سَكينة حرجة/ راجي بطحيش

لا تصطف قرب فرشتي زجاجات البيرة بترتيب استعراضيّ مذهل، ولا أنهض فجرًا لأبول داخلها، خوفا من التشابك مع عيون القط الغاضب في الطريق إلى المرحاض… فأنا لا أحب البيرة

سَكينة حرجة/ راجي بطحيش

|راجي بطحيش|


1

ها أنا استلقي هنا، على فرشة مغمسة بعرق السنوات الخمس التي تنتظر قرب حوض الأسماك الميتة.

تطير فوق قرميدنا الفولاذي طائرة متجهة إلى باريس، تضج فوق شرفة الأسئلة طائرة قادمة من دمشق.

ها أنا استلقي هنا، على قطع قماش متناثرة تغطيها شعيرات قط أبيض.. هو ليس قطي أبدًا. تكاد قدمي تلامس زجاجاً يفصل بين الحقيقة وبين ما كدت أصدقه من هراء بعطر مزيف دوخني للحظة…

لا تصطف قرب فرشتي زجاجات البيرة بترتيب استعراضيّ مذهل، ولا أنهض فجرًا لأبول داخلها، خوفا من التشابك مع عيون القط الغاضب في الطريق إلى المرحاض… فأنا لا أحب البيرة.

كما أن القط ليس قطي أبدًا… بل هو قط عبراني لا زال شاهدا على الإتفاق الأبدي الذي وقعناه مع الخسارة..

لا تستقر عند زاوية سريري منفضة مليئة بأعقاب السجائر المتراكمة والمتراصّة والمتداخلة الروائح من شدة ما مرّ عليها من كآبة منمقة ومفتعلة.. فأنا لا أطيق السجائر في غرفتي قرب مضجعي وحتى وإن كنت سأشنق نفسي بعد ثوان…

على السجادة الزرقاء والنبيذية بقايا قشور بذور عين الشمس وفتات من قشر فستق العبيد،

أو بصيغة تحمل حدا أدني من السوية اللغوية: فستق بقشره…

ها أنا استلقي هنا، أتأمل هذه اللوحة وتلك التي بجانبها، أحاول أن أفهم للمرة العاشرة بعد المليون من أين ينبعث هذا الفالوس: أمن الأرض أم من خصيتين ضامرتين؟ هذه اللوحات ليست لي ولم أكن أنا من علقها هنا.

ها أنا استلقي هنا، ولا أملك أي شيء سوى هذا النص والقليل غيره.


2

تطير فوق قرميدنا الفولاذي طائرة متجهة إلى أديس أبابا، تضج فوق شرفة الأسئلة طائرة قادمة من تونس.

يبحث لاجئ إريثري أو سوداني (لا أعرف) عن جواهر يافية نسيتها آخر العوائل البرجوازية  في حاوية القمامة.. أعبر من هناك، أكره الفراغات بين البنايات، دائما ما تخيفني حيوانات ليلية تنتقل فيما بينها… قد تكون وطاويطَ.

يتماجن مخلوقان في هذا الفراغ بين عمارتين متهاويتين يتبادلان جرح الشهوة في برد قارص بمعاطف مفتوحة.

أقترب من حاوية قمامة أخرى، لا يوجد سودانيون بقربها، تقفز في وجهي رأس مطاطية مقطوعة من مخلفات مطعم لحوم “الجورميه” الكائن تحت شقة الشاب الذي ذبح زوج أمه وقطع قضيبه.

أكره الفراغات بين البنايات… بل أحب القمر المندلق من هناك…

ها أنا أمرّ عبر حاوية القمامة هذه ولا أملك أي شيء سوى هذا النص والقليل من ضوء القمر المتكئ على حائط بنايتين…


3

ها أنا استلقي هنا، على فرشة مغمسة بعرق السنوات، تكاد إصبع رجلي تلامس سقف اليقظة من الخلف.

أحدهم يدلق زجاجة ويسكي على جراح جديدة…

لا يهم إلى أين تتجه تلك الطائرة التي تفتح بطنها وتلقي بفضلاتها عند عتبة شباكي المزركش بعشب جفّ.. ولا يهم من أيّ مجهول هي قادمة.. إلى وطن اللد المتشقق…

أحدهم يدلق زجاجة ويسكي كاملة على جرحي هذا، ولكنني لا أشعر بشيء؛ فأنا لم أجدف يومًا في بحيرات الويسكي أبدًا، كما أنني لا أتذكر سوى صورة الدماء وفتات اللحم المندلق من قلبي على إسفلت الطريق الساحلية في تلك الليلة حيث الفتيات بفساتين قصيرة لا تخفي شيئا وكعوب عالية يتقيأن على سواد الطريق من تأثير الكحول والبرد، أو ربما من منظر قلبي المتناثر كالمسامير على جنبات طريق… هي ليست لي. قد أتذكر هذا المشهد لدواعٍ دراماتيكية، ولكنني بالتأكيد لا زلت أرى ذاك السواد اليائس في عينيك…

يندلق الكحل المركز ولا أشعر بشيء،

وباستطاعتي أن اسمّي كل هذا:

سَكينة حرجة.

(تل أبيب)

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

6 تعقيبات

  1. أه خليك يا راجي. جميل!

  2. إلى فرج، هناك فرق بين دفتر اليوميات والأدب، إذ أن الأدب يحمل أيديولجيا، لا توثيقًا بحتًا كما في دفتر المذكرات. وإن كانت “كمشة الأسطر” هذه لم توصل إليك هدفها، فالمشكلة لا شك بك أنت.
    أرجو أن تحترم مستوى الموقع. وإن كان لا يروق لك ذلك، فبانيت في انتظارك.
    تحياتي

  3. لحضرة المعلق فرج سليمان. ليش ما إنت تحل عن سمانا؟ يعني حدا جابرك تقرا كمشة هالأسطر.
    انت في موقع محترم، احترم حالك.

  4. “يبحث لاجئ إريثري أو سوداني (لا أعرف) عن جواهر يافية نسيتها آخر العوائل البرجوازية في حاوية القمامة.. أعبر من هناك، أكره الفراغات بين البنايات، دائما ما تخيفني حيوانات ليلية تنتقل فيما بينها… قد تكون وطاويطَ.”

    صورة ممتلئة بالعديد من الشخصيات في لحظة لقاء عجيبة. فيها زمن وقيمة وانسانية وعدمها وتاريخ وعدمه, كلهم مختلفين ومتشابهين في ذات حين.

    بالنسبة لاسلوبك, لست خبيرة في النقد الأدبي. لكنني على قدر ما أحب الزخم الغير منتظم بالكتابة (خاصة حين تتم الكتابة من واقع كذلك, وعلى يد إنسان لديه حس قوي إتجاه ما يعيشه) وأيضا إلى جانب محبتي الغرائزية للحديث عن الأشياء الصغيرة, الوسخة, الملطخة بالطابو والعبئ التعصبي, وعن القمامة والليل الساتر للعيوب, ورائحة ما نخجل منه وطعم ما نتنكر له بعد أكله (والقائمة طويلة) ……………الا انني شعرت بقليل من المبالغة في بعص الصور (القليل) والزيادة بالزخم والاكتظاظ بمصطلحات زادة أحيانا.

    لكنه يبقى مقبولا.. ويبقى منسجماً مع الروح العامة!!

    اسفة عالزخم والاكتظاظ لدي أيضا:)

    مريم

  5. رائع..نقطة

    الظاهر أن المعلق فرج لم يقرأ أدب حديث ومعاصر منذ نجيب محفوظ وطه حسين

  6. جميل جميل
    ولكن السؤال هو كالتالي : ليش انا لازم اقرا كمشه هالاسطر هاي ؟او بلاش , شو لازم احس بعد ما اقراها غير بمضيعه الوقت ؟

    جد بحكي ياخي

    ما تشيلها بدفتر يومياتك وتحلو عن سمانا بقصصكم الشخصيه

    مالنا ومالك يا حبيبي

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>