بين شايلوك وسبعة بيوت مهدومة في اللد، نظرة مُتحدية!/ أودي ألوني

هل تؤمن بينيش حقًا بوجود فارق مبدئي بين الطرد الذي يتمّ تحت غطاء الديمقراطية وبين الطرد الذي يتمّ تحت غطاء النظام الديني. هل ثمة فارق بين الصندوق الدائم لإسرائيل الذي يمنع تأجير الأراضي للعرب باسم القومية، وبين الراب الفاشي إلياهو من صفد، الذي يمنع ذلك باسم الدين؟

بين شايلوك وسبعة بيوت مهدومة في اللد، نظرة مُتحدية!/ أودي ألوني


هدم البيوت في اللد. (الصورة عن موقع "العرب")

هدم البيوت في اللد. (الصورة عن موقع "العرب")

|أودي ألوني|

أودي ألوني

أودي ألوني

في أحد الصباحات، عندما بدأت العاصفة بهزّ أعالي الأشجار، وكانت الكلاب تعوي خوفًا من البروق والرعود، خرج 50 طالبًا وطالبة بأعمار مختلفة إلى المدرسة في اللد. وقد انكبّ معظمهم خلال النهار على الدراسة، آملين أن تهدأ العاصفة قليلاً كي يعودوا بأمان إلى البيوت التي وُلدوا فيها وترعرعوا. وعند سماع جرس نهاية اليوم ركضوا جميعهم باتجاه بيوتهم، إلا أنّ العاصفة كانت تشتدّ ومعها الرغبة في الانضواء تحت دفء البيوت السبعة التابعة لعائلتهم الكبيرة، عائلة أبو عيد.

ولكن عند وصولهم البيت كان البيت مهدومًا حتى أساسته. وقف الطلاب الخمسون مشدوهين أمام البيوت السبعة المهدمة وأمام شجرة النخيل المقتلعة والمياه المتدفقة من الماسورة المكسورة. وقفوا جامدين أمام الأثاث المرميّ وأمام صراخ أمهاتهم اللواتي كُنّ يواجهن آلة الهدم وحدهنّ. ومن هدم بيوتهم؟ فالعاصفة لم تهدم بيوت الطلاب الخمسين ولم تحترق البيوت بنيران الأحراج؛ لقد هدمها مقاولو الهدم التابعين لدولة إسرائيل اليهوديمقراطية بتصديق من المحكمة العليا اليهوديمقراطية. هدموها حتى الأسس فيما كان الجيران اليهود ينظرون بشماتة إلى ما يحصل.

هل يُعقل أنّ المحكمة لم ترَ مصلحة الأولاد، مواطني الدولة، لا لشيء إلا لأنهم فلسطينيون؟ والآن، فيما يتكرر شعار تهويد اللد، هل يمكن أن نشكّ في أنّ المحكمة العليا تلعب –ثانية- دورًا فاعلاً في ارتكاب جرائم العنصرية والنكبة المتجددة؟

عندما وصلنا، سهيل نفار من فرقة “دام” للراب إلى البيوت، لم نجد حجرًا على حجر؛ لم نجد إلا سلسلة من الركام في قلب الحيّ كي تكون عبرة ودرسًا. صوّر سهيل الركام، فيما أخفيتُ دمعتي. ولكنّ ما يجدر أن يكون هنا والآن هو الغضب وليس الشفقة. يجب أن نكون أقوياء وأن نتفكر في سبل النضال. وفي هذه الأثناء، وبالقرب من ركام البيوت، أقاموا خيمة احتجاج وملجأً للعائلات. لم تترك آلة الهدم بيتًا أو اثنين كي يكونا مأوًى ولم تنتظر حتى الربيع للتخفيف من المعاناة. يبدو أنهم رغبوا في تنفيذ الهدم بأكثر الطرق إيلامًا وإذلالاً.


ترانسفير

هناك الكثير من القوى في السياسة الإسرائيلية تأمل في أن يثور الفلسطينيون في إسرائيل، وعندها سيكون بالإمكان طردهم إلى خارج حدود الدولة. هذه القوى تقول إنها لا ترغب في “حلّ نهائيّ” لأنها تعارض الجينوسايد، فهم ليسوا برابرة. كل ما يرغبون به هو التأكد من عدم تكاثر العرب كالأرانب فوق أرض إسرائيل المقدسة. لذلك وُجدت قوانين الولاء ولذلك يقومون بتقليص حيّز المعيشة ولذلك يقومون يومًا بعد يوم بأفعال تُنتج تغريبًا أمام مواطني إسرائيل العرب.

هدم بيت هو عملية فظيعة في أيّ سياق كان، إلا أنها تكتسب فظاعة ساطعة إذا كانت تهدف لحمل الناس على تبيان من مسموح له البقاء في بيته حتى من دون تصريح ومن لا يحق له. المحكمة العليا تملك المعلومات عن الحي اليهودي المحاذي، “غانيه أفيف”، الذي جرى التصديق عليه بعد بنائه. كما أن المحكمة العليا تعرف أنّه جرى بناء جسر فوق سكة القطار لخدمة الحي الجديد كي لا يُدهس الأطفال اليهود، فيما مدّوا السكة الحديد في قلب الحيّ العربيّ من دون بناء أيّ جسر. المحكمة العليا تعرف بشأن الأحياء التي يبنونها للمستوطنين المتدينين في اللد، بدلا من بناء حي فاخر لأولئك العرب الذين تطمع الدولة في أراضيهم. المحكمة العليا تعرف أنّ هناك نهب زاحف ضد أبناء الشعب الفلسطيني مواطني دولة إسرائيل، في المدن المختلطة يافا وعكا واللد.

المحكمة تعرف وتتعاون. لقد رأيت بأم عيني سعادة القاضية دوريت بينيش تُصدّق عمليًا وفعليًا وفي وقت لاحق على حيّ جديد غير قانوني البتة، يقع على أراضي بلعين المنهوبة. لهذا، من المثير بمكان حقًا، أن نعرف لماذا لا تُصدّق على حيّ للفلسطينيين في اللد، يعيشون فيه منذ عشرات السنين؟

أنا أتهم المحكمة العليا في دولة إسرائيل بأنها تخدم وبإخلاص إيديولوجيا عنصرية، وهي لا تختلف كثيرًا عن عنصرية الحاخامات اليهود الذين وقعوا على منشور قوانين نيرنبرغ الإسرائيلية. وكما في المحكمة التي وردت في مسرحية شكسبير “تاجر البندقية”، التي “طعجت” القانون المدني لصالح الحاكم المسيحي كي يمسّ بشايلوك اليهودي، هكذا تحولت المحكمة العليا الإسرائيلية في أيامنا إلى “مغسلة الكلمات” الخاصة بالاحتلال والنهب على خلفية قوموية.

هل تؤمن بينيش حقًا بوجود فارق مبدئي بين الطرد الذي يتمّ تحت غطاء الديمقراطية وبين الطرد الذي يتمّ تحت غطاء النظام الديني (تيئؤقراطية). هل ثمة فارق بين الصندوق الدائم لإسرائيل (كيرن كييمت) الذي يمنع تأجير الأراضي للعرب باسم القومية، وبين الراب الفاشي إلياهو من صفد، الذي يمنع ذلك باسم الدين؟ من وجهة نظر الفلسطيني كلاهما يتبعان للماكينة النشطة الكبيرة التي تعزز وتقوي إقصاءه وإبعاده عن الحيّز العام وتُكرّس مكانته كغريب في وطنه.


ذكريات شكسبيرية

قبل شهر شاهدتُ أل باتشينو يلعب دور حياته، شايلوك، على خشبة برودواي. وبعد أن جرّده أهل البندقية المتنورون من كل أملاكه أجبروه على التعمّد كمسيحي. وقد أضاف المخرج مشهدًا مُقززًا لا يظهر في مسرحية شكسبير. ففي المشهد نرى أهل البندقية يُعمّدون شايلوك المهزوم مسيحيًا، فيخرج أل باتشينو من العُمّاد مُبتلاً ومُهانًا، محنيًا وعاجزًا أمام الحاكم “القوي الرّحيم” الذي أبقى على حياته، بعد أن جرّده من منزله ومعتقده وكرامته الشخصية.

يرفع شايلوك قلنسوته التي وقعت على الأرض بيأس، ويضعها على رأسه ثانية وينظر صوب أهل البندقية الفرحين. وتبدأ نظرته كنظرة يائسة ومهزومة، إلا أنها تتقوّى وتصبح حادة، ثم يقول: أنا شايلوك، ابن دين موسى، أومن بإله الانتقام؛ سأعود وأستردّ أملاكي بالقانون.

في ذلك اليوم الملعون الذي هُدمت فيه البيوت، أطلق الرصاص على كلب محمد، أحد الأولاد الخمسين الذين خرجوا في الصباح من بيوتهم وعادوا إلى ركامها. كانت نظرة الأب إلى ابنه الجاثم على عتبة بيته المهدوم يحمل بين يديه جثة كلبه المذبوح، كنظرة شايلوك اليائس وهو ينظر إلى أهالي البندقية الفرحين بقدرتهم على ظلم الضعيف تحت حماية دستورهم الليبرالي. هذه النظرة تتحدّى وتقول: أنا باقٍ هنا إلى الأبد- أنا فلسطيني.

(أودي ألوني سينمائي وكاتب وناشط يساري معروف، من مؤسسي وقياديي حملة مقاطعة إسرائيل في العالم؛ الترجمة العربية للمقالة خاصة بموقع “قديتا”.)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>