تذكروا يوم دعا عرفات كلينتون لحضور جنازته!/ هشام نفّاع

الشعب الفلسطيني قام من رماد النكبة والتهجير والاحتلال وجميع الحروب الإجرامية. وهو سينفض عن ثيابه كل وُريقة لا تستوفي حقوقه، كما ينفض كلّ كادح شريف الغبار عن ثيابه المتواضعة.. أما بالنسبة لقناة “الجزيرة” فليس لديّ توقعات!

تذكروا يوم دعا عرفات كلينتون لحضور جنازته!/ هشام نفّاع



كلينتون وعرفات في مفاوضات كمب ديفيد- تصوير: مجلة "تايم"

|هشام نفاع|

من أغرب وأبلغ الدعوات التي خرج بها الراحل ياسر عرفات، هي تلك التي دعا فيها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون لحضور جنازته. يومها، في تموز 2000 خلال قمة كامب ديفيد، اشتدّت الضغوط الأمريكية-الاسرائيلية عليه. ووفقًا لعدة مصادر، قال له كلينتون إن هناك 3 شروط لو لبّاها فسيحظى بالاعتراف به كرئيس دولة فلسطين. كانت تلك شروط حكومة ايهود براك: سيادة منقوصة في القدس القديمة، سيطرة اسرائيلية على المجالين الجوي والبحري وعلى منطقة الغور، الحد الشرقي للدولة الفلسطينية، والاعلان عن نهاية الصراع مما يعني طيّ ملف اللاجئين. عرفات لم يتوسّع في الإجابة واكتفى بالقول للرئيس الأمريكي: “يبدو أنك لم تنم جيدًا ليلة أمس”، وخرج من الاجتماع.

تم إرسال أحد مساعدي كلينتون، الذي جاء عرفات موبخًا بالقول: “ما هكذا يخاطبون الرئيس الأمريكي!” ثم أبلغه بأنه سيطلب له موعدًا مع كلينتون كي يعتذر ويعلن قبول الشروط. فردّ عرفات: إذًا أنقل له الدعوة لحضور جنازتي.

كانت الرسالة بسيطة: هناك خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها. وحتى لو قبلها المفاوض فسوف يرفضها الشعب الفلسطيني. وهذه الرسالة لا تزال سارية المفعول. هي خارج نطاق التقادُم.

قناة الجزيرة “القطرية” تنسب تنازلات خطيرة لبعض المفاوضين الفلسطينيين. أقول بعضهم لأنّ ما ورد فيها يناقض الموقف الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية. إنها لا تعبّر عن الموقف الفلسطيني. وحتى لو جرى طرحها في باب “الأفكار” أو “اللعبة التفاوضية”، فهي لن تساوي بنظر صاحب القضية الأول والأخير –الشعب– قيمة الحبر الذي كتبت به. هذه الأوراق غير ملزمة لأحد. ولو كانت صحيحة فيجب محاسبة وتنحية من تسلّى بها. يبدو أنّ الأمر بحاجة الى تحقيق فلسطينيّ داخليّ مستقل.

• •

قبل سنوات كتب زميلنا العزيز الذي رحل هذا الأسبوع، الكاتب والصحفي عفيف سالم، مقالا في “الاتحاد” بعنوان: “لو أننا يوني بن مناحيم”. والمذكور كان مراسلا في اذاعة سلطة البث الاسرائيلية وكثيرًا ما كان يأتي بتصريحات ومعلومات مصدرها مفاوضون فلسطينيون. يومها غضبنا بشدة على تهرّب بعض المفاوضين من توجهات الجريدة إليهم، فكتب عفيف سالم ما كتب بشكل نقديّ ثاقب.

أشير اليوم الى هذا المقال لأنه كثير الدلالات. أولها يتعلق بـ “خطر” الانزلاق في متاهات التفاوض حين يكون ملفوفًا بسريّة مبالغ بها. التفاوض يتطلب سريّة، نعم، ولكن ككل شيء يجب أن تكون له حدود. الأمر الثاني يتعلق بـ “خطر” انبهار المستضعَفين (حتى لو كانوا جزءًا من “سلطة”!) بسطوة الأقوياء أصحاب الهيمنة. فمن المريع الحديث عن أنّ “قيادات” أمنية فلسطينية انساقت في دروب جهنّم تنسيق اغتيالات مقاومين فلسطينيين. هذا يتطلب، دون تأتأة وتجميل، تحقيقًا، إدانة وعقوبات لو اتّضحت صحة الشبهة.

الدراماتيكيّة جزء من المضمون. والتوقيت جزء من المضمون. والانتقائية ووضع الشدّة وعلامة الاستفهام وعلامة التعجّب، جزء من المضمون. إجتماع هذه كلها هو ما يؤلف الموقف السياسي

لكن القضية لا تبدأ ولا تنتهي هنا. من يريد إجراء معالجة جذرية، عليه النظر في الدور الأمريكي المتجسد بهيمنة الجنرال الأمريكي كيث دايتون المشرف على إعداد قوات الأمن التابعة للسلطة في رام الله. ويُقال هذا، لمن يسعون لإصدار بطاقات التخوين والعمالة، لكنهم لا يجرؤون على الإشارة إلى المسؤول الأول، لأنه مسؤول أمريكي. لأنه جنرال أمريكي ولا بدّ أنه يقوم بزيارات، بين الحين والآخر، الى إحدى اكبر القواعد العسكرية الأمريكية المُقامة على أرض قطر، التي يملك نظامها “الجزيرة” ويديرها. ولديّ بالمناسبة للقناة اقتراح مهنيّ: هل يمكن تقديم تحقيق صحفي بنصف حجم تحقيق “كشف المستور” عن تلك القاعدة الأمريكية (“السيلية”) على أرض قطر؟ تلك التي انتقل إليها المقرّ الميداني للقوات الخاصة التابعة للقيادة العسكرية المركزية الأمريكية للمنطقة الوسطى عام 2001. وقد تم نقل ذلك المقر الميداني تحت ستار التمرين العسكري “نظرة داخلية” (Internal Look) الذي كان في الواقع تمريناً على خطة قيادة العدوان على العراق  Operation Iraqi Freedom.

هل يمكن للجزيرة تقديم معلومات للشعوب العربية عن هذه القاعدة؟ عن دورها التجسسي على دول المنطقة؟ عن مساهمتها في تخريب العراق؟ عن المُلقى عليها من مسؤوليات لضرب إيران المحتمل؟ عن العلاقة الشائكة بين أنظمة النفط العربية، ومنها قطر، وبين آلة الهيمنة العسكرية والاقتصادية الأمريكية؟ ألا تستحق قضية بهذا الحجم كشفًا للمستور؟

لا أقول هذا مناكفة، بل من باب وجوب كشف مواقع الخطر الكبرى على مصالح الشعوب العربية.

• •

من حق، وواجب، وسيلة الإعلام تقديم معلومات للجمهور. من حقها الحصول على تسريبات ووثائق سرية. لا لوم هنا على القناة التلفزيونية، بل على من لا يعرف كيفية الحفاظ على مستنداته. في الوقت نفسه، من السذاجة تصوير المعادلة بشكل صبيانيّ وكأنها بين الاعلام ممثلا بالجزيرة وبين السياسة ممثلة بالسلطة الفلسطينية. لا يوجد إعلام يخلو من السياسة. لذلك يجب طرح الأسئلة عن الدوافع السياسية لدى “الجزيرة”، ليس خلف كشف الوثائق، بل خلف شكل عرض الوثائق الدراماتيكي الانتقائي وحتى التخويني أحيانًا. الشكل جزء من المضمون. والدراماتيكيّة جزء من المضمون. والتوقيت جزء من المضمون. والانتقائية ووضع الشدّة وعلامة الاستفهام وعلامة التعجّب، جزء من المضمون. إجتماع هذه كلها هو ما يؤلف الموقف السياسي.

القناة القطرية عيّنت نفسها حاكمًا متعجرفًا يُصدر الأحكام. لم توجّه اتهامات لمسؤولين فحسب، بل أهانت كرامة الفلسطينيين كشعب (هذا يشمل الوطنيين الفلسطينيين ولكن ليس بالضرورة الوطنيين الجدد!). لقد حمّلت القناة هذا الشعب وزر كل شيء. ومن خلال صمتها عن الدور العربي الرسمي، وعن مسؤولية حكومات التخاذل والجُبن العربية التي تتمسّح ككلاب أليفة بحذاء الكاوبوي الأمريكي. هكذا برّأت ساحة هؤلاء. لم أستغرب الأمر، ففي نهاية الأمر هي قناة مملوكة لأحد هؤلاء المدجّنين.

• •

أكثر ما يثير الحنق في هذه القضية هو شدّة الضحالة السياسية لدى بعض الشرائح. يبدو أنّ الإعلام أقوى حتى مما تصوره، أواسط القرن الماضي، مفكرو “مدرسة فرانكفورت”، حين يروح الإعلام يداعب الغرائز ويبتعد عن محاورة العقول. حين تستبدل التقنيّاتُ المثيرة المضمونَ. حين يعلو الضجيج على الكلمة. وحين تتفوّق الجعجعة على النقاش المعمّق غير الميتّم من السياق.

إنّ كل ما جاءت به القناة القطرية هو ذو سياقات تتفاعل منذ عقدين أمام عيون الجميع. أمام عيون من يتعاطى بجديّة مع السياسة، وكذلك أمام عيون من ينشغل بها في ساعات “الريتنغ” لا غير. ولكن من يخشى على قضية هذا الشعب يجب أن يكون مصابًا بالرعب مقابل الانقسام الفلسطيني. هذا الذي يمثّل الذروة الأكثر انحطاطًا لتفاعلات العقدين الأخيرين. من تهمّه قضية شعبه يجب أن يساوره القلق من سلوكيات إعلامية وسياسية تفضي في المقام الأول إلى تعميق الشرخ الفلسطيني الداخلي. وهذا ما تفعله “الجزيرة” بالنتيجة. فالمعلومة، أية معلومة، هي مادة. يمكن أن تستخدمها كدواء أو مسخها سمًا قاتلا، بالقدر نفسه. إنها مسألة خيارات وأخلاقيات. واختبار الاختيار يكون حين نسأل: هل تساهم كصحفي بهذه المعلومة لتصويب مسار السياسة، أم لتكسر ثقة شعب بأكمله بنفسه، وتضرب أمله بقنبلة؟

هنا يجدر القول: في الاستوديوهات التي تعيش بفضل النفط وحماية البوارج والقواعد الأمريكية، من الصعب موضوعيًا أن يظل المرء على صلة بوجدان الناس وهمومها ومصالحها. المسألة ليست خيارًا بل تكاد تكون أشبه بنتيجة بنيويّة المنشأ.

• •

بالنسبة للمفاوضين، أنا على ثقة بأنّ كلّ من فاوض أو سيفاوض باسم الشعب الفلسطيني مدرك لحقيقة أن هذا الشعب يقول له: راجعوا العبرة من موقف وسلوك عرفات. كل ورقة تفاوض أو حتى اتفاق تنتهك الحقوق الفلسطينية المتفق عليها وطنيًا ومعترف بها أمميًا، سيكون مصيرها المزابل. وكل من يفرّط لن يجد أكثر من ركن صغير في مزبلة التاريخ. دعكم من الأعراف التافهة المحاطة بأهمية فارغة وسريّة عديمة النفع. فهذا الشعب قام من رماد النكبة والتهجير والاحتلال وجميع الحروب الاجرامية، وهو سينفض عن ثيابه كل وُريقة لا تستوفي حقوقه، كما ينفض كل كادح شريف الغبار عن ثيابه المتواضعة. الحاجة ماسّة ليس في مراجعة الوثائق المجتزأة فحسب، بل في مراجعة آليّات التفاوض برمّتها. من شأن التفاوض أن يشكّل وسيلة مقاومة سياسية. وككلّ مقاومة، سيتهددها الفشل، لو دبّت فيها “فوضى سلاح التفاوض”.

بالنسبة للقناة القطرية، لا يوجد لديّ ما أقوله. ليس لديّ أية توقعات منها. عمومًا لا أعتقد أنّ أيّ خير قد يأتي لشعبي من القصور والأمراء والملوك- ولا من المماليك طبعًا.


الواقع أكبر وثيقة: الوساطة الأمريكية هي عمق المأساة/ فراس خطيب


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. يا اخ هشام
    صحيح الجزيره ل تتض االقاعده ااميركيه بس هذا ل يعني عن كشف المستور فلتتبرع قناه اخرى بالقيام بهذه المهمه

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>