حدوتة مصرية/ فراس خطيب

الثورة لا تعني فقط الملايين المتدفقة نحو ميدان التحرير في مصر العاصمة، لكنَّها أيضًا الفرح المولود من رحم الشقاء، حين يتمرد القلب على معذبّيه فيبتسم * الورود التي زرعها النظام قبل زيارة باراك أوباما للقاهرة، وانتزعها بعد مغادرته، ستزهر وحدها من دون أوباما!

حدوتة مصرية/ فراس خطيب


الإسكندرية التي نشتاق إليها. تصميم: شريف شعبان (الرجاء الضغط على الصورة لتكبيرها)


|فراس خطيب|

لا أحد يعرف ماذا تخبئ الأيام القادمة، لكنَّ الخروج إلى الشارع أيقظ الإحساس فينا. فلم تعد مصر إلى أهلها فحسب- عادت إلينا أيضًا منتصرة.  أعادت الينا لغتها. حروف “الكورنيش” و”الكوبري” وُلدت من جديد على ألسنة الشباب الأسمر المنتشر في شوارعها المنهكة. تسعة أيام والناس يحكون ما يشعرون من دون الاكتراث لرغيف الخبز أو الوظيفة. تسعة ايام من دون ظهور “ردّاحات” سياسيين يدافعون عن مصالح الأمريكيين في المنطقة ويصرخون “لا جدار فولاذيًا بين غزة ومصر”، ولا مرتزقة يدافعون عن حصار غزة بقولهم “إحنا لسّة مدخلينلهم شاحنة طحين”. الناس هم من يجتاح الشارع وعلى الشاشات. الاتصالات مقطوعة لكنَّ القلب يخفق والعيون تتواصل. “يا مصر عودي زي زمان” غنىّ الشيخ إمام، ومصر توفي بعهدها وتعود بناسها “الطيبين” كي “يغور النظام بألف داهية”. ولكن من شدة عشقنا لها، نحاف أكثر. الثورة ولدت، حقًا، ولدت، ولكننا نخاف ممّا ستلده الثورة أيضًا.

أحلم بابنة اضعها على ركبتي وأحكي لها عن “أيام يناير وفبراير”. عن ميدان التحرير و”الرئيس السابق” حسني مبارك. كيف صرخنا فرحًا عندما أعلن القصر الرئاسي غيابه. سأحكي لها مبتسمًا أني “كنت طالبًا جامعيًا، فاتصلت أمك وقالت لي مبارك استقال فصرخت فرحًا”. لكني حلمي يغلفه الخوف. أخاف أن أكون مثل والدي الذي حدثني عن الأمل من خطاب عبد الناصر حين حاولوا اغتياله فصرخ: “فليبقى كل في مكانه أيها الرجال”، ولكنَّ الهزائم جاءت بعد الأمل فعاش والدي تفاصيل هزيمة الساعات الأربع في 1967، وعاش من بعدها ليعاصر “موت الأمل” ورأى أنور السادات يزور القدس المحتلة للسلام مع إسرائيل. أخاف من القادم الذي لم يتوقعه والدي: أن تولد الثورة، ويولد الفراغ. فتاريخ الشرق لم يمجّد الثورات؛ فثورة الإيرانيين التي بدأها القوميون واليساريون أصبحت “ثورة إسلامية”، وثورة التونسيين أفرزت ديكتاتورًا. وقائد الثورة الليبية لا زال قائدًا لـ “الثورة” ليحطمها منذ أربعين عامًا. والفلسطينيون يعانون بعد عذاب سنين قادة منقسمين إلى شقيّن. هل ستشفى مصر من هذا؟ نسأل في هذه الأيام المجيدة. نقول إنّ الأهم هو “رحيل الدكتاتور” ولكن هل محمد البرادعي حامل “نوبل” للسلام قادر أصلاً على قيادة الثورات؟

أشتاق لأن أرى مقطعًا من فيلم مصري قديم عن الثورات الماضية حين يسأل الجندي حبيبته: “ماذا تريدين من الإسكندرية” فتقول له: “أنت والحريّة”

تساؤلات في أفق المكان تتعب الجسد. أعود إلى نفسي بعيدًا عن السيناريوهات السوداء لأتمتع بالمشاهد وأنتظر رحيل فاروق الثاني. سأترك التحليل والتساؤلات والخوف جانبًا وأتابع القاهرة. هناك القاهرة، ليتها كانت هنا كما نحب أن نقول. سأستعيد خطابات جمال عبد الناصر، وسأتجاهل خطاب تنحّيه بعد الهزيمة- فلا وقت للحزن. قد لا تحتمل الفترة رومانسيات سطحية وأغانيَ، لكنَّ نفسي تشتاق إلى أغنية عن الثورة حتى لو كانت شعارًا. أشتاق لأن أرى مقطعًا من فيلم مصري قديم عن الثورات الماضية حين يسأل الجندي حبيبته: “ماذا تريدين من الإسكندرية” فتقول له: “أنت والحريّة”- فأبتسم وحدي. فهمت أنَّنا بحاجة إليها، أن نفرح للمصريين عشقًا بدلاً من حزننا على أنفسنا حين نرى “رجال الماضي” يركبون السيارات الفخمة ويفاوضون على موت الأغاني. ألا يحق لنا فسحة أمل وقليل من الهواء الاسكندراني؟… “هو نصيب الفقراء فقط بالجنة؟” سأل ذات مرة عبد الناصر في خطابه، وأجاب نفسه: “هم ملهومش نصيب في الدنيا؟ إدّيهم نصيب صغيرّ في الدنيا وحيدوكم بداله نصيب في الجنة”.

لكن الحلم لا يستمرّ طويلاً. أسمع صوتًا غريبًا. عمر سليمان نائبًا للرئيس؟ كيف هذا وهو أصلاً الرئيس الفعلي منذ زمن، يدير ملفات مصر الخارجية والداخلية؟ لا أحد يسمع صوته، لكنه من يقرر أصلاً في الغرف المغلقة. هو النظام. هل ينقلب المصريون على النظام ليولد نفس النظام؟ عمر سليمان من أقرب الناس إلى مبارك الذي عيّنه رئيسًا للمخابرات بعد أوسلو. وحزيران 1995 تعرض مبارك لمحاولة اغتيال في أديس ابابا، قتل بعض من حراسه، لكنه لم يصب بأذى بفضل سيارته المحصنّة التي صمّم سليمان على نقلها من مصر إلى أثيوبيا. منذ ذلك اليوم، بدأ العشق بين الاثنين، وصار سليمان كمن أنقذ حياة مبارك. وتوطّدت العلاقة بينهما إلى حد كبير. فهل هذا الجنرال الاستخباري المتدرب أيضًا في الاتحاد السوفياتي هو بديل للنظام أم انه نسخة أخرى؟ هل سينقذ مبارك مجددًا؟

تنفض غبار الأفكار بين الرومانسية والعشق والناس وبين الخوف من الآتي. هكذا شعورنا تجاه مصر، نغضب عليها من شدّة الأمل، ونغني من بعدها أغنية أخرى: “لسه الأغاني ممكنة”. نعيش بين الخوف والفرح، بين التحليل والأغاني. في ميدان التحرير ثمة “حدوتة” يكتبها شعب عن نفسه. عن الغضب الذي صار حلمًا، وعن السّبات الذي صار فوضى. ومشاعرنا أيضًا تختلط في سماء هذا البلد، نفرح للملايين ونخاف من الآتي. نضيع بين الأسماء: سليمان والبرادعي والأخوان المسلمين والطنطاوي. نحلم بنهاية النظام، ونخاف من نظام قد يأتي. لكن في نهاية السطر، ورغم الخوف من الآتي، مصر تتحرك من جديد. الورود التي زرعها النظام قبل زيارة باراك أوباما للقاهرة، وانتزعها بعد مغادرته، ستزهر وحدها من دون أوباما!


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>