“حذارِ أن تتحول قراءة أيٍّ كان من الكتب يؤلفها كُتاب كُثر، إلى تسكع عشوائيّ”

عندما تشتهي التوجّه إلى شخص آخر، عُد إلى ما قرأته في السّابق. تعرّف كلّ يوم على ما يُقوّيك أمام الفقر، أمام الموت، وبما لا يقلّ أهمية- أمام البلايا الأخرى

“حذارِ أن تتحول قراءة أيٍّ كان من الكتب يؤلفها كُتاب كُثر، إلى تسكع عشوائيّ”

 


سنكا الأصغر. ماذا نقرأ؟

سنكا الأصغر. ماذا نقرأ؟


|سنكا الأصغر/ Lucius Annaeus Seneca|

عن الرومانية: غدعون كاتس


يخالجني الشعور بأنّ أمامك مستقبلاً جيدًا، اعتمادًا على ما كتبته لي وعلى الأمور التي سمعتها. فأنت لا تراوغ ولا تتلهّى بالمُلهيات. فمثل هذا الاضطراب يدلّ على نفس مُعتلة. فأنا أعتقد أنّ الإشارة الأولى على النفس الساكنة المطمئنة قدرتها على العيش بهذا الشكل والمكوث مع نفسها. ولذلك، حاذر من أن تتحول قراءة أيٍّ كان من الكتب يؤلفها كُتاب كُثر إلى تسكع تحفُّه العشوائية. عليك أن تمكث لدى بعض المؤلفين الإستثنائيين وأن تتغذى منهم إذا كنت ترغب بأن ينغرس في نفسك أمر ما كما يجب. فالموجود في كل مكان- معدوم. ومثل هذا يحدث مع الذين يُفنون حيواتهم في الترحال: فتراهم أغنياء بالمعارف، ولكن لا أصدقاء لهم. وهذا بالضرورة ما يحدث مع أولئك الذين لم يوثقوا رباطهم بمؤلف استثنائيّ، بل يمرّون فوق كلّ شيء بسطحية وسرعة. لا يمكن للغذاء أن يعود بالفائدة على جسد المُسرع إلى قذف ما ابتلعه. ليس هناك ما يُثقل على الصحة كما يُثقل تغيير الأدوية بسرعة. الجرح لا يندمل لدى أولئك الذين يجتهدون بقوة لتطبيبه. النبتة التي ينقلونها بكثرة لا تتقوّى. ليس هناك أمر ناجع لدرجة أن يعود بالفائدة وهو متقلب. فالإكثار من الكتب مَلهاة ومَضيعة.

ولأنك لا تستطيع قراءة كلّ الكتب التي تملكها، إمتلك ما تقوى على قراءته فقط. “ولكن”، ستقول، “أنا أريد أن أتصفح هذا الكتاب وبعدها أن أتصفح ذاك”. لكن تذوُّق الكثير سِمة الشهوانيين. الأمور المختلفة والمتنوعة تُسمِن ولا تُغذي. لا تقرأ إلا للمؤلفين المُمتازين. وعندما تشتهي التوجّه إلى شخص آخر، عُد إلى ما قرأته في السّابق. تعرّف كلّ يوم على ما يُقوّيك أمام الفقر، أمام الموت، وبما لا يقلّ أهمية- أمام البلايا الأخرى. وبعد أن تمرّ سريعًا أمام الكثيرين، إنتقِ شيئًا واحدًا وتأمّله متفحّصًا طيلة اليوم. أنا أيضًا أفعل الشيء ذاته: أنا أستوعب أمرًا واحدًا ما من بين ما أقرأ.

وقد قرأتُ لدى أبيقور ما يمتّ بصلة لهذا اليوم. فأنا أدرج على اختراق قوة عسكرية أجنبية، كمستكشف وليس كفارٍّ. “الفقر الذي يبعث على الرّضا هو مُلك محترم”، يقول أبيقور. وفعلًا، إذا كان يبعث على الرضا فهو ليس فقرًا. ليس المُعدَم هو الفقير، بل الذي يشتهي المزيد. فما أهمية الممتلكات التي يملكها المرء في صناديقه ومخازنه، وما أهمية كم من الناس سيُطعم وكم من الناس سيُدين، إذا كان متعلقًا بالآخرين ولا يحسب ما جناه، بل ما سيجنيه؟

إسأل: ما هو مدى الثراء اللائق؟ أحصل على الضروريّ؛ وبعدها أحصل على ما يكفيك. وداعًا.


لوقيوس أيناوس سنكه (3 قبل الميلاد- 65 بعد الميلاد): فيلسوف رومانيّ من مؤسسي الفلسفة الرواقية. هذه الرسالة المنشورة هنا هي واحدة من بين 124 رسالة كتبها سنكه إلى صديقه لوكيليوس. تُعتبر هذه الرسائل إبداعًا فلسفيًا ويُمكن أن تُعتبر أحد مصادر الموضوعات الإنشائية (essay). نُشر في ملحق الأدب والثقافة في صحيفة “هآرتس”، 9 تموز 2010)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>