دواوين باريس/ رشا حلوة

يوميات دونتها في باريس؛ حزيران 2010 • “غرفة صغيرة وحنونة”، هي ذات الغرفة التي تتنقل من مدينة إلى أخرى، بين مجموعات الأصدقاء المختلفة أينما تواجدوا • غزة، طولكرم وعكّا في باريس حول مائدة مستديرة وصغيرة، عمَّ يتحدث الفلسطينيون حين يلتقون؟ عن طبقة الأوزون؟ • من أين يأتي كلّ هذا العطش لكأس من الميرامية في برد باريس؟

دواوين باريس/ رشا حلوة

باريس. مش دير حنا!

باريس. مش دير حنا!

|رشا حلوة|

عشية السفر

موعد طائرتي إلى باريس -مش طيارة أبوي- كان يوم الأحد صباحًا، تمام الثامنة. لكن في مطار اللد، على المسافر أن يتواجد في المطار قبل موعد سفره بثلاث ساعات على الأقل؛ ثلاث ساعات في هذا المطار تُعتبر قصيرة مقارنة بالوقت الذي يخصّصه الأمن الإسرائيلي لتفتيش المسافر بشكل عام والمسافر العربي بشكل خاص، لكن، الحمدلله، مرقت على خير، حتى الآن.

على أية حال، قضيت نهاية الأسبوع الماضي في رام الله، زيارة تندرج مؤخرًا في سياق الواجبات والاحتياجات التي عليّ أن أقدمها لنفسي أسبوعيًا، وإن كانت زيارة قصيرة لمجرد ساعات معدودة، أو سهرة صيفية ليلية مع أصدقاء مُنعوا من أن يسهروا في حيفا، فنذهب “إليهم” ترافقنا رطوبة المدينة.

نادر هذا المزاج السيء الذي يأتيك قبل رحلة ما، خاصة الرحلات الجوية. باريس، منتصف حزيران، مهرجان موسيقى، كلّ هذه لم تسعف مزاجي، بي رغبة اجتحاتني مساء السبت -أقل من 24 ساعة قبل موعد السفر- تحثني على الاتصال هاتفيًا بمديري كي أخبره بأني لن أرافق المجموعة يوم غد إلى باريس!

- شو انجنيتي؟! هو سؤال تكرر ما لا يقل عن 10 مرات من أصدقاء شاركتهم إحساسي هذا.

لا أعلم لماذا، وما هي الأسباب المركبة لشعوري الأهبل، لربما هي خليط من الأمزجة النكدية المزمنة للإنسان الفلسطيني؟ معقول. أو هي أسباب ما، أزعم بأني أعرفها، جعلت رام الله أجمل من باريس!


13 حزيران 2010؛ 10:30 صباحًا بتوقيت القدس المحتلة: على متن الطائرة

اليوم الأول

وصلنا باريس تمام الواحدة ظهرًا بتوقيت فلسطين، الثانية عشرة بتوقيت مدينة الأنوار، تنتظرنا تاكسي خارج المطار، سائقها جزائري، توتره الملحوظ إزاء تأخر موعد وصولنا كان واضحًا عليه، ومن غير المألوف أن يتوتر سائق تاكسي ينتظر مسافرين عبر الخطوط الجويّة -التأخر هو عامل متوقع لدى مواعيد السماء- إلا إذا كان جزائريًا يوم 13.6.2010 يريد أن ينهي عمله قبل موعد لعبة كرة القدم لفريق الجزائر في المونديال.

الساعات الأولى بعد الهبوط. لم تسنح لنا فرصة استيعاب فكرة باريس أو اكتشاف المكان الذي نقيم فيه، منسوب النعاس المتراكم منذ أكثر من 24 ساعة كان سيد الموقف، ورغبة الغوص في سرير كبير لغرفة باريسية تطل على أحد أكثر الشوارع ازدحامًا وضجة، قد حققت ذاتها.

اتصال لصديق موسيقي فلسطيني يسكن المدينة أيقظني. شو جاي تنامي في باريس؟ ابتسمت لسؤاله، أغلقت سماعة الهاتف واتجهت نحو الحمام، نظرت إلى وجهي في المرآة، لا زال مبتسمًا- ولك إنتِ في باريس!

قهوة باريسية سريعة برفقة صديقي، أنتظر وإياه باقي المجموعة قاصدين موعدًا ما مع موسيقي آخر؛ لبناني يعيش في فرنسا منذ أكثر من عشرين عامًا. أصبح المنفى كـ”بلاطة الهوى”*، يلتقي فيها الفلسطينيّ بأعضائه الأخرى التي انتزعوها من جسده قسرًا!

“غرفة صغيرة وحنونة”، هي ذات الغرفة التي تتنقل من مدينة إلى أخرى، بين مجموعات الأصدقاء المختلفة أينما تواجدوا، بها “روح المكان” ذاتها تلوّن نفسها وفقًا لتفاصيل هامشية، تدعي بأن~ شكلها يتغيّر أحيانًا، إلا أنّ متذوقيها الدائمين يعرفون أنها “دايمًا هي ذاتها”، خاصة بعد انتهاء سهرة ما حين تنهال عليها (أي على الروح) الشتائم الطيبة الصادرة عن الهلاك.

غرفة باريسية تمامًا. الوقت يقترب من التاسعة مساءً، يتقلص الكلام عند إلتقاء موسيقيين، فيصبح الحوار من خلال الآلات، وتران على البزق الشامي المصنوع قبل 14 عامًا، يدٌ تعزف عليهما بالقرب من “القمرة”، على القمرة شمس منقوشة، تشتعل من الموسيقى وتُخرِج الغرفة من جغرافيتها لتعيدها إلى بلاد الشام.

منتصف الليل، نخرج من الغرفة إلى الشارع الباريسي من جديد، عتمة غطت المدينة منذ أقل من ساعة. طقس باريس المتقلب في منتصف حزيران أيضًا يعيدك إليها سريعًا و”الكريب” الفرنسي الذي لا يشبع المعدة.

- ولِك إنتِ في باريس!

(بلاطة الهوى: اسم المكان الذي اعتاد العشاق أن يلتقي فيه في قرية “كفربرعم” المهجرة- شمال فلسطين.)


14 حزيران 2010: باريس

اليوم الثاني

استيقظت باكرًا، جهّزتُ قهوتي، فتحت شباك الشرفة المطلة على إحدى أكبر محطات القطار في باريس. لا شيء يخفف ضجيج الشارع في هذا الصباح سوى صوت الأسطورة الفرنسية “إيديت بياف”، “روح باريس” كما لقبتها الممثلة الفرنسية مارلين مونرو، الأسطورة أيضًا.

لم تتسع ساعات منتصف النهار لترتيبات “حرّة” أو مواعيد خارجة عن إطار العمل تندرج ضمن مخططات “الصياعة” في باريس، في نهاية الأمر وجودي في باريس هو لأسباب غير سياحية- قال يعني!

قبل انتهاء دوامي غير الرسمي في باريس بساعتين، قررت أن أترك المجموعة وأسرق هذا الوقت للقاء صديقين فلسطينيين؛ فنانين تشكيليين يقيمان منذ سنوات لا بأس بها في هذه المدينة الرمادية. لم ألتقِ بهما من قبل. الأول نتواصل سويةً من خلال موقع الفيسبوك والثاني أعرفه من خلال الأصدقاء المشتركين، أحدهم رتب لنا هذا اللقاء فور معرفته بأني في باريس؛ يحدث عادةً حين تكون في رحلة إلى مكان ما وتخبر أحد أصدقائك بذلك، يخصص صديقك فورًا لعقله دقيقة واحدة يفكر بها في أصدقائه الذين يقيمون في المدينة ذاتها ويقترح عليك التواصل معهم من خلال الهاتف أو البريد الالكتروني. ما أن ترسل لأحدهم رسالة الكترونية تخبره بزيارتك، حتى يترك كلّ شيء ويتصل بك لاغيًا كافة مشاريعه كي يلتقي بك.

التقينا في مقهى باريسي؛ كلّ المقاهي والشوارع تشبه بعضها هُنا؛ “لأنك ما بتعرفي المدينة” قال لي صديقي.

غزة، طولكرم وعكّا في باريس حول مائدة مستديرة وصغيرة، عمَّ يتحدث الفلسطينيون حين يلتقون؟ عن طبقة الأوزون؟ معقول، لكن ليس في لقائهم الأول.

الحديث عن رام الله، الذكريات الخاصة لكلّ منا مع المدينة، قصصنا مع تأشيرات الدخول إلى دول العالم، وبخاصة العربية منها، الأصدقاء المشتركون وأخبارهم، الحنين المتراكم، الأمل العنيد واشتياقهما للبحر ومللي منه (في كلّ مرة ألتقي أصدقاء لم يروا البحر منذ سنوات عديدة أو مُنعوا من رؤيته، أكره نفسي لأني أتعامل غالبًا مع البحر بشكل عادي، فيتجدد حبي له إلى أن يأتي اللقاء القادم).

غزة وطولكرم وعكّا في باريس. الشوارع تشبه بعضها هُنا، أو لا يهم، لم يلاحظ أحد أن الشمس غابت، أو أن الشوارع فارغة نسبيًا لأن الجميع ذهب لمشاهدة المونديال، أو أن الجوّ أصبح باردًا والمطر بدأ رحلته إلى الأسفل باتجاه الأرض، لم يلاحظ أحد منّا كلّ هذا إلى أن “عُدنا” إلى باريس.

- ولِك إنت وين؟


15 حزيران 2010: باريس

اليوم الثالث

تساؤلات على أرصفة باريس:

1- بلاش عِتاب: هنالك دائمًا شخص في المجموعة لا يتوقف عن المقارنة بين أكل باريس وأكل جدته، بين “السكالوب” وبين صحن “حشوة ولبن”، بين كمية الأكل التي توضع في صحن باريسيّ وبين كمية الأكل التي تضعها والدته في الصحن!

وهناك شخص ثان في المجموعة منزعج باستمرار من مقارنات الأول، إلا أنه لو غاب الشخص الأول لأخذ الثاني دوره تمامًا وبالتعليقات ذاتها! إذا مش أكتر..

أنا مش فاهمة، ليش هالمقارنة!؟ منذ متى كانت باريس تُشبه دير حنّا مثلاً؟

2- ميرامية: من أين يأتي كلّ هذا العطش لكأس من الميرامية في برد باريس؟ ماله النبيذ يعني؟

3- فغنساوي: بكفي تتفاجئوا إنه الفرنسي ما بحكي إنجليزي!

- “لماذا عليه أن يتكلم اللغة الانجليزية؟” أسأل صديقاً مستاءً من هذه المسألة.

- “لأنها لغة العالم” أجابني.

- “ومن حددّ أنها لغة العالم؟” أساله مرة أخرى.

- “يعني، الغالبية العظمى في العالم تتحدث اللغة الانجليزية”.

- “فرنسا تتحدث الفرنسية، ألمانيا تتحدث الألمانية، كذلك إسبانيا والبرتغال، إلخ..”

- “ماذا عن السائحين؟ يجب على العاملين في الأماكن السياحية أن يتحدثوا باللغة الانجليزية كيّ يتواصلوا مع الزائرين!”

- “ومن قال إن الزائرين بغالبيتهم يتحدثون الانجليزية!؟”

- “عندما يتحدث الفرنسي اللغة الانجليزية سوف يستفيد أكثر”.

-”لم يكن الفرنسي يومًا بحاجة إلى اللغة الانجليزية. 80 مليون زائر في السنة بكفي.. أعتقد أن اللغة الفرنسية مكفية وموفية. “علواه” المسألة هي مسألة لغة فقط.. كمان مرة، طُز بأمريكا!”

4- أسماء: يا صديقتي، لا المحادثات الطويلة عبر الإنترنت، لا المحادثات الصوتية السريعة عبر الهاتف، لا الصور، لا مقاطع الفيديو، لا دواويني الباريسية، لا الرسالة النصية القصيرة عبر الهواتف النقّالة ولا القصص التي سأسردها عليك حين أعود سوف تنجح تمامًا بنقل تفاصيل أيامي في باريس. ليش إنت مش هون؟

5- أصل الليل للسهر: باريس، يا مدينة الأنوار والحريّة، يا معقل الفنانين والسكارى، ليش آخر ميترو بيكون الساعة 12:30 بالليل!؟ ويا ريتها معتمة من زمان..

6- بدون عنوان: لماذا تعرف أحياء باريس أكثر من وادي النسناس؟ لماذا يكون أمل اللقاء أكبر وأقرب في باريس عنه في عكّا؟


16 حزيران 2010: باريس

اليوم الرابع

أشعر وكأني أقيم في باريس منذ شهر كامل، وبأني كُنت في رام الله قبل نصف سنة. ما هو هذا الشيء الذي يُبعد الذاكرة أحيانًا ويقربها أحيانًا أخرى كأنه حدث قبل ساعة؟

بعد ما يقارب الخمسة أيام على وجودي هُنا، لازمني فضول لكل يوم جديد يضاف إليها، هي التي بدت لي أكثر من تعدادها الطبيعي، لكثافة تفاصيلها ومفاجآتها. كانت الرحلة جديرة بالمغامرة، باريس جميلة أيضًا، وما ارتفاع منسوب الجمال إلا تأثرًا بالعلاقة التي نحيكها مع المُدن أو التي تحيكها هي لنا.

في اليوم الرابع تأخذ الأمور مجرى آخر، حيث فكرة استغلال كلّ دقيقة تخرج حيز التنفيذ؛ الاستيقاظ باكرًا، التجول قدر المستطاع في المدينة، التقاط الصور “يمين وشمال”، الانقطاع عن فحص البريد الالكتروني والفيسبوك كلّ ساعة، إجراء مواعيد مع أصدقاء أُجلت مواعيدهم في الأيام الأولى لرحلتي، الذهاب إلى النوم في الفجر- فجأة ما عاد في وقت!

قهوة باريسية صباحية مع صديقين فلسطينيين. الجوّ بارد بالطبع، دوام الشمس في سماء هذه المدينة لا يتجاوز الساعتين، لم أحضر معي ملابس دافئة مثل ما لازم! يعني قديش بده يكون برد!؟

لا أعلم متى تم تعيني مستشارة للأرصاد الجوّية في أوروبا مؤخرًا!

البرد لا يترك باريس تمامًا، يغيب عنها أحيانًا كي يرتاح ليعود أكثر حدة، وهنالك برد ليس له علاقة بالمناخ أو الطقس، هذا البرد الذي يعيش في قلوب الناس ويوجع حتى النخاع أحيانًا إذا ما لم تولد هُنا، وأنت الذي قد وُلدت من الينابيع الدافئة.

قهوة باريسية صباحية مع صديقين فلسطينيين. الجوّ بارد يُدفئه اللقاء.

“رشا، إحنا بحاجة إنه نلتقي مع فلسطينيين جايين من فلسطين، أنا الغزاوي بحاجة إني ألتقي بشباب جايين من غزة، بحاجة بعد 10 سنوات في باريس إني أروح لهناك من خلالهم، أشوف غزة ولوّ لمدة أسبوع مكثف في باريس، أحسّها، بحاجة أحكي لهجة غزاوية عَ المزبوط.. بكل اشي فيها والمسبّات كمان!”.


17 حزيران 2010: باريس

والبقية تأتي..


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. بعرفش قديش هدا النص ممكن نعتبرو أدبي، نشره بهاي الزاوية ظلمو شوي

  2. بلا مواخذة، يعني باريس برد في حزيران؟ شو هالكذبة؟

  3. رائعة !!!

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>