النقطة السوداء/ هشام نفّاع

إنّ قدسَ الأقداس والعتبات الحرام والخطوط الحمراء لا تشكّل، مجتمعةً، وصفًا كافيًا لإيفاء النظام حقّه، فكيف لا يتورّع دود الأرض الحقير الفقير المُعدَم هذا عن الاقتراب من أذيال مجد النظام؟ والله إنه يجب جلده وسلخ جلوده واستدعاء الحجّاج لضربه ضربَ غرائب الإبل

النقطة السوداء/ هشام نفّاع

bullet

|هشام نفّاع|

hisham-qadita

فجأة راحت النقطة السوداء تتمدّد. من طرف القلب تفشّت كقطرة دم سقطت في بحيرة وراحت تتفكّك إلى خيوط متشابكة، هلامية الكثافة، خفيفة تتآكل، وهي سائرة بغير انتظام نحو العدم.

أهذا ما تفعله الرّصاصة بالبشر؟ ليس مؤكدًا. ليس مؤكدًا أصلا أنّ رصاصة أصابت رأسه. ألم تقرؤوا بيان الناطق بلسان الجيش؟ مهلا، كيف يكون لسانُ الجيش؟ أكلسان عظاءة، أفعى، حرباءة.. لحظة، لماذا هذا الإصرار على تأنيث البشاعة؛ يا للذكوريّة المقيتة. حسنًا: أكلسان ضْبع يسيل منه لعاب ممزوج بقذارة جيفة؟ ولكن ما الفرق، أيدولوجيًا، إن كان التشبيه محشورًا في شدقيّ عظاءة مؤنثة أم بين أنياب ضبع مذكّر؟ هل يوجد في هذا الفضاء الآسن الفاصل بين تشبيهيْن مقززيْن، متّسع للإيديولوجيات أصلا؟ لا أدري. ثم إنه لا داعيَ للمكابرات الإستعارية من الأساس، فلا سبيل لمعرفة كنهِ لسان الجيش، فهو ينطق عمومًا من مستنقعات معتمة لا سبيل لبشر مثلي للوصول إليها، هذا لو أخذنا في الاعتبار الاحتياطات العسكرية القاتلة المعتمدة حولها ابتداءً بالأسلاك الشّائكة المكهرَبة مرورًا بحقول الألغام وحتى بنادق القناصة. فكيف ستقطع كلّ هذا؟ وهل يستحقّ الأمر أصلا مثل تلك المخاطرات بغية العثور على الاستعارة الدقيقة للسان الجيش؟

ألم تقرؤوا بيان الناطق بلسان الجيش؟ مهلا، كيف يكون لسانُ الجيش؟ أكلسان عظاءة، أفعى، حرباءة؟

إذًا، لنترك المسألة كما هي: إنه لسانُ الجيش، الذي يقف على سطحه المُحرشف الرماديّ الذي تلوح منه نتوءات حمراء قانية، مخلوقٌ هلاميّ مخاطيّ يترجرج كلما نطق فيسيل منه الكلام كقيء آسن من معدة ملوثة بطعام فاسد اجترّه دود أصفر مريض.

ها قد نجحنا في صياغة الاستعارة من دون أن نقصد ويا للقرف.

أصلا، في هذه المرحلة التي سنصف ما وقع فيها، لا وقتَ للتريّث في المشي والتفكير في شيء. فالرصاص الآن بكثافة البيوت الحجرية الشاحبة في هذه الجهة من البلدة، وقد تطالني إحداها لو تلكّأتُ، فكيف سأكمل حينها سرد الحكاية؟

كيف بدأ كلّ هذا؟

لو اعتمدنا على الصحف التي صدرت في اليوم التالي، فإن الأمر بدأ وبدا عاديًا تمامًا. لا سبيل حتى لاستخراج قصة صحفية فاقعة منه تستحقّ الذكر ولو في مربع بمساحة 2سم × 2سم على صفحتها الأولى يوجّه القارئ إلى إحدى الصفحات الداخلية. فهي مجرّد أحداث شغب قادها نفر من الجنائيين الدهماء الذين استغلوا حدثًا دراميًا لتفريغ نزعاتهم المنفلتة من قلب جيناتهم المشوّهة في أصل أصلها. بل لقد قيل في بعض العناوين المرسومة بعنايةِ قنّاص لا يطيق تبديد طلقة واحدة هباءً من دون دماء، إنهم –الدهماء، هؤلاء الأوغاد عديمو الذوق والثقافة الذين لا يتقنون استعمال الشوكة والسكين- قد كسّروا حتى محطات سحب النقود الأوتوماتيكية، والعياذ بالله.

وفي لحظة لم يسجّلها أحد لاشتداد الأحداث على الزمن، مدّ ضابطٌ رابطُ الجأش يده القابضة على المسدّس الأوتوماتيكي وأطلق ثلاثة أو أربعة عيارات أصاب بعضها أمّ رأس الملاحَق المشبوه- فقُتل على الفور

قال الناطق: في ظهيرة ذلك اليوم، اضطرّت قوة عسكرية خاصة الى إطلاق النار على شاب حاول دهس نصف فرقة من الجنود الذين وقفوا بانتظار حافلتهم التي ستقلهم الى قواعدهم، قبل أن يهرب في الشارع الرئيسي بشاحنة فارغة ينقل فيها عادة الدجاج من الأقنان إلى المسلخ المرخّص. أحدهم –أضاف الناطق- أخطرَ العسكر بالحادث فصدر أمرٌ بإخراج قوة كبيرة، بعضها أغلق الشارع من طرفيه، وبعضها لاحق المشبوه بمحاولة القتل. وفي لحظة لم يسجّلها أحد لاشتداد الأحداث على الزمن، مدّ ضابطٌ رابطُ الجأش يده القابضة على المسدّس الأوتوماتيكي وأطلق ثلاثة أو أربعة عيارات أصاب بعضها أمّ رأس الملاحَق المشبوه- فقُتل على الفور.

كان من شأن كلّ هذا أن يُقتصر على تقرير قصير في ختام نشرة إخبارية واحدة تنتهي بمحادثة خاطفة مع ضابط القوة الخاصة وقد تمّ تمويه وجهه المثير للفضول بتلك المربعات المحَوسبة الراقصة ليختتم كلامه بالقول إنّ كارثة هائلة قد أُحبطت “وأحيّي جميع أفراد القوة الشجعان”، قبل العودة إلى المذيعة الشقراء لتتابع سرد الأخبار معلنة: “والآن إلى موضوع آخر”.

ولكن، ويا للعنة، لم يُتَح للمشاهدين شيء من تلك الرتابة المسائية المحبّبة!

فقد سارع المتطرفون بحسب المذيعة إلى إعلان السائق الصّريع ضحيةً قُتلت بدم بارد. آخرون قالوا إنه شهيد، والبعض بالغ فقال إنه سقط كبش فداء على مذبح قتلة محترفين يتغطون بأردية رسمية. كان هؤلاء الأخيرون هم الأخطر. فقد فاح من تحليلهم بعض رائحةٍ لفوضويّة ظنّ رفيعو الذوق أنها غربت عن العالم إلى غير رجعة، ليتفاجأوا أنها تتردّد على ألسنة غوغائيين لا يبدو عليهم أنهم قرأوا شيئًا من التراث الفوضويّ ولم يسمعوا حتى بأسماء مثل باكونين أو كروبوتكين أو برودون. وازداد القلق خصوصًا لأنّ الجَمع بين هذا الموقف والموقف الذي رأى في القتيل شهيدًا، في فتيلٍ مجدول واحد، قد أجّج الوضع بل نشر النقمة كنار جائعة عطشى في الهشيم حتى ثارت الجماهير سريعة الاهتياج العاطفي، فاشتعلت بؤر ساخنة من العنف تهدّدَ النظام العام.

لحظة، لحظة.. النظام العام!

توحي عبارة النظام العام بكثير من الصرامة. فالنظام وحده يكفي لدبّ البرودة في العظام حتى تروح تصطكّ مطلقة تكتكات متتالية كأنها لبنيان على وشك التقوّض في أوج هزّة قويّة على سلم ريختر، فما بالكم لو كان النظام عامًا أيضًا؟ عندها ستصطكّ أبنية عديدة، بل حارة برمّتها، بل أحياء بأكملها، إلى أن يخرج من بينها شبح الرّعب مخيّمًا على أهل النواحي فيشلّ عظامهم ليهرعوا قافلين ساجدين شاكرين لآلهة النظام العام التي تحميهم سواء أكانوا يقظين أم نيامًا.

إنّ قدسَ الأقداس والعتبات الحرام والخطوط الحمراء لا تشكّل، مجتمعةً، وصفًا كافيًا لإيفاء النظام حقّه، فكيف لا يتورّع دود الأرض الحقير الفقير المُعدَم هذا عن الاقتراب من أذيال مجد النظام؟ والله إنه يجب جلده وسلخ جلوده واستدعاء الحجّاج لضربه ضربَ غرائب الإبل.

يجب وصف لحظة إصابة الرصاصة أمَّ رأس الملاحَق المشبوه بدقّة، فالرصاصة أصابته بدقة، ويتوجّب على الوصف أن يحاول ألا يقلّ عنها دقة:

إستنادًا إلى بعض الموسوعات على شبكة الانترنت، تتحرك رصاصة المسدّس بسرعة تتراوح ما بين 800 و 900 متر في الثانية، أي نحو كيلومتر في الثانية تقريبًا. من الصعب تخيّل المشهد حين تصيب رصاصة بهذه السرعة الماحقة رأسًا إنسانيًا. فمهما كان الرأس الانساني يابسًا، معارضًا، مشاغبًا، لن يستطيع صمودًا أمام سرعة فولاذية ماحقة كهذه.

لنحاول التمعّن في النماذج التالية، التي تصف بالمتوسّط ما يجري، أملا في تخيّل لحظة تفجير الدماغ، ولكن من دون أي التزام بالنجاح في تصوير الصورة الناتجة:

تقول إحدى الحكايات: كان يا ما كان طيّار فرنسي يحلق في طيارة خفيفة على ارتفاع 2 كم حين شاهد على حين غرّة شيئاً صغيراً يتحرّك على مقربة من وجهه فما كان منه إلا أن مدّ يده من شُباك طائرته والتقطه، فوجد أنه رصاصة منطلقة.

ما هو تفسير ذلك؟
إنّ الرصاصة كانت منطلقة بنفس اتجاه مسار الطائرة. والرصاصة لا تظلّ منطلقة بسرعتها الابتدائية التي تتراوح بين 800 و 900 متر في الثانية، إذ أنه نتيجة لمقاومة الهواء تقلل الرصاصة من سرعتها تدريجياً وعند نهايتها تهبط سرعتها إلى 40 م/ث فقط وبمثل هذه السرعة كانت تطير الطائرة في الوقت نفسه وهذا ما جعل الرصاصة تبدو كأنها ساكنة بالنسبة للطيار فأمكنه التقاطها بكل سهولة!

وفي رواية أخرى:

سرعة بعض الرصاص هي تقريباً 1500 متر/ثانية.. أي أنّ الكاميرات الحديثة بالكاد تستطيع إلتقاط بضعة صور لها خلال الثانية الواحدة! فما بالكم بالطريقة التي يلتقطها بها رأس بشري ليست له سرعة وميض الكاميرا؟ واضحٌ أنه لن يلتقط ولو لمحة منها لأنه سيكون قد تهشّم تهشيمًا.

إستنتاج: لقد فجّت الرصاصة رأس الشاب بسرعة لا تقل عن 900 كم/ساعة.

إذن في كل الأحوال، كانت رصاصات الشرطة المذكورة أعلاه في أمّ رأس الملاحَق المشبوه سريعة جدًا. ولكن كيف كانت لحظة اختراقها لجلدة ثم عظم الرأس وما فيه. لنترك التحليل ونتركّز في الخيال: شظايا رفيعة وأخرى أغلظ سوف تفلت من موقع ارتطام الرصاصة بالرأس، هي خليط من لحم وشعر وجلد وبقايا جسدية بشرية محترقة قد تكون لها رائحة شواء مُثير للغثيان. ستنتشر في مساحةِ دائرة، مما يصعّب احتساب نصف قطرها لعدم توفر ما يكفي من متغيّرات لضرورات الحساب الرياضي. ولو أنّ الكاميرا الحديثة المذكورة جاءت بنفسها لالتقاط صورة لما يجري فالأرجح أنها لن تتمكن من التقاط شيء يُذكر لأنّ ذلك الخليط المفتّت المحروق المتطاير سيرشق عدستها وهو يطرطش بسرعة رهيبة، ليحجب عنها الضوء الضروريّ لتجميد هذه اللحظة الدقيقة.

توحي عبارة النظام العام بكثير من الصرامة. فالنظام وحده يكفي لدبّ البرودة في العظام حتى تروح تصطكّ مطلقة تكتكات متتالية كأنها لبنيان على وشك التقوّض في أوج هزّة قويّة على سلم ريختر، فما بالكم لو كان النظام عامًا أيضًا؟

هذا ما حدث تقريبًا للشّاب الملاحَق المشبوه في تلك اللحظة الحاسمة التي تحوّل فيها الى ماضٍ. أو لنقلها ببساطة: لقد قُتل فورًا. تسألون ماذا كانت سرعة وفاته؟ لا توجد حتى الآن وسائل لاحتساب هذه الأمور. ثم أنه ما معنى الإطناب في كلّ هذا. لماذا هذه المحاولة السّافرة التي تختبئ خلفها محاولة آثمة لتأجيج النقمات المؤجّجة أصلا. إنّ هذا تآمرٌ مخطَّط يحاول الاختباء بين سطور السّرد الأدبيّ بغية التحريض والمساس بالنظام العام. يجب إطلاق رصاصة في أمّ رأس هذا الكلام!

حسنًا، من غير المعروف إذا ما تنبّهت السلطات وأرسلت أحد قنّاصتها لكتم أنفاس الفقرة أعلاه، ففي النتيجة ها هي موجودة ولا تزال متاحة للقراءات. وبالمناسبة، لم نعرف إذا ما كانت أقيمت لجنة للتحقيق في هذا التقاعس الذي لا يُغتفر.

بعد هذا الحدث الخاطف الذي جرى تطويقه ببراعة بوليسية لافتة، اشتعلت مواقد الغضب الشعبي في عدة نقاط. وقد اجتمع على الفور عددٌ من الرؤوس المعبّأة بالسّلطة والقوّة والصلاحيات لبحث السؤال: كيف يشتعل الغضب؟ ويُقال إنهم  لم يتمكّنوا من فهم هذا الانفلات الغوغائيّ بعد.. ويُقال أيضًا إن الغوغاء والفوضويين يعيدون الإنفلات فقط لأنهم يحبون مساعدة تلك الرؤوس على العثور على إجابة للسؤال الصعب: “كيف يشتعل الغضب؟!”

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

4 تعقيبات

  1. نقطتك السوداء أقلقت راحة المواطنين يا هشام
    بالرجاء المحافظة على الهدوء

    قوي، كعادة قلمك
    تحياتي

  2. بورك القلم وبورك صاحبه يا ابن النفاع..

  3. Notwithstanding the obvious merits of the essay, I must point out that reading it felt uncannily like reading a Don Quixote monologue.

  4. هشام نفاع
    انت ثمرة طيبة ، قرائة مقالاتك اكثر من روعة

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>