، بل يُمعن فيما يشبه الاستخفاف بنا ليقول: إن العرب لم يكونوا يريدون أن توجه القوى الغربية ضربات عسكرية تصيب مدنيين حين دعوا إلى فرض منطقة الحظر الجوي.

ماذا توقع موسى؟ أن تلقي المقاتلات والمدمّرات الامريكية والبريطانية والفرنسية (والقطرية والاماراتية ما شاء الله!) مناشير ملوّنة ورسائل ورقية لفرض الحظر؟ هل كان يتوقع أقلّ من قصف سيطال بالضرورة مدنيين ليبيين؟ هل نذكّره ببداية ما حلّ بالعراق؟ ونهايته؟ ألم يتجنّد حكّام العرب يومها أيضًا “للجهود الديمقراطية”؟

في اليوم التالي عاد موسى عن لهجته “شبه النقدية” وأعلن أن موقف الجامعة العربية كان حاسما ومن اللحظة الاولى جمدت عضوية ليبيا ثم طلبت من الامم المتحدة فرض حظر جوي، مضيفا أن الجامعة تحترم قرار الامم المتحدة.

لكن الجامعة تشارك في القصف والتدخّل الخارجي ولا “تحترمه” فقط. فها هو وزير الخارجية القطري يتكلّم كأنه بسمارك عصره قائلا إن دولة قطر ستساهم في العمل العسكري الجاري حاليا في ليبيا! هل قطر والولايات المتحدة على قدم وساق في “العمل العسكري”؟ لا طبعًا.. قطر هي مجرّد غطاء، وأداة يتم تحريكها. وحتى يكتمل العبث، جاء رئيس الوزراء القطري ليعلن أن مجلس جامعة الدول العربية لم يطلب من الغرب التدخل! حسنًا، ولكن لماذا تتدخّل حضرتك اذًا بأربع طائرات “ميراج”؟ وهل تحلّ لنا “الجزيرة” وكبار محلليها هذه الأحجية؟

كنا سنقول في السابق إن الدول العربية وارتهانها وعمالتها للقوى العالمية المهيمنة هي المسؤولة عن التطوّر الخطير المتمثّل باستباحة عسكرية غربية لدولة عربية. لكن الحقيقة أنه تكاد لا توجد دول عربية بمفهوم السيادة. هناك دول قليلة بدأت تستعيد سيادتها بفضل الثورات الشعبية البطلة، لكن هذه لا تزال تعيش مراحل التحوّل الأولى. أما ما تبقى فليس سوى دكتاتوريات حوّلت الوطن العربي الى مزارع خاصة يصب معظم خيرها في جيوب الطغاة والجيوب الخارجية. وهذا يشمل معمر القذافي طبعًا.

فالزعيم الذي كرّر وصف شعبه بـ “الجرذان” وهدّد بدفن معارضيه، هو حليف كامل في النتيجة لهذا العدوان على سيادة وأرض ليبيا. لأنه حين تصرّف بوحشية بشعة وقتل شعبه بالدبابات والطائرات وبنادق المرتزقة، رافضًا الاصغاء لمطالب الشعب، عرّض ليبيا للتدخّل الأجنبي، وها هو قد نجح. ليس لأن عواصم الغرب وفي مركزها عاصمة الامبريالية واشنطن مهتمّة بمصير الليبيين. أبدًا. فقد عاشت هذه القوى قصص حب وكراهية وفقًا للمصلحة مع القذافي وصدام حسين وغيرهما على امتداد السنين، كما يصف الأمر الصحفي البريطاني الشجاع روبرت فيسك (اندبندنت، الأحد). أصلا فلم تهزّ الحلفاءَ الجدد/القدماء اربعة عقود من قمع الدكتاتور لهذا الشعب، فما الذي حصل الآن؟

حين يُقال إن القذافي حليف للغرب في عدوانه، يتعدى الأمر الاستعارة. فها هو بيل جورتني مدير هيئة الاركان الامريكية المشتركة يبلغ الصحفيين، نهاية الأسبوع، ان القذافي “ليس على قائمة اهداف الضربات الجوية من جانب التحالف”. وبنفس اللهجة قال مايك مولن رئيس الاركان الامريكي: من الممكن ان ينتهي الوضع الى حالة جمود وبقاء الزعيم الليبي معمر القذافي. وهو بلاغ عاد الى تأكيده مسؤولون كثيرون.

إذًا الحديث صريح: قد يؤدي هذا العدوان الى إبقاء القذافي في السلطة – خلافًا لمطلب الشعب الأساس. والأمر ليس متروكًا للقدر بالطبع، بل هو واحد من السيناريوهات المقرّرة. لذلك فمن المنطقي الافتراض أن هذا العدوان الذي تم تحضيره بدهاء، وبغطاء “عربي”، جاء لهدف اعادة ترتيب الوضع في ليبيا حتى بثمن بقاء الدكتاتور. هنا لا يتم أخذ موقف الشعب الليبي بالاعتبار في هذه القضية، بل شكل ترتيب المصالح الأجنبية. هذا العدوان يهدد باغتيال الثورة وأهدافها.

ما هي أهداف الغرب إذًا؟ عفوًا، يقولون إنها “حماية المدنيين الليبيين”. حمايتهم ممّن؟ من القذافي ونظامه – وفقًا لتصريحات عواصم العدوان. ولكن القذافي ليس هدفًا؟ هم يقولون هذا صراحة. لأن الهدف مختلف. هل يذكّرنا هذا بالعدوان على العراق مثلا. هل قلنا النفط؟ هل نشهد اليوم مقدمة لترويض العين والأذن نحو نقل الحظر الجوي شرقًا؟ نحو ايران مثلا؟ هل يأتي العدوان ضمن مخطط لمنع نشوء مساحة عربية متحررة من تونس الى مصر مرورًا بليبيا، من خلال زرع قواعد ضبط ورقابة في أرضها؟ هذه الأسئلة ضرورية، لأن حجم التحرّك الغربي يحمل أبعادًا استراتيجية تفوق الحدث الليبي. هناك من يصرّ على أن بمقدوره ترتيب حدود المنطقة، حتى لو ثارت شعوبها.

لزيادة فهم التحرّك الغربي، يجب الانتقال الى الخليج العربي؛ الى الخليج المحكوم بدكتاتوريات ملكية وأميرية توفّر لها واشنطن حماية كاملة. قبل أسبوع دخلت قوات سعودية وأخرى اماراتية، ثم كويتية، الى البحرين واليمن. لم تأتِ لحماية الشعبين ومطالبهما العادلة بل لـ “حفظ الأمن”. أمن من؟ أمن النظامين طبعًا. فالقوات السعودية توجّهت مباشرة الى منطقة الرفاع حيث تسكن العائلة المالكة البحرينية قبل أن ترتكب مذابح بالرصاص الحيّ ضد المحتجّين السلميين في الميادين العامة. لكن هذا لا يقلق واشنطن وحلفاءها طبعًا. وها هي وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون تُنافق وتصادق على هذا القمع المُدار اقليميًا بالقول إن “من حق الدولة الصغيرة (البحرين) ان تطلب المساعدة الامنية من جيرانها العرب في الخليج”. هنا لا حاجة للتعب. لا حاجة لقرار أمم متحدة ولا ناتو (ولا جامعة عربية!) ولا غيره. لا حاجة للتدخل العسكريّ المباشر طالما أن هناك مقاولين تابعين لحماية نظام النفط من الشعب!

لقد تم قتل وجرح المتظاهرين البحرينيين وسط تحريض طائفي والتأكيد مرة تلو أخرى أنهم من الشيعة وربطهم بإيران! مع أن هذا كذب. فالمحتجون من جميع شرائح الشعب. لكن هذا القمع الدموي يُلاقى بتصريحات أمريكية ناعمة. فلم يبذل مارك تونر المتحدث باسم وزارة الخارجية الامريكية جهدًا كبيرًا ليبيّض صفحة نظام المنامة. كان يكفيه القول إنه “يتعين على الحكومة البحرينية ضمان سلامة المعتقلين والالتزام ببدء اجراءات قانونية تتمشى مع التزامات البحرين القانونية والقضائية الدولية”. فعن أية اجراءات قانونية وأية التزامات قضائية يتحدّث، في سياق دولة تستقدم قوات خارجية لقتل مواطنيها المطالبين بحقوق وحريات أساس؟ لماذا لا يشير الى وجود مئة شخص لا يزالون مفقودين منذ بدء الاحتجاجات في 14 شباط التي قتل خلالها 16 مدنيًا بالرصاص؟

لقد سمح غطاء الأمان الأمريكي هذا لنظام البحرين بإبقاء مسلسل القمع في حالة انعقاد دائم. فقال وزير الخارجية البحريني ان ثلاث او اربع دول خليجية ترسل قوات، وهي  ستبقى حتى “تحقيق الهدوء”.. ترجمة: تحقيق الهدوء للنظام، للنفط، لواشنطن ومصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في منطقتنا، ولتذهب من ناحيتها الشعوب الى الجحيم!

قبل أن يعلن القذافي وقف اطلاق النار الكاذب، نهاية الأسبوع، كان يواصل اطلاق خطاباته الدموية. وعلى الرغم من علمه بما يُحاك لفرض حظر جوي مترافق بقصف لأراضي بلده، استمرّ بتهديد أهل بلده بدلا من قطع الطريق على التدخّل الخارجي. فهدّد أهالي مدينة بنغازي بلغة بلطجية قائلا: “خلاص حسم الامر.. جايين . اطلعوا انتم من الداخل. جهزوا نفسكم من الليلة.. لا رحمة ولا شفقة”. هذه الممارسة سهّلت استمرار إعداد أرضية في الرأي العام لتبرير إطلاق المدمرات والصواريخ “الذكية” على ليبيا. هذا العقيد المهووس واصل توفير الذرائع حين راح يدعو بلغة ديماغوغية حقيرة لمواجهة “الحلف المسيحي”! وقد قرَن الحقارة بشيء من السماجة التي لم تعد مضحكة حين زعق من أحد المخابئ في خطاب هاتفيّ: “هذه ثورة الكتاب الأخضر والنظرية العالمية الثالثة التي تحكم فيها الشعوب”.

هذه دعارة. فحين يحكم القذافي وأمثاله الشعوب، لا غرابة أن يتم قدوم (واستقدام) جيوش النهب والعدوان الامبريالية بزعم حماية الشعوب. هذا هو المفهوم الخفيّ للعمالة. وحتى لو تبجّحت الدكتاتوريات بمناهضة الاستعمار قولا، ورتّبت امورها معه فعليًا كما فعل القذافي، فإنها تبقي كامل أوراق اللعبة بأيدي الاستعمار الى حين انتهاء مدّة صلاحية استعمالها – والمخصّص بالأساس لنهب خيرات الشعوب.

للتذكير فقط: بعد تخلّي القذافي عام 2003 عن البرنامج النووي والعنتريّات، خوفًا من التهديدات، نال هدايا دبلوماسية ثمينة جدًا من الغرب. فقد استضافته مفوضية الاتحاد الاوروبي حيث “تحاور” مع نوابها. ثم استضاف في خيمته الشهيرة خلال سنة واحدة أبرز قباطنة السياسة الأوروبية: توني بلير رئيس الوزراء البريطاني، وغيرهارد شريدر المستشار الألماني وجاك شيراك الرئيس الفرنسي. لقد غيّر القذافي صداقاته حفاظًا على سلطته الدكتاتورية، ونجح بتكريس نظامه القمعي، بمصادقة حكومات هذه الدول التي تتبجّح اليوم بالاهتمام بسلامة الشعب الليبي.

ولكن بعد كل شيء ورغم كل شيء فإن الأمل يبقى في الشعوب. ولمن يستهتر بهذا “الايمان الساذج”، فلينظر الى مصر ويتمعّن طويلا.. حين تنفض الشعوب الدكتاتوريات عنها، ستكون قد قطعت بالتزامُن مسافة هامة على طريق نفض السيطرة الأجنبية عنها، وإن اقتضى الأمر وقتًا وتضحيات. فالطريق للتخلص من الاستعمار يمرّ بالضرورة عبر التخلّص من عملائه. ويجب أن يُقال لسريعي اليأس المعوّلين على حلف الناتو: المسألة ليست لعبة “بليي ستيشن”. هذه الثورات العربية بدأت، وقد تواجه تعقيدات. هذا طبيعي. لكنها بعيدة جدًا عن أن تكون قد انتهت، حتى لو ظلّلت بلادها لفترة جرائم أمن النظام أو جرائم أسراب المقاتلات والمدمّرات الأجنبية. لأن من كسر حاجز الخوف من الدكتاتور سيكون قادرًا على مواجهة أمريكا وحلفائها.

هنا، يتوجّب على اليساريين بالذات بدء استيعاب المعادلة: ممنوع الدفاع عن الدكتاتوريات بأي شكل، لأنه حين لا يتمتع الشعب بالحرية لا يمكن مطالبته بمحاربة العدو الأجنبي. ولننظر الى عقود القمع السالفة التي اشتدّ فيها الاستعمار وتغلغل حتى لدى من تبجّح بالوقوف ضده، قبل ان يعود ليصادقه حفاظًا على المؤخرات فوق السلطة. يجب احترام الشعوب حقًا ووقف التعامل معها كمن تعاني من محدودية وتحتاج الى أوصياء.

إن الشعب الليبي قادر على التخلّص من الدكتاتور ومن التدخّل الامبريالي المقنّع بالخشية الكاذبة على مدنيّي ليبيا. وهذا ممكن بشرط ألا تسمح الثورة بخروج جشعين من بين ثناياها يسعون لمدّ جسور تواصُل مع القوى الأجنبية الغازية ضمن لعبة لتبادل أدوار مع الدكتاتور! (وهؤلاء الانتهازيون موجودون في كل مكان وزمان). فلنأمل ونعمل من كل قلبنا حتى يعي الشعب الليبي هذا الواقع الخطير ويصدّه، ويحافظ على ثورته ويقطف ثمارها الأكيدة بأقل ما يمكن من خسائر.

(21 اذار 2011)



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. أعلن أن الهدف ليس هو ازاحة القذّافي لأن ذلك محضور بالقانون الدولي لكن يُتوقّع أنه سيتم ازاحته و التدخل الأجنبي هو رغبة في استباق الأمور و السيطرة على الثورة و ليس فقط الثورة الليبية و ذلك بالدخول كفاعل فيها و بالتالي يضمن الغرب مكانتهم بعدها مهما كانت النتيجة.

  2. لخمتنا يا رفيق فوق ما احنا ملخومين

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>