قرن على الصراع العربي – الصهيوني: هل هناك أفق للسلام؟/ مـاهـر الشـريـف

في كتابه الجديد الدي يحمل عنوان هذه المقالة، يرصد د. ماهر الشريف العوامل التي حالت إلى اليوم دون التوصل إلى حل عادل، وشامل للصراع العربي-الصهيوني، المتواصل منذ أكثر من قرن من الزمان، وذلك على الرغم من كل التنازلات التي قدمها العرب والفلسطينيون، وعلى الرغم من كل النوايا الحسنة

قرن على الصراع العربي – الصهيوني: هل هناك أفق للسلام؟/ مـاهـر الشـريـف


|ماهر الشـريف|


ماهر الشريف

ماهر الشريف

كان على الحركة الصهيونية، بهدف تحقيق هدفها الرامي إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، أن تختار ما بين خيارين إستراتيجيين: إما خيار تأسيس  دولة  أبارتهايد، أو خيار تأسيس دولة يهودية متجانسة، أو، على الأقل، دولة تضم غالبية يهودية كبيرة، من خلال طرد أو ترحيل مجموع السكان العرب أو القسم الأعظم منهم.
ويعطي مؤسس الصهيونية السياسية، تيودور هرتزل، إشارة مبكرة إلى عملية الاستيلاء على الأرض، والمصحوبة بترحيل سكانها الأصليين، حيث كتب  في يومياته بتاريخ 12 حزيران 1895: “عندما نحتل الأرض… سنسعى لتهجير السكان المعدمين عبر الحدود من خلال تدبير الوظائف لهم في البلاد التي سينتقلون إليها، لكننا سنمنعهم من القيام بأي عمل في بلدنا. إن ملاك الأراضي سيلتحقون بنا. وينبغي أن تجري عمليتا الاستيلاء على الملكية وترحيل الفقراء بصورة متكتمة وحذرة” .
وبهدف الالتفاف على مشكلة وجود مئات الآلاف من السكان العرب في فلسطين، روّج دعاة الصهيونية فكرة “الأرض الخالية”، ليس بمعنى أنها خالية من السكان، وإنما بمعنى أن سكانها من العرب لا يمتلكون أي روابط، ثقافية أو قومية، تربطهم بالأرض التي يعيشون عليها، الأمر الذي يجعل من  السهل رحيلهم  عن هذه الأرض أو ترحيلهم عنها. وكان هذا هو مغزى عبارة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، التي ارتبطت، منذ عام 1897، باسم كاتب إنكليزي يهودي بارز هو يسرائيل  زانغويل، الذي كان واحداً من أبرز مساعدي هرتزل، والذي ظل يؤكد بأن  ” ترحيل ” السكان العرب عن فلسطين هو  ” شرط مسبق لتحقيق الصهيونية”، وأن من واجب الحركة الصهيونية أن تقنع عرب فلسطين بالرحيل بصورة طوعية صوب الصحراء العربية، وكتب متسائلاً: ” أليست جزيرة العرب ومساحتها مليون ميل مربع كلها لهم؟ ليس ثمة ما يدعو العرب إلى التمسك بهذه الحفنة من الكيلومترات. فمن عاداتهم وأمثالهم المأثورة ” طي الخيم” و”التسلل”.. دعهم الآن يفعلون ذلك “. وبعد صدور تصريح بلفور، اقترح زانغويل، إغراء العرب الفلسطينيين بالرحيل، عبر تقديم تعويضات لهم في حال موافقتهم على التوطن في البلدان المجاورة، معتبراً بأنه لا يمكن السماح لهؤلاء الأناس ” المتخلفين” ثقافياً واقتصادياً بعرقلة عملية ” إعادة البناء الثمينة” التي يقوم بها الصهيونيون.
وقد نجح المهاجرون اليهود، على الرغم من التقييدات التي وضعتها السلطات العثمانية، في التسلل إلى فلسطين، نتيجة فقدان الفاعلية لدى هذه السلطات، وانتشار الفساد والرشوة بين صفوف موظفيها، وضغوطات الدول الأوروبية الكبرى.
وكان الأساس الأول الذي استند إليه المشروع الصهيوني هو السيطرة على الأراضي في فلسطين. وكما ذكر مناحم أوسيشكين، في عام 1904، كان النجاح في تملك الأرض سيتحقق من خلال  طرق ثلاث: ” عن طريق القوة، أي السيطرة على الأرض من خلال الحرب، أو بكلمات أخرى من خلال سرقة الأرض من مالكيها”، أو عن طريق ” انتزاع الأرض بمساعدة السلطات الحكومية “، أو عن “طريق المال “، مضيفاً بأن الحركة الصهيونية ستقتصر، في هذه المرحلة، على الطريق الثالثة ” إلى أن نصبح، في نهاية الأمر، أسياد الأرض”. بيد أن الحركة الصهيونية لم تكتفِ بالتطلع إلى السيطرة على الأرض، بل أرادت كذلك أن تقيم اقتصاداً يهودياً متجانساً، ومستقلاً، على قاعدة “العمل العبري”، وهو ما شكّل الأساس الثاني الذي قام عليه المشروع الصهيوني. فالعرب ظلوا مستبعدين من الوعي الصهيوني فيما أسماه الخطاب الصهيوني “النضال من أجل احتلال العمل”، الذي برز مع وصول الموجة الثانية من الهجرة في العقد الثاني من القرن العشرين. أما الأساس الثالث للمشروع الصهيوني، فقد تمثّل في العمل على ضمان وجود أغلبية كبيرة من السكان اليهود في فلسطين. وخلال عقود، حاول الصهيونيون إخفاء تطلعهم الحقيقي هذا، خوفاً من إثارة غضب السلطات العثمانية والسكان العرب.
إن الرواية الصهيونية / الإسرائيلية الرسمية تدّعي بأن  مئات الآلاف من الفلسطينيين قد قرروا أن يهجروا مدنهم وقراهم ” طوعاً”، وبصورة مؤقتة، كي يفسحوا المجال أمام الجيوش العربية الآتية ” لتدمير” الدولة اليهودية الوليدة. بينما تعترف رواية بعض المؤرخين الإسرائيليين “الجدد”  بنصف الحقيقة، حيث يرى بني موريس  بأن الروايتين الإسرائيلية والعربية، الأولى التي تزعم بأن الفلسطينيين قد رحلوا “طوعاً” أو بناءً على أوامر تلقوها من الزعماء العرب، والثانية التي تزعم بأن إسرائيل قد خططت عمليات طرد منظمة للفلسطينيين، أن هاتين الروايتين غير “دقيقتين” ولا “كاملتين”، وفقاً  ”لوثائق المحفوظات الإسرائيلية والغربية التي كُشف عنها في الثمانينيات من القرن العشرين” . لكن، وخلافاً للرواية الصهيونية/الإسرائيلية الرسمية، ولرواية “نصف الحقيقة” التي يرويها بني موريس، أثبت  نور الدين مصالحة، وبوجه خاص إيلان بابه، أن إرغام ما يقرب من 800000  فلسطيني على الرحيل، وطردهم من الأراضي التي احتلها الصهيونيون إما بالترهيب وإما بقوة السلاح، كان ” بموجب فكرة الترحيل التي طالما نادت بها الصهيونية “. فبعد أن أدركت قيادة الحركة الصهيونية بأن قرار التقسيم، الصادر عن الأمم المتحدة، سيعني، في حال تطبيقه، أن الدولة اليهودية ستضم أقلية عربية كبيرة يصل حجمها إلى 42 في المئة من تعداد السكان، انتقلت ” من حيز التفكير بمشاريع الترحيل إلى حيز العمل على تنفيذها “.
ويشرح إيلان بابه بالتفصيل، في كتابه: “التطهير العرقي في فلسطين” ، خطة التطهير العرقي المنهجية التي وضعتها القيادة الصهيونية، في آذار 1948، وعُرفت باسم الخطة “د” أو “دالِت”، حيث يشير إلى أن الرفض العربي والفلسطيني لمشروع التقسيم قد أتاح لبن غوريون وللقيادة الصهيونية الادّعاء أن مشروع الأمم المتحدة أصبح باطلاً، وأن حدود الدولة اليهودية “سوف تتعيّن بالقوة، لا بقرار التقسيم”، وهذا ما ” سيحدث أيضاً  بالنسبة إلى مصير العرب القاطنين فيها” .
ويخلص بابه إلى أن خطة التطهير العرقي، التي استغرق تنفيذها ستة أشهر، أدّت إلى اقتلاع أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين، أي ما يقارب 800000 نسمة، من أماكن عيشهم، وإلى تدمير 531 قرية، وإلى إخلاء 11 حياً مدنياً من سكانه.


السلام الدائم والشامل سيشكّل تهديداً لتماسك المجتمع الإسرائيلي ووحدته

من بين العوامل الرئيسة التي أوصلت “عملية السلام” إلى طريق مسدود  شعور الأوساط الحاكمة في إسرائيل بأن السلام الدائم والشامل مع العرب سيشكّل تهديداً لتماسك المجتمع الإسرائيلي ووحدته، ولا سيما في ظل التحوّلات السياسية والاجتماعية والديموغرافية التي  طرأت على المجتمع الإسرائيلي في العقود الأخيرة وجعلته يواجه أزمة هوية، تمحورت حول الأسئلة الكبيرة التالية: هل هناك قومية إسرائيلية مشتركة؟ هل إسرائيل هي دولة كل اليهود في العالم؟ هل إسرائيل دولة علمانية أم دينية؟ هل إسرائيل دولة لليهود فقط أم لكل مواطنيها؟
لقد كان طموح الحركة الصهيونية أن تجمع في إسرائيل كل يهود العالم، وأن تصهرهم في بوتقة هوية قومية إسرائيلية مشتركة. بيد أن هذا الهدف لم يتحقق، على الرغم من مرور أكثر من ستين عاماً على قيام إسرائيل، حيث ظل المجتمع الإسرائيلي، وكما صوّره قبل سنوات عديدة شلومو هاسون، أستاذ الجغرافيا وتخطيط المدن في الجامعة العبرية بالقدس، بمثابة “أرخبيل”، مكوّن من هويات منفصلة ومعبّر عن “قبلية ثقافية”.
فبالإضافة إلى الانقسام بين اليهود الغربيين واليهود الشرقيين، وبين اليهود العلمانيين واليهود المتدينين، شهدت إسرائيل، منذ قيامها، انقساماً حاداً بين مواطنيها اليهود ومواطنيها العرب، واستقبلت في نهاية الثمانينيات ما يقرب من مليون من المهاجرين “الروس”، يُعتقد أن ثلثهم كانوا من غير اليهود، الذين اندمجوا في المجتمع سياسياً واقتصادياً إلى حد كبير، لكنهم حافظوا على هويتهم الثقافية. كما استقبلت إسرائيل عشرات الآلاف من يهود اثيوبيا (الفلاشا)، الذين طرحوا  تحدياً أخلاقياً  على المجتمع الإسرائيلي، الذي أخفق  في مواجهته، حيث برزت مواقف عنصرية متطرفة تجاههم، لدى رؤساء البلديات وسكانها، وفي المدارس. ومنذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، راح يتوافد على إسرائيل عشرات الآلاف من العمال الأجانب، الذين صاروا يشغلون مواقع العمل التي كان يشغلها عمال المناطق الفلسطينية المحتلة.
وعلى الرغم من التمييز الممارس إلى الآن بحق اليهود الشرقيين، إلا أن عدداً متزايداً من المختصين بالشؤون الإسرائيلية يعتبر أن الانقسام العميق القائم بين المتدينين والعلمانيين هو أكثر خطراً على إسرائيل من هذا الانقسام “الاتني”، لا سيما بعد أن باتت الأحزاب الدينية أقوى من أي وقت مضى، وتتمتع بقوة انتخابية كبيرة وتشكّل، عموماً، قاعدة لأنصار “إسرائيل الكبرى”، والحاضنة التي نمت فيها المنظمات والحركات اليمينية المتطرفة. ويدور الجدل بين المعسكرين، العلماني والديني، حول الشريعة الدينية وطبيعة الدولة. فقسم كبير من سكان إسرائيل اليهود  يتحمّل بصعوبة السلطة الحصرية التي يتمتع بها الحاخامات في ما يتعلق بشؤون اعتناق اليهودية، والزواج، والطلاق، ومراسم الدفن. كما يتحمّل بصعوبة أكبر استثناء طلاب المدارس التلمودية من الخدمة العسكرية، والمساعدات الكبيرة التي تقدمها الدولة لمدارس اليهود الأرثوذكس، من دون أن يكون لها الحق في مراقبة مضمون برامجها التعليمية. أما المعسكر الديني،  فيشكو، من جهته، من التمييز الممارس بحقه، ويأخذ على التعليم العلماني عدم إدراج تعليم القيم اليهودية ضمن برامجه.
ويرى إيلي برنافي في الكتيب، الذي أصدره في باريس سنة 2006 ، بعنوان: “إسرائيل- فلسطين. حرب أديان؟” أن هناك عوامل تفسّر هذا التزايد في نفوذ الأحزاب الدينية، من بينها أن الديانة اليهودية، هي ” ديانة قومية يتشابك فيها الاتني والديني بصورة وثيقة، ولا يحمل فيها معنى التمييز بين الديني والسياسي”، وكذلك التباس علمانية دولة إسرائيل، في ظل استمرار وجود رابط وثيق بين المواطنة، والاتنية والدين فيها، وانطواء الصهيونية “على مكوّن مسياني يرجع إلى العمق التاريخي للتوراة وإلى الرغبة في الانتساب إلى ماض عريق يمتلك شرعية”.
أما سؤال: كيف يمكن للدولة أن تكون يهودية، وأن تتطوّر، في الوقت نفسه، بوصفها ديمقراطية، تضمن لكل مواطنيها المساواة في الحقوق وفي المعاملة، فهو يصطدم بتعريف إسرائيل بوصفها “دولة الشعب اليهودي”.
فهذا التعريف، لا يسمح بالنظر إلى إسرائيل بوصفها ” دولة-أمة ” بالمعنى المعروف للكلمة، إذ هو يدرج ضمن هذه الدولة يهوداً من مواطني دول أخرى وينتمون إلى ثقافات قومية مختلفة، بينما يستثني مواطني الدولة العرب. كما أن “ديمقراطية” إسرائيل تظل في موضع شك بسبب الطبيعة المزدوجة لنظام الإدارة المتبع فيها، والذي يديم اللامساواة البنيوية: فمن جهة، هناك مؤسسات الدولة، ومن جهة ثانية، هناك مؤسسات الشعب اليهودي، مثل الوكالة اليهودية، والاتحاد الصهيوني، والصندوق القومي اليهودي… إلخ. وبينما تقوم مؤسسات الدولة على مبدأ ” المساواة ” بين المواطنين، وذلك بغض النظر عن كون ممارسته تشكو من نواقص عديدة، فإن مؤسسات الشعب اليهودي مسخرة لخدمة مصالح اليهود وحدهم.


“عملية السلام” الأمريكية: التركيز على الشكل على حساب الجوهر”


عندما انتخب مرشح الحزب الديمقراطي باراك أوباما للرئاسة الأمريكية في تشرين الثاني 2008، انتعشت آمال الكثيرين داخل الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم في أن عهداً جديداً قد بدأ، وساد الاعتقاد بأن حل الصراع العربي-الإسرائيلي بات وشيكاً.
لكن أوباما تراجع، بعد أشهر قليلة على إلقائه خطابه الشهير في جامعة القاهرة، في حزيران 2009، عن مطالبته حكومة نتنياهو بالوقف الكامل للاستيطان تمهيداً لاستئناف مفاوضات السلام مع الفلسطينيين. وعوضاً عن ذلك، صار يمارس ضغوطاته على الرئيس الفلسطيني ليقبل باستئناف المفاوضات “من دون شروط “. وعادت إدارته إلى اعتماد نهج الإدارات الأمريكية السابقة، وهو  نهج “تغليب الشكل على الجوهر”. فالمهم هو أن تبقى “عملية السلام” حية، وليس المهم توفير شروط توصل هذه العملية إلى سلام عادل ودائم.  
والواقع، أن ترافق انطلاق “عملية السلام ” الأمريكية في الشرق الأوسط، بعد حرب حزيران 1967، مع تحوّل إسرائيل إلى الحليف الثابت والقوي للولايات المتحدة في هذه المنطقة، قد كبّل أيدي الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ودفعها، انسجاماً مع الطابع البراغماتي للثقافة السياسية الأمريكية، إلى اعتماد مقاربة “إجرائية”، تغلّب الشكل على الجوهر، وتحول دون وقوع صدام واسع بين الولايات المتحدة وإسرائيل. من الصحيح أنه قد تمّ  التوصل إلى اتفاقات سلام منفردة بين بعض الأطراف العربية وإسرائيل، إلا أن كل هذه الاتفاقات قد تمت، في الواقع، بمعزل عن مشاركة الولايات المتحدة المباشرة، التي كان دورها يقتصر، غالباً، على استضافة طرفي الاتفاق للتوقيع عليه في حفل سياسي وإعلامي كبير. وحتى عندما كانت بعض الإدارات الأمريكية توحي بعزمها على التدخل المباشر في المفاوضات، أو تبادر إلى تقديم  مبادرات وخطط ” سلمية “، فقد كانت تفعل ذلك، دوماً، بما لا يتعارض مع المواقف الإسرائيلية.
ولكن كيف يمكن تفسير هذا االموقف الأمريكي من “عملية السلام” في الشرق الأوسط، والذي تبنًته الإدارات الأمريكية المتعاقبة؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من التوقف عند ثابتين مترابطين حكما السياسة الأمريكية إزاء الصراع العربي-الإسرائيلي، وهما التحالف الوثيق القائم بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والنفوذ الكبير الذي يتمتع به اللوبي المؤيد لإسرائيل داخل الولايات المتحدة.
فقد بقي الموقف الأمريكي إزاء الصراع العربي-الإسرائيلي متوازناً إلى حد ما طوال خمسينيات القرن العشرين، وذلك على الرغم من التعاطف الواسع مع إسرائيل والدفاع الحازم عن حقها في الوجود ضمن حدود آمنة ومعترف بها. ففي ذلك العقد، تقدمت الولايات المتحدة، بالارتباط الوثيق مع مشاريعها العسكرية لمواجهة النفوذ السوفيتي في الشرق الأوسط، بعدد من المبادرات السياسية  الرامية إلى  التوصّل إلى ” صلح ” عربي- إسرائيلي يثبّت حدود الهدنة لعام 1949 ويضمن عودة قسم من اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم. ولجأت أحياناً، بهدف تمرير مشاريعها تلك، إلى الضغط، السياسي والعسكري، على إسرائيل، كما فعلت إدارة الرئيس أيزنهاور عندما مارست الضغط على حكومة بن غوريون وأجبرتها، في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر، على الانسحاب من سيناء ومن قطاع غزة. بيد أنه راح يطرأ  تحوّل على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط في عهد إدارة جونسون، 1964-1967، حيث  فقد فريق جونسون للشرق الأوسط  قدرته على التمييز بين المصالح الأمنية لكل من إسرائيل والولايات المتحدة، ثم جاء الانتصار الساحق الذي حققته إسرائيل في حرب حزيران 1967 ليجعل منها “رصيداً استراتيجياً” في أنظار كثير من المسؤولين الأمريكيين .
ومع أن البعض قد راهن على أن تؤدي نهاية الحرب الباردة إلى إضعاف دور إسرائيل “كرصيد استراتيجي” للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إلا أن الوقائع بيّنت أن هذا الرهان لم يكن في محله. فقد استمر التحالف الوثيق بين البلدين، على الرغم من أن حرب الخليج في عام 1990-1991 قد  أماطت اللثام عن حقيقة أن إسرائيل آخذة بالتحوّل إلى عبء إستراتيجي، حيث لم تستطع الولايات المتحدة استخدام القواعد الإسرائيلية خلال الحرب خشية المخاطرة بتمزيق التحالف ضد العراق. ثم كرّر التاريخ نفسه مرة أخرى في عام 2003.
والواقع، ان إسرائيل قد نجحت في تكييف نفسها مع الحقائق الجديدة التي تولدت عن نهاية الحرب الباردة، واستفادت من بروز دور تيار “المحافظين الجدد” على الساحة السياسية الأمريكية كي تحافظ على تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة، كما استفادت من أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، كي تشيع فكرة أن الولايات المتحدة وإسرائيل كلتيهما مهددتان بالجماعات “الإرهابية” المنتشرة في العالم العربي والإسلامي، ومن قبل “الدول المارقة” التي تسعى لحيازة أسلحة دمار شامل .
ولم يكن التحوّل الذي راح يطرأ على الموقف الأمريكي إزاء إسرائيل، منذ عهد إدارة جونسون وبخاصة بعد حرب حزيران 1967، بعيداً عن تعاظم دور ونفوذ اللوبي المؤيد لها داخل الولايات المتحدة، والذي يضم  ما يقرب من 80 منظمة، تجتمع الكبيرة والمهمة منها، وعددها 51، في إطار “مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية”، ومن  بينها “إيباك” (اللجنة الأمريكية-الإسرائيلية للشؤون العامة)، و “المؤتمر اليهودي الأمريكي”. ووفقاّ لأقوال أحد أعضاء الكونغرس، التي ينقلها الصحافي مايكل ماسينغ، يمكن لمنظمة إيباك الاعتماد على تأييد ما بين 250 إلى 300 نائب. كما يمكن لها الحصول على توقيع 75 سيناتوراً خلال 24 ساعة.
ولا يستند اللوبي المؤيد لإسرائيل إلى قوى يهودية فحسب، بل يستند أيضاً إلى قوى عديدة في المجتمع الأمريكي، من غير اليهود. ومن أهم هذه القوى تيار ” المحافظين الجدد”، الذين برزوا في الحياة السياسية والثقافية منذ السبعينيات، ثم صاروا يتمتعون بنفوذ كبير بعد احداث 11  أيلول 2001.
كما يضم اللوبي بين صفوفه جماعة أخرى مهمة، هي جماعة ” الصهيونيين المسيحيين”، الذين يجدون جذورهم في تفسير للتوراة  برز في انكلترا في القرن التاسع عشر، على يد بعض القساوسة الأنغليكانيين، وقام على أساس اعتبار ” أن العالم سيشهد حالة من الاضطراب المتعاظم حتى عودة المسيح، وأن عودة اليهود إلى فلسطين ستمهد للعودة الثانية للمسيح، المعلنة في نبوءات العهدين القديم والجديد”.
ومن أجل تسويغ استمرار الدعم الأمريكي لإسرائيل، يلجأ اللوبي إلى عدد من الحجج، من بينها أن إسرائيل هي الدولة “الديمقراطية” الوحيدة في المنطقة، وأنها ” دولة الشعب الذي عانى الكثير من الآلام، ولا سيما خلال الحرب العالمية الثانية “، وأنها الدولة “التي سعت إلى السلام دوماً”.
ويستفيد اللوبي ، لدى ممارسته الضغوط على الإدارات الأمريكية، من حقيقة أن الصراع العربي-الإسرائيلي  لا يقبع في مركز اهتمام المواطن الأمريكي المتوسط ، حيث  لم تشهد الولايات المتحدة، إلى الآن، ولادة  حركة واسعة تدفع في اتجاه أن يكون للولايات المتحدة التزام كامل في البحث عن اتفاق سلام عربي- إسرائيلي شامل ، بل اقتصرت هذه الحركة، في الأساس،على مجموعة صغيرة من المختصين في الشرق الأوسط، الذين نادراً ما يؤخذ بآرائهم من قبل الإدارة أو من قبل الكونغرس . كما يستفيد اللوبي من عجز الفلسطينيين، والعرب، عن التأثير على المجتمع الأمريكي وإسماع صوتهم للرأي العام داخله.
وإذا أخذنا في الاعتبار بأن المساعي “السلمية” التي بذلتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة كانت مدفوعة بعوامل رئيسية ثلاثة، وهي: الحؤول دون تزايد النفوذ السوفيتي في هذه المنطقة، ومنع تحوّل الحروب بين إسرائيل والدول العربية إلى حروب طويلة قد تهدد إسرائيل وتفضي إلى مواجهة بين القوتين العظميين، وضمان استمرار إمدادات النفط إلى الدول الغربية، يمكننا الاستخلاص بأنه، بعد  توصّل مصر إلى معاهدة الصلح المنفرد مع إسرائيل، وفك الارتباط  بين النفط  وبين الصراع العربي-الإسرائيلي، وانتهاء الحرب الباردة، وإلحاق الهزيمة بالعراق وتعاظم الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الخليج، قد زالت، أو تقلصت إلى حد كبير، المخاطر التي كانت تهدد المصالح الأمريكية في المنطقة. وعليه، فالقناعة السائدة بين صناع القرار في واشنطن هي أن الصراع العربي-الإسرائيلي، وعلى الرغم من كونه واحدة  من القضايا الدولية الحساسة، إلا أنه  ليس من أكثرها خطورة،  ويمكنه، بالتالي، أن يبقى، من دون حل، لسنوات أخرى، طالما نجحت الولايات المتحدة في ” إدارته “، والتحكم به، من خلال حفاظها على ” عملية السلام ” حية، وذلك إلى أن يقبل الفلسطينيون، والعرب، في يوم ما، بالتصوّر الإسرائيلي للسلام وشروطه.


الضعف الفلسطيني والعربي والخلل في موازين القوى


عند الحديث عن العوامل التي منعت التوصل إلى حل عادل ودائم لهذا الصراع، لا يمكننا تجاهل مدى تأثير العامل المتمثّل في الضعف الفلسطيني والعربي. من الصحيح  أن الخلل في موازين القوى بين طرفي الصراع  قد نبع، في الأساس، من الدعم الكبير، والمتعدد الأبعاد، الذي تلقته الحركة الصهيونية من “بريطانيا العظمى”، والذي تلقته، وما زالت تتلقاه، إسرائيل من الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن هذا لا ينفي حقيقة أن الحركة الوطنية الفلسطينية قد عانت، وما زالت تعاني، من مظاهر ضعف بنيوية عديدة، ساهمت، بدورها، في عدم تمكينها من تحقيق قدر من توازن القوى مع الحركة الصهيونية وإسرائيل.
ففي مرحلة الانتداب البريطاني، بقي المجتمع العربي الفلسطيني الريفي يعاني من ضعف بنيته، ومن ضعف قيادته، التي  لم تفلح في بناء حركة وطنية منظمة بشكل فعّال، ولم تتحرر من أسر العصبيات العائلية والمناطقية، وبقيت، طوال العشرينيات، تتجنب تعبئة الجماهير الشعبية للدخول في مواجهة مباشرة مع سلطات الانتداب، وتراهن على إمكانية تغيير مواقف الحكومة البريطانية، دون أن تدرك طبيعة التحالف الإستراتيجي الذي يربط بريطانيا بالحركة الصهيونية العالمية. وتجلى ضعف هذه القيادة، بوجه خاص، في موقفها من ثورة 1936-1939، التي جاءت متأخرة كثيراً  عن مثيلاتها في البلدان العربية المجاورة، والتي طغى عليها، في مراحلها الأخيرة، الاحتراب الداخلي  وعمليات الاغتيال السياسي. وبفشل تلك الثورة في تحقيق أهدافها، أصبح الطريق ممهداً أمام وقوع النكبة في عام 1948، بعد الهزيمة التي لحقت بالجيوش العربية.
ومع هزيمة الجيوش العربية في حزيران 1967، انتهى الرهان الفلسطيني على الوحدة العربية كطريق إلى تحرير فلسطين، وبرز الكفاح المسلح ليمثّل رافعة لنضال الشعب الفلسطيني، إذ نجح في تحرير العمل الفلسطيني من قيود الوصاية العربية، وأحيا الهوية الوطنية الفلسطينية، وأعاد الشعب الفلسطيني إلى مسرح الأحداث الإقليمية والدولية، وحوّل  قضيته من قضية إنسانية إلى قضية سياسية، ووحّد صفوفه في أماكن تواجده كافة، ووفّر له تمثيلاً سياسياً مستقلاً  من خلال منظمة التحرير الفلسطينية.
بيد أن الكفاح المسلح لم يتجاوز أبداً، من زاوية تأثيره على العدو، حدود كونه “عامل إزعاج” بالنسبة للإسرائيليين، الذين نجحوا في صده وإضعافه في نهاية المطاف. وقد ساهم في ذلك إخفاق منظمات المقاومة المسلحة في تركيز هذا الكفاح في المناطق الفلسطينية المحتلة، لعوامل عديدة، من بينها كون ميدان المعركة في هذه المناطق غير ملائم لحرب العصابات، وعجزها، بعد أن تيقنت من هذه الحقيقة، عن الحفاظ على “القاعدة الآمنة” التي أقامتها في الأردن، أولاً، ثم في لبنان، وذلك لأسباب كثيرة من بينها  الضغط العسكري الإسرائيلي المتواصل، والأخطاء التي وقعت بها قيادة منظمة التحرير في تعاملها مع محيطها العربي.
وبخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، باتت قيادتها أكثر عرضة لضغوطات المحاور العربية المختلفة، وفقدت قيادة حركة فتح قدرتها على التحكم بالخلافات السياسية التي كانت تنشأ داخل الحركة أو بينها وبين فصائل منظمة التحرير الأخرى، والتي أسفرت ، في مطلع الأسبوع الثاني من أيار 1983، عن وقوع انشقاق داخل حركة فتح، كان بتفاعلاته مقدمة لانقسام منظمة التحرير الفلسطينية على نفسها.
ولم يُخرج منظمة التحرير من أزمتها الخانقة في ذلك الوقت سوى الانتفاضة الشعبية التي اندلعت بصورة عفوية في كانون الأول 1987، والتي أعادت للقضية الفلسطينية أولويتها على سلم الاهتمامات العربية، كما دفعت الحكومة الأردنية، في 31 تموز 1988، إلى الإعلان عن فك العلاقة القانونية والإدارية بين الضفتين الشرقية والغربية لنهر الأردن، وحرّكت،على الصعيد الدولي، موجة واسعة من التعاطف مع الشعب الفلسطيني، كما نشّطت المساعي الدولية الرامية إلى إيجاد تسوية سياسية للصراع.
بيد  أن هذه الانتفاضة، التي أخفقت في التحوّل إلى حركة عصيان مدني شامل، راحت تشهد، منذ صيف العام 1989، تراجعاً في مستوى المشاركة الشعبية في فاعلياتها، وبخاصة في التظاهرات والصدامات مع جنود الاحتلال والمستوطنين، كما راحت تشهد تراجع اللجان الشعبية المختلفة التي لعبت دوراً بارزاً في تأطيرها، وتنامي مظاهر البيروقراطية بين صفوفها، لا سيما بعد أن قامت فصائل منظمة التحرير ” بتأسيس عشرات المؤسسات والهيئات والمجالس، وذلك على أساس معيار الانتماء السياسي بديلاً عن معيار الكفاءة والخبرة “. وببروز الصراعات الفئوية  بين أطراف “القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة” وحركة “حماس”، راحت تطغى مظاهر العسكرة على الانتفاضة، حيث صارت تبرز مجموعات مسلحة بين صفوف الشبان تجمع “الخوّات ” من المواطنين بحجة دعم الانتفاضة، وتضع الحواجز على مداخل القرى والبلدات، وتلجأ إلى أعمال الخطف والتحقيق بدعوى الشبهة بالتعاون مع سلطات الاحتلال، وإلى أسلوب تصفية الحسابات الشخصية.
وبينما راحت الانتفاضة تراوح في مكانها، و “تأكل أبناءها”، وقعت حرب الخليج الثانية، التي ترافقت مع انهيار الاتحاد السوفيتي، ودفعت منظمة التحرير غالياً ثمن انحيازها للنظام العراقي إثر غزوه للكويت، ووافقت، وهي ضعيفة ومفتقدة للموارد المالية، على الشروط الأمريكية للمساهمة في العملية السياسية التي انطلقت مع انعقاد مؤتمر مدريد. ثم كان “اتفاق أوسلو”، الذي بيّن بأن قيادة المنظمة “غلّبت، لدى قبولها بشروطه الإسرائيلية، عوامل الحفاظ على دورها، كقيادة للشعب الفلسطيني، على حساب القضية”. وبتداعي الآمال التي انعقدت على ذلك الاتفاق،  وإثر فشل مفاوضات كمب ديفيد بين ياسر عرفات وإيهود باراك، في تموز 2000، اندلعت الانتفاضة الثانية، التي شهدت ، منذ أسابيعها الأولى، صراعاَ بين القوى الفلسطينية المنخرطة فيها حول طبيعة أهدافها السياسية، وحول تعميق طابعها الشعبي السلمي أو توجيهها نحو النشاطات المسلحة، وحول حصرها داخل حدود الأراضي المحتلة عام 1967 أو مدها إلى إسرائيل.
وكان قد بدأ يطرأ، بعد اندلاع الانتفاضة الثانية ورحيل ياسر عرفات، الذي كان بمثابة “الصمغ اللاصق” للحركة الوطنية الفلسطينية، تحوّل على موازين القوى داخل الساحة الفلسطينية لصالح التيار الإسلامي، خلق مع الوقت، وبخاصة بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، حالة من ازدواجية السلطة، أفضت، في نهاية المطاف، إلى فوز حركة “حماس” في  الانتخابات التشريعية التي جرت في مطلع كانون الثاني 2006، ثم إلى تحوّل الصدامات المسلحة التي صارت تقع بين “فتح” و “حماس”، وبخاصة في قطاع غزة،  إلى صراع شامل، انتهى، في أواسط حزيران 2007، بقيام “حماس” بفرض سيطرتها بالقوة العسكرية على قطاع غزة، وهو ما أدّى إلى حدوث  انقسام جغرافي وسياسي  بين الضفة الغربية وقطاع غزة، سيهدد ” استمراره وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة مشروعه الوطني التحرري، وسيسمح بعودة الوصاية العربية على الفلسطينيين ، ويمكّن إسرائيل من تكريس احتلالها”.
هذه هي العوامل الأربعة الرئيسة التي حالت، وما زالت تحول، دون التوصل إلى سلام عادل ودائم لصراع انطلق قبل أكثر من قرن… ومع أن التفوق فيه كان، إلى الآن، من نصيب الحركة الصهيونية وإسرائيل، إلا أن هذا الواقع لن يدوم على المدى البعيد، طالما بقي الشعب الفلسطيني حياً  كطائر الفينيق، الذي يقوم  دوماً من تحت الرماد، وتواقاً إلى الاستقلال والعودة، وطالما ظلت الشعوب العربية متمسكة بحقوقها العادلة في تحرير أراضيها المحتلة ومتطلعة إلى غد أفضل.

(باحث ومفكر فلسطيني)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>