فصل من كتابها الجديد: هكذا قتلتُ شهرزاد لجمانة حداد

هيا، توقفوا مثلي هنيهة، هنيهة فقط، وأعيدوا النظر معي هنيهة، هنيهة فقط -قبل الانزلاق إلى فخّ التصفيق البافلوفي الجاهز- في خطة شهرزاد هذه، القائمة على “رشوة الرجل”

فصل من كتابها الجديد: هكذا قتلتُ شهرزاد لجمانة حداد

إلى اليسار غلاف الكتاب بالانجليزية وإلى اليمين غلاف الطبعة الفرنسية

إلى اليسار غلاف الكتاب بالانجليزية وإلى اليمين غلاف الطبعة الفرنسية

|جمانة حداد|

بصراحة، ومن أوّل الطريق: أنا لا أحبّ شهرزاد.

أعلم أنه ينبغي لي، كوني امرأة لبنانية وعربية، أن أكون معجبة بها، أو أن أكون على الأقل متضامنة معها. ولكن لستُ.

قد يبدو للوهلة الأولى أني “أغار” منها. شهرزاد هذه، شهرزاد تلك، شهرزاد هنا، شهرزاد هناك: أفّ. لا تنفكّ الألسن تلهج باسمها كلما أتى أحدهم في العالم على ذكر الأدب العربي المكتوب بأقلام نساء. لكني، صدقاً، لا أغار منها. بل أكثر من ذلك: لا يمكنني، “منطقياً”، نظرياً وعملياً، أن أغار منها. وسوف أشرح لماذا.

تحتفي ثقافتنا بشهرزاد كامرأة كانت على قدر كبير من العلم والذكاء والحنكة والخيال، الأمر الذي مكّنها من إنقاذ روحها من الموت المحدّق بها، من خلال “رشوة” الذَّكَر، الملك شهريار، بمتاهة قصصها السّاحرة.

حسناً. بل أكاد أصرخ “برافو” مع حشد الصارخين المُهللين (نظرية بافلوف حول الاستجابة الشرطية). ثم أتوقف هنيهة، هنيهة فقط، وأعيد النظر، فأمتنع عن التصفيق.

هيا، توقفوا مثلي هنيهة، هنيهة فقط، وأعيدوا النظر معي هنيهة، هنيهة فقط -قبل الانزلاق إلى فخّ التصفيق البافلوفي الجاهز- في خطة شهرزاد هذه، القائمة على “رشوة الرجل”.

هل ترونني مصابة بنوع من البارانويا، أم توافقونني الرأي على أنها خطة تبعث برسالة مشوّهة ومؤذية إلى النساء، تقول لهنّ بوضوح: “سايرنَ الرجل، امنحنه ما تملكن، وما يشتهي، وسوف يدعكنّ وشأنكن”؟ بل يبدو بديهيا، حتى لامرأة لا نسوية مثلي، أنّ هذه الخطة تضع الرجل في موقع “المانح” الكلي السلطة، وتضع المرأة في موقع الضعف المساوِم والمستفيد من “هبات” الرجل. هي لا تعلّم النساء المقاومة والتمرّد على مصائرهنّ الصعبة، مثلما يتم الإيحاء كلما وُضعت صورة شهرزاد على طاولة المناقشة والتحليل. بل تعلّمهنّ التنازل والتحايل والتفاوض على حقوقهن البديهية: الحقّ في العيش. الحقّ في الاختيار. الحقّ في الحرية. الحقّ في أن يكنّ ذواتهنّ. الحقّ في ألاّ يدفعن ثمن أخطاء الآخرين. إنها خطة تقنعهنّ بأنّ إرضاء الرجل و”برطلته”، أكان ذلك بقصة مشوّقة، أم بطبخة لذيذة، أم بثدييْن سيليكونييْن… الخ، هي الطريقة المثلى للصمود والنجاح في الحياة.

هل ينبغي لي أن أعتبر هذا سلوكاً خلاّقاً؟

هل يفترض بي أن أسمّي هذا “تمرّداً”؟

عذرا ولكن، بحسب قاموسي الدقيق، إنّ سلوكاً كهذا له تسمية أخرى، هي… “دعارة”. فللدعارة أشكال كثيرة، أقلها ضررًا شكلها الحرفيّ.

إغفروا المقارنة المتطرفة والكاريكاتورية، ولكن: أين الفرق بين “إرحم عنقي أروِ لك قصة”، و”اشتر لي خاتماً ثميناً أمارس معك الجنس؟”

لا فرق. لا فرق البتة تقريباً.

أكرّر: لا أحبّ شهرزاد، ولم أحببها يوماً، على رغم أني مشغوفة منذ الطفولة بقصص “ألف ليلة وليلة”. لا بل إني مقتنعة بأنّ شخصيتها مؤامرة ذكورية (ولربما نسوية أيضاً) على المرأة الشرقية في شكل خاص، وعلى المرأة عموماً. زدْ على ذلك أنها معشوقة حدّ الغثيان من جانب مهوُوسي النظرة الإكزوتيكية إلى الشرق، مما لا يشفع بها كثيراً عندي.

لا تفهموني غلطاً. أنا لا أحكم على أفعالها. مما لا شكّ فيه أنّ المسكينة فعلت الشيء الوحيد الذي كان يمكنها فعله للنفاد بجلدها. ولربما كنتُ تصرفتُ مثلها تمامًا، لو كنتُ في وضع مماثل لوضعها الدقيق.

لم تكن عملية القتل صعبة التنفيذ. فبدلا من الصراخ والكفاح للإفلات مني جلّ ما فعلته تلك المرأة الطائشة للدفاع عن نفسها أنها عرضت عليّ أن تروي لي قصة في مقابل العفو عن حياتها!

لا، لست أدين شهرزاد جرّاء ما قامت به، للنجاة من الذبح. لكني ضقت ذرعًا بإصرار البعض، بل الغالبية، على تحويلها “بطلة”، ورمزا أدبياً للمقاومة والعنفوان النسائيين لدينا، وشعارًا للكفاح ضدّ “ظلم الرجال وكيدهم العظيم”. إن هي سوى سيدة لطيفة، ذات خيال واسع، وقدرات ممتازة على التفاوض (كم كانت لتكون سندًا لنا اليوم في لبنان مثلاً، وسيطةً بين 8 و14!). هي على ما أصف فقط، لا أكثر، لا أقل. التضخيم يستفزّ التحجيم، ولأجل ذلك كان ثمة حاجة ملحة إلى وضع الأمور في نصابها.

… فقتلتُها.

قتلتُ شهرزاد. هكذا بكل بساطة. خنقتُها بيديّ هاتين. كان ينبغي لأحد أن يفعل ما فعلتُه في آخر المطاف. إذ أنّ التحليل المضادّ والمُحاججة النقدية لم يبرهِنا عن قدر كافٍ من الفاعلية لتحدي صورتها.

في الحقيقة، لم تكن عملية القتل صعبة التنفيذ. فبدلا من الصراخ والكفاح للإفلات مني، بدلا من الخرمشات والعضات والصفعات… الخ، كما كانت لتتصرف أيّ شخصية تخييلية تحترم نفسها لدى محاولة كاتب الهجوم عليها، جلّ ما فعلته تلك المرأة الطائشة للدفاع عن نفسها، هو أنها عرضت عليّ أن تروي لي قصة في مقابل العفو عن حياتها! هل تصدّقون ذلك؟ “دقّ الميّ الميّ”، كما يقول مثلنا اللبناني. كانت تلك، طبعا، الضربة القاضية لها عندي. لم أستطع احتمال رخاوتها تلك، فظللتُ أشدّ بيديّ هاتين حول عنقها، حتى لفظت قصتها الأخيرة. أعني… نفسها الأخير.

أجل. قد قتلتُ شهرزاد.

لكم أن تندبوها إذا شئتم.

أما أنا، فمشغولة الآن بجرائم أخرى.

________________________

• مقتطف من كتاب نثري للشاعرة، صدر أخيرا في أوروبا بلغات مختلفة. لغة العمل الاصلية هي الانكليزية. لمزيد من المعلومات: www.ikilledscheherazade.com

قراءة شخصية • فلنقتل شهريار!

أوافق جمانة حداد الرأي بأنّ ما حصل لشهرزاد ليس إلا مؤامرة ذكورية، وأنّ شهرزاد ليست بالضرورة بطلة. ثم أقارن بينها وبين نساء اليوم كيف نصبح بطلاتٍ في مواقع لا تحتمل النضال والبطولة، ومع هذا يُحيينا على ذلك من يدّعون التنور. إلا أنني أعجَب من شهريار وصبر هذا الطاغي الذي ضاجع النساء يوميًا، كيف بات يقضي الليالي يستمع لقصة من امرأة يشتهيها. فهل هذا ما يعرف بـ “كلمة الرجال”؟

كيف قتلت القصص غرائزه وحصل انقلاب في معياره الأخلاقيّ ليتحوّل من الهيدونية إلى الاستمتاع بأدب القصة الطويلة؟ لا أظنّ أننا رأينا نقطة التحوّل هذه في ألف ليلة وليلة.

إلا أنّ شهريار الذي لا يفهم حقّ المرأة بالحياة إلا من باب منفعته، أي “من تسليه” بالنساء، وبالطبع يتغير معياره في من يستحق الحياة من الرجال، يُثير غضب امرأة لا نسوية مثل كاتبة النصّ هنا؛ فهل يدلّ هذا على وضوح الظلم حتى أصبح مرئيًا حتى لمن لا ينتبه لتفاصيله الصغيرة؟ أم أن تعمُّد الكاتبة تعريف نفسها بـ “لا نسوية” فيه مقولة عن مفهوم النسوية؟

لا ألوم شهرزاد ولا أريد قتلها بسبب تفسير ذكوريّ لتصرّف طبيعيّ في حلبة صراع البقاء. فليس كلّ ردّ فعل طبيعيّ يُعتبر بطولة أو دعارة. ففي الدّيانة اليهودية تُعتبر الملكة إستر بطلة لأنها سخّرت جسدها من أجل تحرير مجموعتها من أيدي أحباروش ملك الفرس، فهل نقسو على شهرزاد لأنّ هدفها إنقاذ نفسها وليس الشعب؟

قد لا تكون شهرزاد بطلة ولكنها تستحقّ الحياة؛ فالحياة قيمة طبيعية وليست للأبطال فقط. أما “الحقّ في ألاّ يدفع النساء ثمن أخطاء الآخرين”، فهو ليس طبيعيًا بل نتيجة معايير أخلاقية يحدّدها المجتمع بناءً على المخزون الحضاريّ والثقافة السّائدة فيه، والثقافة ما هي إلا منظومة قيم نعرف أنّ مسايرة الرجل إحداها. يجب أن نقتل الثقافة التي أفرزت طغاة لا تعترف حتى بالحقوق الطبيعية للفرد، مع أنّ تاريخ بروسيا أعطى نموذجًا  لطاغية أحدث تغييرًا مجتمعيًا ثقافيًا ساهم في رقيّ الإنسان ولم يَعْنَ بأعضاء جسده وحسب.

لا أروج للطغيان؛ ورغم معارضتي للقتل، أرغب بقتل شهريار إذا اضطررنا لذلك!

(أفنان إغبارية)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

6 تعقيبات

  1. معك حق لكن القصة تقول انه عرض عليها النجاة والخروج من القصر ولكنها رفضت حتى تنقذ بقية النساء وانه كلما حان موعد قتلها استسلمت للموت ولكن الملك شهريار كان يصر على ان تري له قصة مقابل تاخير الموعد (موعد القتل)

  2. الف شكر الى هاجر .للأسف اليوم فقط قرأت التعليق.لكن بصراحة قلتي كل الذي يخالجني.و اشفيتي غليلي في نوع نسائي متعصب لدرجة التناقض.شكرا

  3. لآ تحتآج عملية الموت آو القتل كمآ تزعمين الى كفاح و نضآل ، فالكثير يموتون موتةة لا يجرأون على رفع اصبعهم لوقفهآ او لجعلها ميتة حسنة حتى ، آمآ عن “إرحم عنقي أروِ لك قصة”، و”اشتر لي خاتماً ثميناً أمارس معك الجنس؟”
    لا فرق. لا فرق البتة تقريباً.
    هنآك فرق ، بل فرق وآضح ، فقط لاحظي كيف جعلتي شهرزاد بمنزلة واطية تطلب آشتراء خاتماً ثميناً في محاولتها للانقاذ نفسها من الموت ..
    شهرزاد دافعت عن نفسها نعم ، لكن على حسسب قدرتها في الدفاع و حسسب الظروف التي كانت تعيشها ومن الممكن اننا لم نعلم بها ، لم يكن بصخب بل كان في هدوء ، عككس دفاع نساء هذ1 العصر ، يحلن ما حرم الله ورغم ذلك يظهرن للدفاع عن حقوق المرأة ، آي عيشة هذه .
    في الحقيقة ، اعلم ان ان شهريار طاغية ، لكن كان رحيما ، فقد صغى لـ شهرزأد عندمأ قالت انها ستحكي له قصةة ، بعكسك تماماً * هو أنها عرضت عليّ أن تروي لي قصة في مقابل العفو عن حياتها! * لم أستطع احتمال رخاوتها تلك، فظللتُ أشدّ بيديّ هاتين حول عنقها، حتى لفظت قصتها الأخيرة. أعني… نفسها الأخير*
    للآسف نسآء عصرنآ آشد قسسوة من الطغاة الذينا سبقونا .. فآي جيل هو سيكون من تحت ايديهن !!

  4. “لم تكن عملية القتل صعبة التنفيذ. فبدلا من الصراخ والكفاح للإفلات مني جلّ ما فعلته تلك المرأة الطائشة للدفاع عن نفسها أنها عرضت عليّ أن تروي لي قصة في مقابل العفو عن حياتها!”

    هكذا تبدين اذكى من شهرزاد, اذن انت تغارين منها الى حد الموت

  5. شكرا أفنان لانك لا تلوميني ولا تحاكميني على رغبتي بالحياة

  6. جمانه تقترب في نصها من تفكيك وهم الاسطورة ومن المثير تتبع هذا في الكتاب نفسه
    هل صدر بالعربيه؟
    مقالة افنان ممتازه ايضا وفيها مقاربه وتنافر مع نص جمانه

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>