فتيات القبيلة، للقبيلة!/ هشام نفاع

تحويل النساء إلى واحد من ممتلكات الشعب الجماعية، وإعلان الحرب باسم ذلك على “الغرباء”، يكشف أنّ المشهد الإسرائيلي العام في طبقاته الأساسية هو مشهد قبليّ من النوع السابق لجميع تجليات الحداثة الفاخرة على مسافة قليلة من حي “هتكفا” الفقير

فتيات القبيلة، للقبيلة!/ هشام نفاع


"بنات إسرائيل لشعب إسرائيل"- مظاهرة بات يام


|هشام نفاع|

كان من شأن المظاهرة في الحي الفقير “هتكفا”جنوب تل أبيب (20.12.2010)، أن تثير بعض البلبلة. لكنها – البلبلة وليس المظاهرة – مرّت بسلام بعد انقضاء الوهلة الأولى. فقد قال منظموها إنهم خرجوا الى الشارع العام للتصدي لقدوم الغرباء الى مكان سكناهم. بعضهم أسمعَ مقولات قابلة للقياس المادي: هؤلاء المهاجرون يؤدّون الى رفع اسعار إيجار الدور. لكن سيل التصريحات والصور التالية لم يُبقِ متسعًا لمثل هذه الحسابات المادية الباردة.

بما أن الصور أسرع وقعًا من الكلمات، فإن الكلمة المكتوبة على لافتة، أيضًا، تتحوّل الى صورة تنطبع في الذهن أسرع من التصريح المسموع. وهذا ما فعلته شعارات رفعها المتظاهرون. بينها “ساعدونا على منع جعل اسرائيل دولة مسلمة”، في إشارة الى دين العمال المهاجرين من السودان (بالمناسبة، بعض العمال مسيحيون من الجنوب السوداني، ولكن أي عقل اسرائيلي قادر على نزع تهمة الإسلام عن عامل+عربي+سوداني+أسود البشرة؟!).

ملاحظة: هؤلاء العمّال المهاجرون الذين تخطط اسرائيل لبناء جدار يمنع “تسللهم”، كانت اسرائيل الرسمية بدأت بنفسها باستقدامهم حين منعت قدوم العمال الفلسطينيين من الضفة وغزة وشيّدت جدارًا في وجههم. عقلية كاملة من الجدران!

صورة أخرى برزت في المظاهرة كانت الصورة الحية لباروخ مرزل الذي شارك بلحمه وشحمه في المظاهرة. للتدقيق، فهو من مواليد الولايات المتحدة، هاجر الى بلادنا، وكان سكرتيرًا لكتلة مئير كهانا في البرلمان، ومن مكملي دربه المفخّخة. ساهم في إقامة أشدّ المستوطنات تطرّفًا وعنفًا مثل عوفرا وكدوميم. واشتهر لدينا بزياراته الاستفزازية الى أم الفحم. ومن الواضح أن سيرة ذاتية بهذا الغنى من الصعب أن تجعل مخّ المرء يتقلّص الى حدود إيجار الدور!

مرزل لم يكن مشاركًا عاديًا بل حظي بترحيب من عريفة المظاهرة، قبل أن تدعو زميله عضو البرلمان الاسرائيلي ميخائيل بن أري لنثر درره، فلم يتأخّر. تكلم كثيرًا لكن أبرز ما قاله، وفقًا لشريط فيديو على يوتيوب، إن هؤلاء العمال ليسوا لاجئين بل سارقين سُطاة، ثم انتقل مباشرة الى الحديث عن خوف الفتيات من الخروج ليلا بسببهم. وهنا ارتبطت كلماته بشعار بارز رُفع في المظاهرة: “بنات إسرائيل لشعب إسرائيل”.

عديدة هي العناصر التي ألّفت هذه المظاهرة. هناك العناصر الاسرائيلية العادية مثل كراهية العرب التقليدية التي لم تعد تستوقف أحدًا، لأنها جزء من “الثقافة” اليومية. وهناك عنصر عنصريّ أكثر تركيبًا كونه يخرج من عنصرية الـ أبيض-أسود/ ضد العرب، لـ “يرتقي” الى الصنف الأوروبي الرّاهن من العنصرية: كراهية المهاجر الغريب. بالطبع، فغرابة هذا الغريب لا تكمن سوى في انعدام يهوديته، لأن هذه الدولة تستقبل منذ يومها الأول وحتى اليوم يوميًا مهاجرين غرباء، لكن الفرق أن هؤلاء الأخيرين يهود.. وهناك عنصر فاشيّ ترى فيه محترفي العنصرية الممؤسسة يشعلون النار في غرائز فقراء ربما ليس بمقدورهم تسديد دفعات قرض السكن، ولا دفع قسط التعليم لأبنائهم، فيُمسح وعيهم كمقموعين ويروحون يرددون شعارات غوغائية ضد شركائهم في الضحويّة وفي التعرّض للاستغلال.

لكن هناك عنصرًا لعب دور الشيفره، وهو ما عبّر عنه الكلام واللافتات التي تمتدّ منها أذرع رمزية تقبض على “فتيات إسرائيل” لمنعهن من الانتقال من أحضان “شعب اسرائيل” لأيدي “الغرباء”. هذا التعبير ليس مجرّد ذكورية بغيضة من النوع المألوف. وهو لا يشبه فقط معتقد “شرف العائلة” القاتل الذي نعانيه نحن. وهنا لا يمكن بصراحة إنكار الإغراء الكامن في التركيز على هذا الجانب لنقول للمجتمع الاسرائيلي: تتحدثون عن تخلفنا؟! تفضلوا واعترفوا بتخلفكم الذي لا يختلف بشيء عن مكوّنات تخلفنا هذا.. بل إن اللجوء الى تحويل النساء الى واحد من ممتلكات الشعب الجماعية، في سياقٍ كهذه المظاهرة، وإعلان الحرب باسم ذلك على “الغرباء”، يكشف أن المشهد الاسرائيلي العام في طبقاته الأساسية عام 2010 (في أسبوعيه الأخيرين حتى!) هو مشهد قبليّ من النوع السابق لجميع تجليات الحداثة الفاخرة على مسافة قليلة من حي “هتكفا” الفقير. فمن يطلّ على المشهد من “رمات أفيف” (حيّ غنيّ شمال تل ابيب) سيظنّ أن هذا الخطاب الذي يحارب على فتيات القبيلة يتفاعل بعيدًا جدًا، في بلاد بعيدة، وفي زمن سحيق. لكن الحقيقة أنه جزء اساس، ليس من دولة اسرائيل فحسب، بل من “دولة تل ابيب” التي تتحدث عنها النخب الاسرائيلية المنتفعة والمنتفخة بكثير من الاستعلاء والسماجة.

للصورة وجهان: وجه يدعو للحزن على مجموعة أخرى من الفقراء في هذا العالم يتم استغلالهم لتزييف وعيهم وجعلهم يوجهون نقمتهم على فقراء وغرباء مثلهم بدلا من توجيه رصاص نقمتهم المبرّرة على من يخربون بيوتهم ويسحقون حياتهم. وهناك وجه يدعو الى تأمّل عميق في مجتمع اسرائيلي يرفل في العقد السابع من حياة دولته، كقوة عسكرية وتكنولوجية، لكن حشودًا كبيرة فيه تسير فعليًا بانكفاء للخلف، ليس نحو حلم بفردوس مفقود وبراءة قديمة ضاعت، بل باتجاه مستوى سحيق من التشوّه السابق لأي حدّ أدنى من الحداثة – وبأكثر معاييرها تواضعًا.

في السؤال عن أيّ المنسوبين سيغمر الآخر، أهو منسوب الحداثة في حي “رمات أفيف” المرفّه أم منسوب الانكفاء في حي “هتكفا” المضلَّل المستغَل الذي يُحوَّل أهله الى فحم حجريّ لنار الكراهية، ووقود لآلة الإنتاج لدى الأقوياء – فإن الجواب كامن في تلك اللحظة الضرورية القادمة حين ينجح المشروع الاسرائيلي بإقصاء جميع الغرباء، فعليًا أو رمزيًا، لتجتمع قبيلة اسرائيل حول نار موقدها اليهوديّ النقيّ من أيّ غريب! أتخيّل أننا سنسمع حينئذ صراخًا مشابهًا.. صراخ أغنياء “رمات أفيف” بأن فتياتهم لا يجرؤنَ على الخروج ليلا بسبب غوغاء حي “هتكفا”!


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. خالد: سياق السخرية السوداء واضح أخي

    فرخ البط: مواقف الطوائف عمومًا لا تختلف بغالبيتها الساحقة لأسفك وأسفي – لكننا لا ننطق هنا باسم الطوائف بل باسم افكارنا التي ندعي انها متحررة. ما نقوله كونيّ. النقد الموجه ليس على خلفية الانتماء بل على خلفية الموقف مهما كان انتماء حامله، دينيا او قوميا او ما شئت.
    تحياتي

  2. يا حبيب امك! شو راي الطايفة الدرزية، المسيحية، الاسلامية في الزواج المختلط؟ شو رايك تكتب لنا مقالة عن الموضوع هذا؟

  3. نزع تهمة الإسلام ?

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>