“اللّي أبوه القاضي تشكيه لمين؟!”

تمثيل الفلسطينيين المتهمين بمخالفات “أمنية” يشابه دومًا الخيار بين ابتلاع الموس أو المنجل. المحامي نبيل دكور يروي بعض مما مرّ عليه في دفاعه عن طفل من غزة وقرار والدته وعن العراقيب، وكلهم يرددون بصمت المثل العربي إياه…

“اللّي أبوه القاضي تشكيه لمين؟!”

|نبيل دَكوَر|

نبيل دكور

نبيل دكور

إنّه فتى فلسطينيّ من غزّة. كان سِنّه لا يتجاوز السابعة عشرة عندما اعتقله الجيش الإسرائيلي. تَولّيتُ مُهِمّة المرافعة والدّفاع عنهُ بعد أن كُلّفت بها بناءً على توجُّه إحدى المؤسسات الفلسطينية التي تَعنى بشؤون الأسرى والمعتقلين وذلك بعد تقديم لائحة اتهام ضده أمام المحكمة المركزية في بئر السبع، حيث نُسِبَت له عدّة اتهامات أهمها عضويّة ونشاط عسكري في صفوف إحدى التنظيمات الفلسطينية المسلحة.

منذ الجلسة الأولى أعلمتُ هيئة المحكمة عن توكيلي بدلاً عن المحامي الذي كانت قد عيّنته المحكمة في المراحل الأولى للقضية، وعليه التمسْتُ إرجاء المداولة إلى موعد آخر. توَجَّهَت إليّ المحامية المُوكّلة بالقضية من طرف النّيابة فقالت لي إنّ لديهم عرضًا جاهزًا لإنهاء القضية بصفقة وأنّها تنتظر ردّنا في حال رغبنا بذلك؛ أي الاعتراف بلائحة اتهام مُعدّلَة.
الحقيقة أنّ هذا النوع من الفَوْقيّة في التوجّه والموقف لدى نيّابة الدولة بما يخصّ القضايا الأمنية ليس بجديد، لأنّ من يتَحَكّم بالمصير القضائيّ لغالبيّة هذه القضايا -إن لم يكن بمجملها- هي السُلطة بكافّة أذرعها، وذلك منذ لحظة الاعتقال حتى الإدانة والنطق نهائيا بالحكم. فالأمر شبيه بعرض مسرحيّ من تأليف وسيناريو وحوار وإخراج السُلطات، وليس الفلسطيني المتهم ومن يقف للدفاع عنه إلاّ متفرجين أو “كومبارس” كما يقول المصريوّن، الأمر الذي يدركه جيدًا حتى المتهمين أنفسهم. فما زلت أذكر سؤال موكلي في المرة الأولى التي زرته فيها داخل السجن: “أديش طالبين عليّ؟” في الواقع لم يكن سؤاله مفاجئا على الرغم من كونه سابقا لأوانه وخلال لقائنا الأول، لا بل وبدون مبالغة، إنه سؤال دارج وتقليدي لدى الفلسطينيين المتهمين بقضايا أمنيّة.
كيف لا والقانون الإسرائيلي يُتيح لرجال الشرطة والمخابرات الاعتقال والتحقيق لمدة طويلة قد تصل لأسابيع ولأشهر من دون السماح للمعتقل التقاء محاميه، وأيضاً لتمديد الاعتقال المرّة تلو الأخرى استنادًا إلى موادّ سرية لا يحق الاستجواب بصددها. أضِفْ إلى ذلك من أساليب تعذيب ومعاملة قاسية ولا إنسانية يمارسها مُحقّقو الشاباك، ويخضع لها المعتقلون مما يؤدّي غالبًا بالتوقيع على اعترافات يضع نصّها حرفيا مُحقّقو الشاباك، عدا عن طرق استخدام “العصافير” المتنوعة لابتزاز المعتقل والإيقاع به، وبالنهاية يأتونك بلائحة اتهام مفنّدة مدعومة بـ “اعتراف” وبمواد سريّة لا يمكن كشفها أو فضحها إلاّ أمام القضاة، ولا يحق للمتهم الاطلاع عليها أو الطعن بمدى صحتها مهما كان. وعندما يطعن الدفاع بصحة الاعترافات قانونياً كمحاولة لإبطالها كونها أُتٍّخِذت بالإكراه وتحت الضغط، يأتونك بمئة لبوس ولبوس، فيقف مُحَقّقو المخابرات ليشهدوا أمام هيئة المحكمة على “نزاهة” التحقيق وأساليبه التي للأسف طالما صدّق القضاة هؤلاء المحققين أو على الأقل فضّلوا أقوالهم على إدعاءات المتهمين.
هنا، ربما، يُطرح السؤال القانوني التالي: وماذا في حال لم يستطع رجال المخابرات النيّل من إرادة المعتقل وكسره أثناء التحقيق، وبالتالي ليس هناك ما يكفي من مواد لتقديم لائحة اتهام أو للإدانة؟؟ إنّ هذه الإمكانية واردة ولكن السلطات قد تستخدم عندها قوانين وأنظمة تُمكنها من فرض الاعتقال الإداري لمدة أشهر وسنين من دون محاكمة- وهذا غالبًا ما يحدث.
وعليه، ليست هناك عدة خيارات أو إمكانيات قانونية أمام وكيل الدفاع في القضايا الأمنية، وقد تقتصر مهمّته، مرغماً،على الانتقاء بين السيّء والأسوأ؛ بين الخُضوع لقوانين اللعبة (التي تدور على أرض ملعب نيابة الدولة وبين جمهورها) والاعتراف لا محالة بلائحة اتهام مُعدّلة مقابل الاتفاق على حكم أخفّ نسبيًا (ما يسمى “صفقة ادعاء”) وإما الاستمرار في القضية حتى نهايتها الحتمية، أي القبول ليس فقط بلعب دور “الكومبارس” وإنما أيضا المجازفة بابتلاع منجل بدلاً عن موس. أقولها وبصراحة: في هذه الحالة، وهي ليست حالة استثنائية، تتحول مهمة المحامي من وكيل دفاع لوكيل تجارة بعيداً كل البعد عن الرسالة التي تحملها مهنة المحاماة.

أقولها وبصراحة: في هذه الحالة، وهي ليست حالة استثنائية، تتحول مهمة المحامي من وكيل دفاع لوكيل تجارة بعيداً كل البعد عن الرسالة التي تحملها مهنة المحاماة

على الرغم من عقلانية الطرح أعلاه، إلاّ أنه في حالة هذا الفتى كان من الصعب جدا تقبُّله؛ فبعد الاطلاع على مواد القضية ودراسة الملف، تبيّن لي أنّ من وراء الأوراق وما بين الأسطر، عدا عن الناحية الفعلية والقانونية للموضوع، يكمُن جانبٌ إنسانيّ وقصة دراما تدور أحداثها حول صبيّ يعيش وسط عشرة إخوة، هو أصغرهم، حُرِم من نعمة النّظر في إحدى عينيه منذ طفولته لعدم توفر الإمكانيات الاقتصادية لإجراء عملية جراحيّة في عينه، ثم فقَدَ أباه وهو في الثانية عشرة من عمره، مما اضطره إلى ترك مقعد الدراسة والانضمام لباقي إخوته للعمل في الزراعة من أجل كسب لقمة العيش.
أما بعد ذلك فقد استشهد أخوه، الذي كان أكبر منه، في إحدى المواجهات مع الجيش الإسرائيلي، الشيء الذي كان له الأثر الكبير عليه، ومما دفعه لمتابعة درب أخيه فكانت بداية نشاطه التنظيمي وهو في الرابعة عشرة من عمره حتى اعتقاله وهو في السابعة عشرة.
العامل الآخر والأهم الذي زاد من صعوبة تقبُّل الواقع المرير في الخيار ما بين السيّء والأسوأ ما هو إلاّ والدة مُوَكلي، الحجّة ام نضال أطال الله عمرها -أم الشهيد وأم الأسير- والعلاقة الخاصة التي نشأت بيني وبينها من وراء الحدود من خلال التواصل الهاتفي قبل وبعد كل موعد جلسة مداولة في قضية ابنها الأصغر. فكلمات الحجة أم نضال عبر الهاتف كان لها وقع خاص ليس فقط على أذنيّ بل أيضا على قلبي وعقلي وروحي، كلمات تبعث الأمل في النفوس وتعبّر عن شموخ وصمود وعزّه، كلمات أشعلت في داخلي أحاسيس هي ذاتها الأحاسيس التي تكتنفني عند مشاهدة وسماع تلك “الحجّة” بطلة المسرحية السورية “غربة” التي تتصدّى بجسمها للبيك وبالذات عندما هددها أحد المسؤولين بالسجن قائلا لها:” بلحشك بالحبس”، فجاء رد الحجّة المدوّي: “تِلحش بابوجتي” (البابوجة هي النعل بالفارسية).
لا أنسى ذلك الإحساس الذي انتابني لحظة أخبرت الحجّة بقرارنا إنهاء المحاكمة بعقد صفقة مع النيابة وعن المُدّة التي سوف يحكم بها ابنها بحسب الصفقة. ما زلت حتى هذه اللحظة عاجزًا عن وصف ذلك الإحساس؛ فمن جهة، لا مفرّ من اتخاذ هذه الخطوة -ابتلاع الموس بدل المنجل- على كل ما تحمل تلك الخطوة بين طيّاتها من مأساة، ومن جهة أخرى ورغم إدراكي لكلّ ما تتحلى به الحجّة من صبر وصمود ونضال إلا أنّ الحديث مهما كان يخص حياة ومصير فلذة كبدها الذي سوف يُحرم من أهم سني عمره لمجرد دفاعه عن كرامته الوطنية، وسوف تُحرم هي ليس فقط من رؤيته لمدة سنين طوال بل أيضا من الحق في زيارته لمجرد كونها غزّية، ولهذا لم تكن مهمة مكالمة الحجة وإقناعها بأن تتقبل الأمر بعقلانية، بالمهمة السهلة أو العابرة.
لا ولن أنسى أبداً رد فعل الحجة بعد أن سمعت مني تفاصيل الصفقة والحكم، لا ولن أنسى السكون الذي ساد المكالمة الهاتفية عندئذ، لدرجة ظننتُ أنّ الاتصال اللاسلكي قد انقطع إلى أن نطقت الحجة قائلة: “ما باليّد حيلة.. اللّي أبوه القاضي لمين تِشكيه؟” ثم عاد السكوت ليكون سيد الموقف وعندها لم بكن بوسعي إلاّ تأجيل متابعة المكالمة إلى موعد آخر…
إنه لقول معبر جدًا: “اللّي أبوه القاضي لمين تشكيه؟” لم تكن تلك المرّة هي الاولى التي أسمع فيها هذا القول، فقبل ما يزيد عن سنتين سمعته على لسان الشّيخ المناضل صيّاح الطوري من قرية العراقيب المُهَجّرة في النقب عندما كنت أعمل محاميًا في مؤسسة “عدالة”، وحالفني الحظ أن اشترك وإياه في فيلم وثائقي قامت بتصويره قناة تلفزيون “العربية” حول عرب النقب وسياسة الدولة ومخططاتها تجاههم، وبالذات قضية الأراضي والقرى غير المعترف بها. فاختار المخرج أن يُنهي الفيلم بمشهد يظهر فيه الشيخ صيّاح جالساً على فراشه في خيمته على أرض العراقيب (قرية هُجر أهلها بعد أن وعدتهم السلطات العسكرية آنذاك خطيا بإعادتهم إليها بعد ستة شهور الشيء الذي لم تفِ به الدولة حتى بعد مرور ستّين عاما تقريبا) حيث سبح الشيخ بمسبحته (الّتي في حوزتي اليوم ومعلقه على الحائط في بيتي) ناظراً إلى الكاميرا بعين تكاد تدمع متنهداً مُعبرًا عن حسرة في القلب قائلاً، بعد لحظات من السكوت، واصفاً مدى عجزه وأبناء قريته لاسترجاع أراضيهم والعودة إلى بيوتهم:

“اللّي أبوه القاضي تشكيه لمين؟”

(الكاتب مُحام يعمل في منظمة اللجنة العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل” وناشط في الدفاع عن حقوق المعتقلين والأسرى الفلسطينيين)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>