في وسعي أن أموت في أكثر من مكان

قراءة لقصيدة “أحمد الزعتر” بصوت محمود درويش يرافقه على البيانو زياد الرحباني، ونصّ كلمة ألقاها محمود درويش في اختتام ندوة نقدية تكريمية في مدينة قفصة التونسية عام 1995

في وسعي أن أموت في أكثر من مكان

darwish-front

في نهاية سنوات السبعين، لحّن خالد الهبر قصيدة “أحمد الزعتر” ووزّعها زياد الرحباني. وقد صدرت هذه المغناة في أول الأمر على كاسيت ضمّ على الوجه الثاني منه قراءة للقصيدة من محمود درويش يرافقه على البيانو زياد الرحباني. وقد صدرت هذه المغناة على أسطوانة فينيل لم تحمل قراءة الشاعر.

يُرجى الضغط على هذا الرابط للاستماع إلى: محمود درويش يلقي قصيدة أحمد الزعتر بمرافقة زياد الرحباني على البيانو في الخلفية

ف اصل

نص الكلمة التي ألقاها محمود درويش في اختتام ندوة نقدية تكريمية في مدينة قفصة التونسية عام 1995:

|محمود درويش|

ليس من عاداتنا أن نكرّمَ الأحياء، لذلك يساورني خوف من نفسي، فَلَعلّيَ اقترفتُ موتاً دون أن أنتبه إلى أنّ تلك الحادثة، التي أردتُها أن تكون سرية، قد بلغت مسامعكم.

أليست تلك هي فضيحة الشاعر الذي لا يكتفي بالإفلات من صورته في عملية الإنصات إلى صرخة ولادته من ذاتها، لا لأنّ قطيعة أريد لها أن تكون كاملة قد دفعته إلى أن يكون “آخَر” أناه، بل لأنّ أناه ذاتها لن تكون إحدى ممتلكاته الخاصة مهما حاول ذلك. فبقدر ما ينقّب هناك، بقدر ما يدفع إلى كتابة تكوين فوق التكوين، وإلى شدّ البداية إلى بدايتها، فيجد نفسه هناك، في رجع الصّدى البعيد الذي يزوّد نشيده بمشترك العزلة الجميلة على الأرض، وقد أقام -راحلا- في خيمة الوجود الشعريّ، دون أن يتمكّن من الإقامة الجسدية على أرض هويته الخاصة.

من حسن حظي، أو من سوئه، إنني لست طروادياً. ومن حسن حظي أنني مازلت أعبّر عن إنسانية تدافع عن خلاصها الشعريّ

تلك هي أرضي، أرضُ سمائي. ولست مُكلّفاً إلا من الغياب بكتابة أسماء حضورها الجغرافيّ الثقافيّ والحضاريّ والإنسانيّ، في كتابها، وفي كتاب الشعر العربي. وهل هي كتابة على كتابة سابقة؟ ربما… فلستُ إلا ما أعرف. ولكنّ إفراط الكتابة السابقة في خفتها اللاهوتية يكسرني ويكسر واقعا تكسره الهشاشة من شدّة ما امتلكه السيف الممتد إلى جسدي وإلى لغتي وإلى غدي السّابق، في صيرورة مصير إنساني لا تدافع عنه تراجيديته وحدها، بل حقه في الكلام عن ذاته العادية، أسوة بما يفعل الأدب المعاصر، الساعي إلى التحرر من البطولة ومن ضغط الجماعة، من الأسطورة ومن الراهن معاً. فهل أُذن له بذلك؟ هل أُذن له أن يخرج إلى المطلق من تاريخية لا يعترف لها بأيّ تاريخ؟ لم أولد في مكانيْن، ولكن في وسعي أن أموت في أكثر من مكان. وفي مقدوري أيضًا أن أولد وأموت في كلّ قصيدة. تلك هي حريتي، فلماذا يكون مكان ولادتي الجغرافيّ نقيضاً لهذه الحرية؟ وبعيداً عن شاعرية بلادي التاريخية، أرضاً وميثولوجيا تشير إلى عمل الآلهة وإلى كتابة التكوين، وإلى إفراط البشر في خطاياهم، ممرّات لهويات وحضارات وزمناً متروكاً لإعادة التأليف المعاصر، وشعباً هو ما هو عليه من ولوج المألوف في الخارق، ومن سموّ الأحلام وانكسارها… بعيدًا عن كلّ هذا وذاك، فهي أرض قرب الأرض، وهي نزوع الأسطورة البحرية إلى شبق الرسوّ على متر من برّ.

فهل في مكان ولادتي ما يُفقرُ الشاعرية الإنسانية، أم فيه ما يغنيها، بتذكير الإنسان بسيرته في تاريخ الكون والكلمة، وفي فتح المعنى على معنى آخر، وفي قدرته على إنقاذ الواقع بالأسطورة، وفي عودة الأسطورة إلى عناصرها والى أهلها؟

لا حاضر للغة الشاعر إلا في ماضيها، وإلا فسأجيء إلى اللغة للتوّ، من الفراغ. فلماذا كان النقد يخجل من وطني كما لم يخجل من وطن أحد؟

أعرف كيف أموت وأولد في سياق قصيدة لا تبحث، وهي تكتب، عن هدف سوى شاعريتها التي لا تستطيع أن تتحرّر من ضغط تاريخها إلا في تجدد تاريخيتها

إنّ إحدى مآسي طروادة المتراكمة هي أنّ أحداً لم يبحث عن الألواح التي دوّن عليها شاعرها سيرتها. من حسن حظي، أو من سوئه، إنني لست طروادياً. ومن حسن حظي أنني مازلت أعبّر عن إنسانية تدافع عن خلاصها الشعريّ. وهي إنسانية تكثف، وتتعرف على ذاتها الثقافية والتاريخية تعرّفاً سلبياً، ولا بأس، من خلال علاقتها بأثينا التي أصبحت رومانية. ففي شعرنا العربي، إذاً، مازال هناك الكثير ممّا لا يُقال، ما دام هذا آتياً من سياق بعيدنا الذي آن للغتنا، ذات الجماليات الفذّة، أن تهيئه لاستقبال حداثة لا نشارك في صوغ منظوماتها الكونية، ونكتفي باستهلاكها كسائر المواد الأخرى.

وسوء حظي (في أنني لست طرواديّاً) هو أنني لو كنت ذلك فسأكون موضوعا أنثروبولوجياً، لا لشيء إلا لأنّ علماء الإغريق قد ارتاحوا إلى انتصارهم، فأحبّوا أن يضيفوا مزايا إنسانية على ضحاياهم.

لا، لا أستطيع أن أضع الضمير في مواجهة لا مبرر لها مع الجمالية: ولا أستطيع أن أخون حواسي كلها، أو بعضها، لأنتمي إلى جسد حداثة مُشوّه يغير اسمه وملامحه في كل لحظة. ولكنني وأنا مثقل بما لا يعنيني، أعرف كيف أموت وأولد في سياق قصيدة لا تبحث، وهي تكتب، عن هدف سوى شاعريتها التي لا تستطيع أن تتحرّر من ضغط تاريخها إلا في تجدد تاريخيتها من خلال الاندماج فيها، لا الاغتراب عنها.

هذا هو المعنى الذي أُدركهُ في تكريم المشروع الشعريّ العربيّ، الذي أحاول أن أسهم فيه بجدلية حياة وموت، رحيل وبقاء، حضور وغياب، لنتمكن معاً، من مراكز الثقافة العربية وأطرافها، من أن نحقق حضورنا الشعريّ المشترك في الذات وفي الآخر: في الذات التي انفصلت عن نفسها لترى إلى نفسها وهي تحاول أن تعيش الوجود شعرياً مهما كان الثمن، ومهما كان حجم القطيعة التي تقترح علينا الغياب عن الذات، وعن الآخر معاً. لقد متُّ بما فيه الكفاية، وما أسعدني أن أشهد هنا، في قفصة، قصة ميلادي. لا أعرف كيف أشكر نُقادي وزملائي الشعراء الذين يدربونني على طريقة جديدة في فهم نفسي الشعرية، ولكنني أعرف كيف أحبّ أهل قفصة التونسية العربية، لا لأنها تكرمني، بل لأنها شديدة الوفاء لذاكرتها، لحياتها، للغتها، ولبحثها عن الشعر في الشعر والحياة، ولأنها تجيبنا من جديد وبطريقتها الكريمة الأصلية عن سؤاليْن يُعذّبان نهاية القرن: هل مازال الشعر ضرورياً؟

وهل مازال الشعر ممكناً؟

(عن جريدة “الدستور” الأردنية)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>