امرأة فوق السّحاب/ علاء حليحل

امرأة فوق السّحاب/ علاء حليحل

المتأمّل لأعمال الفنانة الفلسطينيّة سماح شحادة في معرضها الأخير “فعل السحر” يقع أسيرًا للشعور بالانسلاخ وانعدام الانتماء. كأنّها امرأة “حاضرة غائبة” في سياق الانتماء الاجتماعيّ، تمامًا كما نحن حاضرين غائبين على المستوى الجمعيّ السياسيّ. غربة مضاعفة تتبدّى في الفحص الطويل والبطيء والمؤلم لمفهوم الانتماء بكلّ أبعاده: الانتماء إلى العائلة والبلدة والوطن * معرض قويّ وساحر ولا يخلو من الألم!

"مستلقية 2" (2015).

“مستلقية 2″ (2015).

.

 |علاء حليحل|ala-new

.

“بقلم الرصاص/ الصغير هذا/ سأرسم الدنيا/ وأكتُبُ العالم!/ أكتبُ الحب والموت/ أصوّر الحزن والضحك/ أصف الغِبطة والَرق والقرنفل/ وأحكي لإنسان/ عن أسطورته../ عن طفولته ولعبه/ وأروي له:/ عن امتطائه التلقائي/ لصهوة قطار لذته السريع!” (طه محمد علي)

.

بقلم الرصاص تعيد الفنانة الفلسطينيّة سماح شحادة إعادة التأمل والتسجيل إلى أصولهما الأولى. إلى قلم الطفولة والخرابيش والذاكرة البتول. لكنّ قلمها حرفيّ وساحر، يُنتج لوحات هايبر واقعية في معظمها، تجنح نحو “التصوير” الشكلانيّ، بعيدة عن خرابيش الطفولة الأولى. تعيد ترتيب العالم عبر رسومات ذاتيّة لها ولعائلتها في وضعيات مختلفة، كأنّها تترجم وجهها وجسدها إلى لغة هجينة بين الواقعيّة القويّة وبين السحريّة العصيّة. وهي ترسم نفسها مستلقيةً سابحةً، كأنّها شهيدة مسيحيّة فادية، تُجسّد في هذه الواقعية السحريّة إحدى أبرز واقوى ثيمات عملها المتراكم: مكانة المرأة الفلسطينية ووضعيتها في المجتمع العربيّ داخليًا وكابنة لعائلة مهجرة في النكبة.

وهي مثابرة وعنيدة في هذا: تقيم حوارًا طويلًا ومُركّبًا بين جسدها الشخصيّ وبين الجسد الأنثويّ العام. جسد يتحوّل إلى مانيفيست؛ مقولات صغيرة وحميمية تأتلف معًا لتشكّل مشروعًا فنيًّا خالصًا لا يجنح للكليشيه بأيّ شكل، لكنّه يقول أكثر بكثير من مقالات طويلة. تستخدم قلم الرصاص (ومن ثمّ الفحم الأسود) لتلوين عالم يقبع في الرماديّ الهُلاميّ الذي تعيشه الكثير من النساء العربيّات في مجتمع تقليديّ في غالبيته يتعامل مع المرأة من منظور جندريّ ضيّق لا يحتمل الألوان وأطياف الحياة اللا نهائيّة. كأنّ الأسود والرماديّ والأبيض هي الأطياف الوحيدة الممكنة في حيواتٍ لا يمكنها كسر القيود أو التوقّعات الجاهزة إلّا بجهد كبير واستثنائيّ.

المتأمّل لأعمالها في معرضها الأخير “فعل السحر” في متحف تل أبيب للفنون (الذي جاء كجزء من فوزها بجائزة “حايم شيف للفنّ التصويريّ-الواقعيّ” لعام 2018)، يقع أسيرًا للشعور بالانسلاخ وانعدام الانتماء. كأنّها امرأة “حاضرة غائبة” في سياق الانتماء الاجتماعيّ، تمامًا كما نحن حاضرين غائبين على المستوى الجمعيّ السياسيّ. غربة مضاعفة تتبدّى في الفحص الطويل والبطيء والمؤلم لمفهوم الانتماء بكلّ أبعاده: الانتماء إلى العائلة والبلدة والوطن، في ضمن معايير مجتمعيّة تنسف الكثير من روابط الانتماء وأولّها الحريّة في الاختلاف والفردانيّة. في حفل اختتام المعرض قالت شحادة: “أنا بعيدة عن مجتمعي”، وهي مقولة قاسية تثير البلبلة والخوف من الانسلاخ والوَحدة، في زمن يسعى فيه الجميع إلى توحيد القواسم المشتركة والالتحام والتكتّل.

بدون عنوان، 2017

بدون عنوان، 2019

في لوحة “بدون عنوان” (٢٠١٧) تتجسد هذه الوحدة في رسم سياج من الصبار وأمامه جذع كبير لشجرة صنوبر ومن حوله أشجار كثيفة تُسوّره وتحدّ من إمكانية توسّعه. تناقض صارخ بين الصبار الذي يرمز لبقايا القرى العربية في المشهد العام السليب وبين أحد تمثلات الاستيلاء الذي بادرت له الحركة الصهيونية في فلسطين التاريخية: غرس اﻷحراج الشاسعة بشجر أوروبيّ نمطيّ جلبه المهاجرون الجدد معهم. حوار لا يستقيم، وفراغ ماثل وقاس بين نوعين من المزروعات البرية التي تعكس في الحياة العادية والسويّة هوية المكان الحقيقية. وهوية المكان الحقيقية لميعار (قرية شحادة) وقرى فلسطين المهجرة هي الصبار الشائك المثمر لا اﻷشجار اﻷوروبية التي جاءت لتطمس وتغطي أكثر من الرغبة في التجميل و”البعث”، كما يُحب طلائعيو الحركة الصهيونية أن يقولوا. تنويعة مختلفة وخاصّة بشحادة لنبتة الصبار الوحيدة والحزينة التي زرعها الراحل عاصم أبو شقرة في إصيص صغير غريب وبعيد عن موطنها اﻷصليّ. والاثنان -شحادة وأبو شقرة- يدمجان الوحدة الفردية الذاتية مع الوحدة الجماعية بنجاح كبير ولافت.

النوم على السحاب

لعلّ أقوى اﻷعمال في المعرض -بنظري- هي لوحة “مستلقية 2″ (2015). رسمة ذاتية لشحادة وهي تستلقي في فراغ أبيض واسع، ترتدي بلوزة صيفية وبنطلون جينز “شورت”، شعرها اﻷسود الطويل يتدلى تحتها كامتداد أسود طول لجسدها، وعلى كتفها قلادة بصليب كبير بارز. حالة تمدّد بأقصى ما يمكن للجسد أن يمنحه: رأس ممدودة للخلف وكفّا القدمين مشدودتان إلى اﻷمام. جسد أنثوي رياضيّ مشدود، يسبح في الفراغ كجسد مقاوم للجاذبيّة، الجاذبيّة التي تشدّنا إلى هذه الأرض، وتشدّ غالبية النساء إلى واقع قامع ومُقيّد. كأنّها تعلن التمرّد على قوانين الطبيعة المفروضة عليها، كامرأة وكفلسطينيّة مهجّرة، تمرّدٌ يَبان ويبرز في غالبية الأعمال التي تتناول مواضيع تفصيليّة مثل العائلة وطبيعة ميعار والفنانة ذاتها ضمن ثيمة متماسكة وقويّة.

في عمل آخر، “بدون عنوان” (2017)، تستلقي شحادة على سرير في الاستوديو الذي تعمل فيه، ترتدي فستانا أبيضَ خفيفًا، والأيحاء هنا أكبر وأوضح: الفنانة النائمة (الميتة؟) في الاستوديو. تكاتب مباشر مع التيار الرومانسي حين كان الفنانون يرسمون أنفسهم في الاستوديو يُطلون على العالم الخارجي وهم يرسمون أنفسهم بورتريهات ذاتيّة. لكنّ شحادة منقطعة هنا عن العالم الخارجيّ، أضواء النافذة تظهر في الزاوية البعيدة للّوحة بينما تحيط شحادة نفسها برسومات لها في طور الرسم. يداها ملقيتان على الجانبين، جسدها هامدٌ لدرجة الانقطاع التامّ عمّا حولها، وهو انقطاع عن الخارج يسعى حثيثًا نحو الداخل. وتتصل الواقعية السحريّة لدى شحادة بما قالته عن ارتباطها بالصوفية والروحانيّات ككلّ، وهو ارتباط يبدو منطقيًّا في سياق أعمالها: سعي محموم ومتواصل إلى الوجد والالتحام بجوهر روحانيّ منشود، يُقلّل من الاغتراب والغربة ويُعزّز من الانتماء إلى الذات ومكنوناتها.

النكبة البطيئة

وتطرُق شحادة ثيمة النكبة والتهجير، عبر رسومات فحميّة بالغة الدقّة والحرفيّة والتفرّد، لما تبقّى من قريتها ميعار، تزرع في مشاهدها والديها وعائلتها لتُنتج مشاهد تتخاطب مع وضعيّات “نزهات” شهيرة من لوحات لفنانين قدامى (أبرزهم جورج سورا)، فارضة بذلك لغة جماليّة تتعامل بنجاح كبير ولافت مع محاولة إعادة إنتاج ميعار كمكان سليب وكذاكرة حيّة ترتبط في شخوص الوالدين والعائلة، كأنّها تعلن بلا تصريحات زائدة أنّ الوطن هو العائلة وأنّ ميعار لا تُستعاد إلّا بقوّة العائلة، التي أشبعت الذاكرة بتفاصيل عن قرية لم تعد موجودة على أرض الواقع.

تعمل شحادة بدقّة عالية وتشتغل بلوحاتها شُغلًا بطيئًا ومكثفًا. تمرّ الفكرة عبر عملية طويلة من الرسم الدقيق والحريص، وكأنّها تنفّذ ما قاله الرسّام بول غوغان: “أنا أخطّط لوحاتي مثل الجريمة”. ثمّة حكمة ونُضج كبيران في الرويّة واختمار الحالة المرسومة والقصد من ورائها، ينمّ عن عملية تخطيط وتفكير كبيرة، لا بدّ أن تكون منهكة ولكن يبدو من أعمال شحادة أنّها ضرورية ولا غنى عنها في هذا النوع من الإبداع الفنيّ.

.

بدون عنوان، 2017

بدون عنوان، 2017

.

بيتنا، 2019

بيتنا، 2019

.

أم وبنت، 2019

أم وبنت، 2019

.

بين الحياة والموت، 2017

بين الحياة والموت، 2019

.

بدون عنوان، 2018

بدون عنوان، 2018

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>