لوحة زورق الصيد/ ألان سيليتو

كان الدهان الذي هربت برفقته يعيش وحده في بيت على الطرف المقابل من الشرفة. وكان مشردا لعدة شهور ثم حصل على عمل في مكان يبعد حوالي عشرين ميلا كما علمت لاحقًا. وكان الجيران على ما يبدو متحمسين لنقل هذه الأخبار لي، بعد رحيلهما طبعًا: لقد كانا على علاقة وثيقة لحوالي عام واحد. ولا أحد يعلم إلى أين ذهبا بالضبط

لوحة زورق الصيد/ ألان سيليتو

|ألان سيليتو|

|ترجمة : صالح الرزوق| خاص بـ “قديتا”|


كنت ساعي بريد لمدة ثمانية وعشرين عامًا. وكونها العبارة الأولى ومكتوبة بطريقة مباشرة، فإنّ ذلك قد يعني أنّ العمل بصفة ساعٍ للبريد مسألة هامة. ولكنني أعلم أن الاستقرار في العمل لفترة طويلة شيء لا معنى له. ثم أنه ليس خطأ مني أنّ المسألة تبدو هكذا لبعض الناس، لمجرد أنني كتبتها بشكل مباشر. والحقيقة أنني لا أستطيع الكتابة بغير هذا الأسلوب. ولو شرعت باستخدام مفردات طويلة ومعقدة يجب البحث عنها مطولا في القواميس لربما سأصبح بحكم العادة من أصحاب اللغة المقعرة، فأستعملها مرارًا وتكرارًا، ومن خلال تراكيب محدودة، وأعتقد أنّ من الأجدر ألا ألجأ لهذه الأساليب الحمقاء، ولا لمفردات لا تجدها إلا في القاموس.

وسعيًا لإفادتكم سأضيف: مضى على زواجي ثمانية وعشرون عامًا. وهذه العبارة هامة جدًا بغض النظر عن أسلوبها أو طريقة الإفصاح بها. ولكن تصادف أنني اقترنت بزوجتي يوم دخلت في سلك عمل مستقرّ، وكان هذا أول عمل لي، ساعي بريد (قبل ذلك كنت شابا مستقلا وحرًا). لقد توجّب عليّ أن أقترن بها بمجرد الحصول على العمل والسبب أنني قطعت لها وعدًا بذلك، وهي ليست من النوع الذي ينسى الوعود.

وحينما حانت أمسية أول راتب دعتني وسألتني: “ما رأيك بنزهة في سنيكي وود؟”. كانت البهجة الغامرة تملأ وجهي وتدفعني لتسلق أعلى قمة في العالم، ولأنني نسيت ما يتعلق باتفاقنا لم أفهم ماذا تقصد بسؤالها: “حسنا، وماذا بعد؟”. كان الوقت في نهايات الخريف على ما أذكر وكانت أوراق الأشجار مثل الثلج المندوف، يابسة من الأعلى ولكنها إسفنجية من الأسفل. تمشّينا في ضوء القمر المشرق والرياح الخفيفة حتى بستان الكرز، وكنا في غاية الغبطة، وأيدينا متشابكة. وفجأة توقفت والتفتت نحوي؛ كانت امرأة صغيرة مكتملة البنية ذات قوام ممشوق ووجه ذي قسمات ساحرة بما يكفي، ثم قالت: “هل ترغب بالدخول إلى الغابة؟”.

يا له من سؤال! ضحكت وقلت لها: “تعلمين أنني أرغب. وأنت هل لديك نفس الشعور”؟

تابعنا مسيرنا، وبعد دقيقة قالت لي: “نعم، أرغب بذلك. ولكن أنت تعلم ماذا يجب أن نفعل بعد حصولك على عمل ثابت، أليس كذلك؟”

تساءلتُ عمّا تعنيه، مع أني صاحب الفكرة أساسًا. ثم قلت على وجه اليقين: “أن نتزوج”. وبعد قليل من التفكير قلت: “ولكن راتبي لا يزال صغيرا ولا يحتمل تكاليف العرس، تعلمين هذا”.

ردت تقول: “هذا يكفي، حسب رأيي”.

وعند هذا الحد توقف الكلام، ومنحتني أفضل قبلة حصلت عليها في حياتي. ثم دخلنا في الغابة.

لم تكن مقتنعة بظروف حياتنا معا منذ البداية. وأنا كذلك. ولم يستغرق الأمر طويلا حتى بدأت تخبرني بأنّ أصدقاءها -ومعظمهم من أفراد العائلة- قالوا لها في مناسبات عديدة إن زواجنا لن يستمرّ أكثر من خمس دقائق. لا أستطيع أن أعلق على ذلك، مع أنني أتخيل مسبقا كيف سيبدو حال الآخرين بعد عدة شهور. وهذا لم يزعجني أيضًا، لأنني من ذلك النوع من الرجال الذي لا يقلق حيال أي شيء، أبدًا. ولو شئت الحقيقة -وأفترض أنه لا يوجد رجال كثيرون على استعداد للاعتراف بها- كان زواجي، بكلّ صراحة، لا يعني أكثر من استبدال بيت وأم بسواهما. كان الأمر بهذه البساطة. حتى إنّ مصير راتبي لم يتغيّر. كنت أسلمه لها كل مساء يوم جمعة وأحتفظ منه بخمسة شلنات من أجل التبغ وحضور أفلام السينما. وكانت نفقات العرس محصورة بالطقوس وحفل الاستقبال، ثم بدأ الإنفاق وتسريب النقود أسبوعيا لمدى الحياة. ومن هنا كما أفترض خرجت فكرة الإيجار. ومع ذلك استغرق زواجنا فترة تزيد على الدقائق الخمس، بعكس النبوءات. استمرّ لحوالي ست سنوات، ثم هجرتني وأنا في الثلاثين من عمري، وهي في الرابعة والثلاثين. المشكلة أنه كلما احتدم النقاش بيننا وتبادلنا الشتائم، كنا نتراشق بالصحون: الكثير منها؛ كانت الأمور تشبه المعاناة والتألم، وفي خضمّ هذه الحالة كان يخطر لي أنّ المشادات بالكلام والمعاناة شيء بدأ من أول لحظة وقعت فيها عيني على عينها، بلا هوادة، وهو ما استمر بنفس الأسلوب طيلة حياتنا المشتركة. ولكن الحقيقة، كما أراها الآن، وكما سأراها فيما بعد، أننا أمضينا الكثير من الأوقات السعيدة والممتعة.

وكنت أعتقد قبل أن تغادرني أنّ أوقاتنا معا كزوج وزوجة قد انتهت؛ فقد دبّ بيننا خلاف هو الأسوأ منذ سنوات. كنا نجلس في البيت ذات أمسية نشرب الشاي، وكلٌ منا على طرف معاكس من المنضدة. الأطباق فارغة والبطنان مليئتان ولذلك لم يكن لدينا عذر لما سوف يأتي. كان رأسي مطمورًا في كتاب، وكاثي أمامي بلا أية مشاغل.

وفجأة قالت لي: “كم أحبك يا هاري”. لم أسمع الكلمات لفترة غير وجيزة، كما هو حال من يستغرق بقراءة كتاب. ثم قالت: “هاري، أنظر إليّ”.

رفعت وجهي وأنا أبتسم، ثم تابعت القراءة. ربما ارتكبت خطأ جسيمًا، وربما توجب عليّ أن أجاملها بعبارة بسيطة، ولكنّ الكتاب كان شيقًا فعلا.

قالت مُعلقة: “أنا متأكدة من أنّ القراءة تُضرّ بعينيك”. وهكذا نغّصت عليّ جوّ عالم الهند الجذاب والحار. أنكرت الفكرة وقلت لها: “لا”، ولم أرفع نظري. كانت لا تزال صغيرة، ولها وجه مفعم بالحياة وأطراف منطلقة وجسم عاطفيّ يطرق على أبواب الثلاثين، وهذا لم منعني من استيعاب عنادها وغضبها على السواء. تابعت تقول: “كان من عادة والدي أن يقول إنّ المغفلين وحدهم يقرأون الكتب، ويتورطون دائمًا بأشياء كثيرة يجب تعلمها”.

أصابتني كلماتها بجراح دامية، ولم أستطع أن أقاوم فكرة الردّ عليها من دون أن أرفع عيني عن صفحة الكتاب، فقلت لها: “هو يقول ذلك فقط لأنه لا يعرف كيف يقرأ. أنا أعتقد أنه كان يغار من المثقفين”.

فقالت ببطء: “لا حاجة لأن تغار من التفاهات التي تحشو بها رأسك”. كانت تتعمد أن يصلني معنى كلّ كلمة تقولها. وهكذا لم أتمكّن من مواصلة الاستمتاع بالكلمات المطبوعة؛ لقد كانت العاصفة قريبة.

قلت لها: “أنظري، لماذا لا تحملين كتابًا يا بطتي؟” ولكنها لم ترغب بذلك. إنها تكره الثقافة مثل السجون والمعتقلات. فقالت بصوت يشبه المواء: “لديّ أحاسيس أعمق، وواجبات كثيرة تستغرق كلّ وقتي”.

وهنا غضبت منها قليلا وبقدر معتدل. كنت لا أزال آمَلُ أنها لن تستمرّ على هذا النحو وأنه من الممكن أن أنتهي من الفصل الذي أقرأه، فقلت لها: “حسنا إذًا ، إسمحي لي بالقراءة، من فضلك. هذا كتاب هام، ثم أنني مرهق من الحياة”.

ولكن مثل هذا التوسّل فتح لها الباب من طرف آخر، فقالت: “أنت مرهق؟.. أنت مرهق دائما”. وضحكت بأعلى صوتها ثم أضافت: “مرهق! يجب أن تبذل جهدك لتجد منفذا للنجاة عوضا عن التسكع في الشوارع برفقة حقيبة الرسائل المُشينة”.

لم أتابع، ولم أبحث عن كلمة مناسبة للردّ على كل كلمة تنطق بها. وعلى أيّ حال، لم يمرّ وقت طويل قبل أن تسحب الكتاب من يدي وتقول: “أيها الوغد القارئ. لا أعني الكتب فقط، ليس الكتب فحسب، ليس الكتب، أنت متعفن وميت”. ثم قذفت الكتاب فوق كومة من الفحم المشتعل، ثم دفعته بواسطة المحراك المعدني إلى الأمام حتى أصبح في وسط اللسان الملتهب والمتوقد.

كم أزعجني ذلك! ضربتها لمرة واحدة، ضربة ليست بالقوية، ولكنني ضربتها. كان كتابا جيدا يستحق القراءة، وفوق ذلك فهو من ممتلكات المكتبة العامة ويجب أن أدفع ثمن نسخة جديدة. هنا انسحبتْ وخبطت باب البيت وراءها، ولم تقع عيني عليها حتى اليوم التالي. لم أعتقد أنّ قلبي سينفطر لأنها ذهبت. كانت معاناتي قد بلغت الزّبى. وكل ما أستطيع أن أقوله إنها مشيئة الرب وقسمته ونصيبه أننا لم نرزق بأولاد. ثم اعتصمت وحدها لمرة أو اثنتين في زاويتها، ولكن لم تترتب على ذلك أشياء قاسية. وفي كل مرة كانت تنفث عن غضب ومرارة من الصعب امتصاصهما خلال شهور الهدنة التي تأتي بين كل نوبتين. ومع ذلك يخطر لي أحيانًا أنه من الأفضل لو أنها انشغلت بتربية الأولاد، ولكن من يعلم ما هو الأفضل حقا.

بعد شهر من تاريخ إحراق الكتاب هربت مع دهان. رتبت للأمر بكلّ ذكاء. لم يسبق ذلك عراك أو خصام أو تهشيم لأركان السعادة المنزلية. لقد رجعت من العمل ذات يوم ورأيت ملاحظة مكتوبة بانتظاري تقول: “أنا راحلة ولن أعود”. كانت مثبتة على مرآة الزينة أمام السّاعة. لم ألاحظ وجود بقع على أطراف الورقة، التي كانت مؤلفة من ثماني كلمات مكتوبة بقلم رصاص على صفحة من دفتر التأمين، الذي لا يزال بحوزتي في محفظة الجيب- والله وحده يعلم لماذا.

كان الدهان الذي هربت برفقته يعيش وحده في بيت على الطرف المقابل من الشرفة. وكان مشردا لعدة شهور ثم حصل على عمل في مكان يبعد حوالي عشرين ميلا كما علمت لاحقًا. وكان الجيران على ما يبدو متحمسين لنقل هذه الأخبار لي، بعد رحيلهما طبعًا: لقد كانا على علاقة وثيقة لحوالي عام واحد. ولا أحد يعلم إلى أين ذهبا بالضبط، فيمكن أنهما تخيلا أنني أرغب بمطاردتهما، إلا أنّ هذه الفكرة لم تخطر ببالي. في جميع الأحوال ماذا يتوجب علي أن أفعل؟ هل أضربه حتى يستلقي على الأرض مستسلمًا ثم أجرّ كاثي من شعرها إلى بيتها الأول؟ لا، هذا غير محتمل.

والآن لا فائدة من إقناع الذات بأنّ ما حصل لن يبدّل من حياتي. أنت تفتقد إلى المرأة حين تعيش معك في نفس البيت لستة أعوام، مهما كان شكل الحياة معقدًا ومشاكسًا، حياة قطة وكلب. الآن أعترف: كانت لدينا بعض اللحظات التي لا تُنسى. وبعد رحيلها المفاجئ لحق شيء من التبديل بالبيت: الجدران، السّقف، وكل شيء من المُقتنيات. ولكن لم يتبدل شيء آخر في داخلي. وها أنا أحاول إخبار نفسي بأنّ فرار كاثي لم يؤثر في أحوالي ولم يغير مني طرفة عين. غير أنّ الوقت في البداية كان يزحف ببطء، وانتابتني مشاعر رجل يجرّ نفسه بأقدام متورّمة، ثم حلت أمسيات الصيف الطويلة التي لا ترى لها نهاية، وشعرت بالسعادة رغما عني؛ كنت سعيدًا جدًا وقادرًا على تخطي هذه العواصف: الحزن والعزلة. كان العالم يتحرك مرة أخرى، هكذا شعرت، وهكذا كنت. وبكلمة أخرى نجحت في الوصول إلى أفضل ما يمكن، وهذا يعني فيما يعنيه تناول وجبة شهية في الكانتين في منتصف كلّ يوم. كنت أسلق بيضة للإفطار (يوم السبت تكون مقلية مع اللحم المقدّد) وكنت أشرب الشاي مبردًا بقطع الثلج الصلب في كلّ أمسية. وبناءً على وجهة الأحوال، لم تكن ظروف حياتي سيئة. ربما كنت وحيدا قليلا، ولكن على الأقل كان الجوّ مسالما وهادئا ولا غبار عليه، ولا مجال للتذمّر بطريقة أو بأخرى. ثم فقدت الإحساس بالعزلة التي كنت أتضور منها بعد أن ذهبت من بين أحضاني. ثم لم تعد ترد إلى ذهني أبدا. كنت ألتقي بما يكفي من الأشخاص في تجوالي اليومي من مطلع النهار وحتى المساء وخلال عطلة نهاية الأسبوع. وأحيانا كنت ألعب بالأسهم في النادي أو أخرج من أجل نصف مكيال أشربه بمنتهى البطء والتعسف في بار تجده في أول الشارع.

واستمرت الأحوال بهذه الطريقة لعشرة أعوام. وبلغ إلى علمي لاحقا أن كاثي تعيش في ليستير (1) مع الدهان. ثم عادت إلى نوتنغهام (1). وحضرت لتلقاني في أمسية يوم جمعة، يوم تلقي الأجور. ومن وجهة نظرها، كما تبين لي، لم يكن بوسعها أن تأتي في موعد أفضل.

كنت أستند على بوابة بيتي في الباحة الخلفية وأدخّن الغليون والتبغ. كان يومي حافلا بالتجوال، وعلمت أنّ كثيرا من الأشخاص غادروا أماكنهم ولا أحد يعلم إلى أين، وسواهم كان يستغرق أكثر من عشر دقائق لينهض من الفراش ويوقع على رسالة مسجلة، والآن أشعر بالهدوء المضاعف لأنني في البيت، أدخن غليوني في الباحة الخلفية عند آخر لحظة من فصل الخريف. كانت السماء صافية ومصفرة، ولكنها خضراء فوق سقف البيت وهوائي اللاسلكي. وكانت المداخن قد بدأت بإطلاق أول سحابة من دخان المساء إلى الفضاء، ومعظم محركات المصانع توقفت عن الدّوران والضجيج، بينما لم ينقطع صخب الأولاد حول أعمدة النور ومعه نباح كلاب تأتي من مسافة نائية. كنت على وشك تفريغ غليوني والعودة إلى البيت لأتابع قراءة كتاب عن البرازيل توقفت معه في الليلة المنصرمة.

وعندما وصلت إلى منعطف الشارع وبدأت بالتقدّم نحو الباحة رأيتها. ترك ذلك بي مسحة من المشاعر المضحكة: عشر سنوات ليست كافية لتبديل أشخاص أنت لا تعرفهم الآن، وأنت بحاجة لإلقاء نظرة ثانية قبل أن تتأكد. تلك اللحظة الموزعة بين نظرتين تشبه لكمة في البطن. لم تكن تسير بطريقتها المعهودة، وكأنها تملك الرصيف وكل شخص عليه. كانت أكثر تمهّلا من آخر مرة رأيتها فيها، وكأنها ارتطمت بجدار السنوات العشر المنصرمة حينما كانت تسير بزهو يشبه مشي الديك وهو يتبختر فوق السور. لم تكن تبدو متيقنة من هويتها وكانت تميل إلى  البدانة قليلا وترتدي دراعة من الصيف السابق مع معطف شتويّ مفتوح الأزرار، وكان شعرها مصبوغا بلون معتدل مع أنها كانت تفضّل الظل البني الجذاب.

لم أكن سعيدا برؤيتها ولا حزينا، إلا أنّ هذا قد يكون نابعًا من تأثير الصدمة؛ لقد انتابتني الدهشة، هذا كل ما بوسعي التصريح به. لم أكن أتوقع رؤيتها مجددًا، وأنت تعلم كيف هي الحال. لقد نسيتها في الواقع بطريقة ما. وكلما ابتعدت ذكرياتها كانت حياتنا تختصر حتى عام واحد، حتى شهر، يوم، دقيقة مقسومة تمرّ بين خيطين من النور ينبثقان من أغوار الظلام قبل أن يحين موعد الاستيقاظ. كانت الذكريات تذهب إلى الخلف بعيدًا وتنطوي، حتى لو أنها من عشر سنوات، ولا يتبقى منها إلا ما يشبه الحلم. لنقل إنني نسيتها بمجرد أن تأقلمت مع الحياة وحيدًا.

ومع أنّ طريقة مشيتها تغيرت اعتقدت أنها ستقول لي شيئا ساخرا مثل: “لم تتوقع أن تراني في مسرح الجريمة سريعًا، أليس كذلك يا هاري؟”. أو: “أنت لا تؤمن بأنّ القرش الأسود يعود مجددًا، أصحيح؟”

لكنها اكتفت بالوقوف هناك. ثم قالت: “مرحبًا هاري”.. وانتظرت أن أبتعد عن البوابة لتتمكن من الدخول. ثم أضافت: “مضت فترة طويلة لم نلتقِ فيها، هل أنا مخطئة؟”

فتحت البوابة وتخلصت من غليوني الفارغ لأتمكن من الردّ قائلاً: “مرحبًا كاثي”، وابتعدت داخل الباحة ليكون بوسعها أن تتبعني. زررت معطفها ونحن ندخل إلى المطبخ وكأنها مزمعة على مغادرة البيت وليس الدخول إليه. سألتها وأنا أتمهل عند الموقد: “كيف الأحوال معك الآن؟”.

كان ظهرها نحو اللاسلكي، ولم يكن يبدو عليها أنها ترغب في تأمّلي. ربما كنت مضطربًا في النهاية بسبب زيارتها المفاجئة، وربما أخفقت في التكتم على هذه المشاعر، فقد ملأت الغليون مرة ثانية مباشرة، وهو شيء لا أقوم به بالعادة. كنت أترك الغليون يبرد قبل أن أشعله لاحقا.

اكتفت بالردّ قائلة: “أنا على أتم ما يرام”. إجابة موجزة.

قلت لها: “لم لا تجلسين يا كاث؟ سأضرم لك قليلا من النار فورًا”.

جمدت عيناها في وجهها، وكأنها لا تتجرأ على النظر فيما حولها من أشياء العالم القديم، التي لا تزال كما هي منذ لحظة الرحيل. ومع ذلك وقعت عينها على ما يكفي لتقول: “أنت تعتني بنفسك بطريقة معقولة”.

قلت لها بطريقة رزينة: “وماذا تتوقعين؟”. كانت تضع طلاء الشفاه، كما لاحظتُ، وهو شيء لم تعتد عليه من قبل، ومعه الرُّوج وقليل من المساحيق، وهذا أضفى عليها لمحة تزيد عن عمرها الحقيقيّ، كما أفترض، ويمكن أن تبدو أكثر شبابا لو لم تفعل بوجهها ذلك. كان هذا تنكرا خفيفا، ولكنه يكفي ليخفي من أمامي، وربما من ذاكرتها، الشخص الذي كانت عليه قبل عشر سنوات.

قالت لتحرك لسانها فقط: “سمعت أنّ الحرب على الأبواب”.

سحبت كرسيا من قرب المنضدة وقلت لها: “هيا يا كاثي، تفضلي بالجلوس وتخلصي من الحمل الذي يضغط على ساقيك”. عبارة قديمة كنت أستعملها ولا أعلم لماذا خرجت من لساني آنذاك. وتابعت أقول: “لا، لن أستغرب أبدا. ذلك المأفون هتلر يرغب برصاصة في رأسه. مثل غيره من عامة الألمان”. نظرت إليها ولمحتها وهي تتأمل لوحة قارب الصيد المعلقة على الجدار: زورق بني لحق به الصدأ له شراع مبسوط في الشمس الكامدة، وهو غير بعيد عن الشاطئ الذي تسير عليه امرأة تحمل على كتفها سلة من الأسماك. كانت اللوحة واحدة من مجموعة قدمها لنا شقيق كاثي كهدية زفاف، وقد تحطمت اثنتان في جدال حامي الوطس دب بيننا. كم أحبتها، هذه الصورة المتبقية التي تمثل قارب الصيد. إنها آخر السرب، من عادتنا أن نقول ذلك، في لحظات سعادتنا المشرقة. رغبت أن أستعلم منها عن أحوالها فقلت: “كيف تعيشين؟ هل حياتك مريحة؟”

ردت قائلة: “لا بأس”. لم أتمكن حتى حينه من استيعاب حقيقة أنها ليست ثرثارة كعادتها القديمة، ذلك أن صوتها كان أنعم وأكثر مباشرة، من غير غمز ولا لمز. ولكن ربما شعرت بالغربة لأنها تقف أمامي في البيت القديم مجددا وكل شيء كما هو بعد هذه الفترة الطويلة التي مرت. كنت أمتلك اللاسلكي الآن. وهو الفرق الوحيد.

سألتها: “هل لديك عمل؟”. كانت تبدو خائفة من التقاط الكرسي التي أقدمها لها.

قالت لي: “في هوسكينز، أمبيرغايت. معمل المطرزات. وهو يدفع إثنتين وأربعين نقرة (2) في الأسبوع، وهذا غير سيء”. ثم جلست وأحكمت إغلاق الزر الأخير في معطفها. رأيت أنها تنظر إلى صورة قارب الصيد مجددا. آخر السرب.

“ولكن هذا لا يكفي. إنهم لا يدفعون ما يسد الرمق، والأجر يتكفل بنفقات المجاعة فقط كما أفترض. أين تسكنين الآن يا كاثي؟”.

مسدت شعرها ورأيت أثر الشيب قرابة جذور الشعر، ثم قالت: “لدي بيت في سينينتون. هو صغير، ولكنه لقاء سبعة وستة (3) في الأسبوع. وهو صاخب أيضًا. ومع ذلك أحبه. كنت دائما على طرف الحياة، كما تعلم. مكيال من البيرة وباحة صاخبة، هكذا كنت تقول، هل تتذكر؟”.

ابتسمت. وقلت: “كم أحب أنك لم تنسي ذلك”. ولكن لم يكن يبدو أنها تستمتع بحياتها على الإطلاق. كانت عيناها تفتقدان إلى شرارة الفكاهة التي تنطلق مع ضحكتها الملتهبة. الخطوط التي حولهما تصلح فقط كإشارة إلى التقدم بالعمر ومرور الوقت. قلت لها: “أنا سعيد لأنني أسمع أنك تعتنين بنفسك”.

ولأول مرة تلاقت نظراتنا وهي تقول: “لم تكن صاخبا ومثيرا أبدا يا هاري؟”.

قلت بصدق: “لا، ليس إلى ذلك الحد البعيد”.

فقالت: “ولكن يجب عليك، وربما في هذه الحالة نصل إلى الهدف بشكل أفضل”.

فقلت: “تأخر الوقت الآن”، وهكذا استسلمت ووضعت كل صراحتي في كلماتي. وتابعت أقول: “لم أكن أرتاح للصخب والمشاكل، تعلمين ذلك. الهدوء أقرب إلى خطي”.

واخترعت فكاهة ضحكنا لها، حيث قالت: “مثل ذلك الأحمق شامبرلين”. ثم قربت طبقا من وسط المنضدة وألقت كلا كوعيها على الملاءة. وتابعت تقول: “كنت أعتني بنفسي خلال الأعوام الثلاث الأخيرة”.

ربما هذا أحد أخطائي، ولكن أحيانا أشعر بالفضول قليلا. وجهت لها هذا السؤال بطريقة طبيعية: “ولكن ماذا حل بالدهان؟”. لم يكن لدي سوى ذلك لأقترب منها. كنت أعلم أنها رحلت بعيدا، وهذا كل ما حصل. وهي لم تتركني في جبل من الديون أو ما شابه. كنت دائما أسمح لها بالتصرف وفق رغباتها.

قالت بسرعة: “أرى أنه لديك الكثير من الكتب”. كانت تنظر إلى أحدها وهو مفتوح قرب زجاجة رب البندورة، وإلى آخرين على رف الديكور. أجبت أقول: “إنها تقتل الوقت. ثم أنا أحب القراءة”. وأشعلت عود ثقاب لأن الغليون خمدت ناره.

لم ترد بشيء لفترة من الوقت. لثلاث دقائق على ما أظن، لأنني كنت أنظر إلى الطرف الآخر نحو الساعة الموجودة على طاولة الزينة. كانت الأخبار تأتي باللاسلكي، ولم أستمع لها. لم أستمع للجزء المهم منها. فقد كانت حامية بسبب الحرب القريبة. ولم يكن لدي شيء أبادر به غير التفكير قليلا بانتظار أن تعود إلى الكلام. قالت لي: “لقد مات بسبب التسمم بالرصاص. وكم عانى منه، كان عمره اثنتين وأربعين سنة. نقلوه إلى المستشفى قبل موته بأسبوع”.

لم يكن بمقدوري أن أبدي أسفي، ولكن كان من المستحيل أن أتخذ منه موقفا عدائيا. لم أكن أعرف الشاب، هذا هو الموضوع. قلت لها وأنا أنظر إلى طاولة الزينة: “ليس لدي سيجارة في البيت لأقدمها لك”. ربما أرى سيجارة على الطاولة، ولكنني مسبقا أعلم عكس ذلك. تحركت وأنا أنهض للبحث عن السيجارة، وقد سحبت كرسيها على الأرض. قلت لها: “لا تهتمي بتحريك الكرسي. بمقدوري أن أمر”.

قالت: “لا بأس. بحوزتي عدة سجائر”.. وتحسست جيوبها ثم أخرجت علبة نصف فارغة ومدعوكة. وأضافت: “هل تريد واحدة يا هاري؟”.

“شكرا. لا. لم أدخن سيجارة من عشرين عاما. تعلمين ذلك. ألا تتذكرين كيف بدأت بتدخين الغليون؟ حينما كنا على علاقة. قدمت لي غليونا ذات مرة بمناسبة عيد ميلادي وطلبت مني أن أدخن لأنه يضفي علي لمسة متميزة. وبعد ذلك واصلت. ولم أقلع عنه بحكم العادة، وها أنا أحبه الآن. لن أتخلى عنه في الواقع”.

كما لو أن الأمر حصل بالأمس. ربما كنت أستغرق بالثرثرة، كانت تبدو قلقة قليلا وهي تشعل السيجارة. ولا أعلم لماذا بالضبط، ولم تذكر أنها بحاجة للانتظار في هذا البيت.

ثم قالت لي وهي تنظر إلى صورة قارب الصيد وتشير إليها برأسها: “كما تعلم يا هاري، أحب أن أحصل عليها”، كأنها لم ترغب بشيء سوى ذلك طوال حياتها.

وأتذكر أنني قلت: “ليست صورة سيئة، أليس كذلك؟ من الرائع أن تضعي صورا على الجدران، لا لتنظري إليها على وجه الخصوص، ولكن لتكون معك في الجو . حتى لو لم تنظري لها تعلمين أنها موجودة. ولكن بوسعك أن تأخذي هذه لو أحببت”.

سألتني بنغمة شعرت بالأسف حيالها لأول مرة: “هل تقصد ما تقول؟”.

“طبعا. خذيها. لا فائدة منها لي. بأية حال أستطيع الحصول على صورة أخرى لو أردت، أو ربما أعلق خريطة الحرب مكانها”. كانت الصورة الوحيدة على ذلك الجدار، باستثناء صورة الزفاف الموجودة على رف الزينة تحتها. ولكن لم أرغب بتذكيرها بصورة العرس خشية من استحضار ذكريات لا ترغب بها. وأنا لم أتركها في مكانها لأسباب عاطفية، وربما سأتخلص منها. سألتها: “هل لديك أطفال ؟”.

قالت وكأنها لا تهتم: “لا. لا أرغب بانتزاع الصورة منك، وربما من الأفضل أن أنساها ما دمت متعلقا بها”. وجلسنا نتبادل النظرات الجانبية لفترة طويلة. وتساءلت ماذا جرى خلال السنوات العشر حتى أصبحت تتكلم عن الصورة بهذه الطريقة الحزينة والمؤسفة. كان الظلام يخيم في الخارج. لماذا لم تلتزم الصمت حيال ذلك، وتأخذ هذه الصورة التافهة؟ وهكذا اضطررت للإشارة إليها مجددا بسخاء، ولإنهاء الموضوع أخذتها من المسمار، ونظفت الخلف من الغبار بقطعة قماش، وحزمتها بورق أسمر وربطت الحزمة بخيط البريد القوي، وقلت لها: “تفضلي”، ونحيت الأطباق جانبا، ثم وضعتها على الطاولة قرب كوعيها.

“كم أنت طيب معي يا هاري”.

“حسنا! أحب ما أفعل. ما نفع صورة في البيت؟ وماذا تعني لي، في أية حال؟”. والآن أصبح من الواضح لي أننا نتبادل العواطف الغامرة بطريقة لم نتقنها ونحن نعيش معا. أشعلت الضوء. وظهر أنها غير مرتاحة له لأنه أبرز كل موجودات الغرفة بجلاء، وهنا اقترحت أن أطفئه مرة أخرى.

“لا تهتم، لا”.. ونهضت وهي تحمل الحزمة، وأضافت: “أظن أنني سأنصرف، ربما نلتقي في وقت لاحق”.

“تفضلي بالزيارة كلما شعرت بضرورة ذلك”. ولم لا؟ لم نكن أعداء.

فكت زرين من معطفها، وكأن فتح المعطف يحسن من موقفها أمام الناظرين ويجعلها تبدو سعيدة بثيابها، ثم لوحت تلويحة الوداع وهي تقول: “مضى على لقائنا فترة طويلة”.

قلت لها: “عمت مساء يا كاثي”. وأدهشني أنها لم تبتسم أو تقهقه ولا مرة واحدة طوال الوقت الذي كانت فيه معي هناك، فابتسمت لها وهي تستدير نحو الباب، وكانت ردة فعلها غير متطابقة مع الوجه المكشوف بوجناته العريضة والممتلئة وبتكشيراته التي كنت أعرفها جيدا، ولكنها وضعت على شفتيها مجرد حركة فاترة تنم عن المجاملة أكثر من الروح الساخرة والفكاهية. وخطر لي، لا بد أنها مرت بتجربة مريرة، وهي الآن تخطت الأربعين حتما.

وهكذا رحلت. ولم أستغرق فترة طويلة قبل أن أعود إلى كتابي.

وبعد عدة أيام كنت أسير في شارع سانت آنا ويل لتسليم الرسائل. استغرق المشوار فترة طويلة، لأنه توجب علي أن أتوقف تقريبا في كل حانوت. وكانت تمطر رذاذًا خفيفًا، وكان الماء يسيل من فوق قبعتي، ويبلل ثيابي من تحت الركبتين وكنت أتطلع لكوب من الشاي في الكانتين وأتمنى أن يكون الموقد مشتعلا. لو لم أتأخر في جولتي لكنت دخلت إلى الندوة سعيا وراء كوب ساخن.

حملت حزمة من الرسائل إلى حانوت الخضار وفي طريق الخروج رأيت صورة قارب الصيد في حانوت المرهونات المجاور، نفس الصورة التي قدمتها إلى كاثي من عدة أيام. لم أخطئ، كانت تميل على رف المشروبات الروحية القديمة، والصفائح التي بلا قبضات والمطائق الصدئة، والمجارف وعلبة كمان بأوتار مكسورة. وتعرفت على رقاقة من الخشب المدهون بالذهب قرب الزاوية اليسرى والسفلية للإطار.

ولدقيقة من الوقت لم أصدق نفسي، ولم أحزر كيف وصلت إلى هذه المشكلة، ثم رأيت بذهني أول يوم من حياتي الزوجية مع رف الزينة المثقل بالهدايا، وبينها هذه اللوحة الثلاثية التي بقيت على قيد الحياة، وهي تبادلني النظرات من بين حطام حياة الآخرين.

وخطر لي: ها هي الأمور تصل إلى الحضيض والعدم. لا بد أنها باعتها تلك الليلة قبل أن تذهب إلى بيتها. حوانيت المرهونات تستمر بالعمل حتى وقت متأخر في أيام الجمعة وهكذا يكون بوسع النساء أن يحصلن من أزواجهن على نقرة تلبي حاجات عطلة نهاية الأسبوع. أو ربما باعتها في هذا الصباح، وأنا على بعد نصف ساعة منها بسبب تسكعي. لا بد أن الأمور ساءت مع المسكينة كاثي، هذا ما تبادر إلى ذهني. لماذا لم تطلب مني نقرة أو نقرتين؟

لم أفكر كثيرا كيف أتصرف. هذه ليست عادتي، غير أنني دخلت إلى الحانوت ووقفت أمام الكاونتور بانتظار رجل عجوز قاتم بشعر أبيض لينتهي من حزمة تخص امرأتين نحيلتين تتمهلان للتأكد من أنه يعلم أن هذه أفضل الأشياء وهي بحالة جيدة وهما مضطرتان لرهنها. كنت أنتظر على جمر. وكانت في المكان رائحة ثياب قديمة ونفايات رطبة بسبب الأمطار الأخيرة، أضف لذلك أنني متأخر على عملي. وهذا يعني أن الكانتين سيقفل قبل أن أعود، ولن أحصل على شاي اليوم.

“هل لديك لي أية رسائل؟” قال الرجل العجوز أخيرا.

“الأمر يا أبتي أنني أود أن آخذ نظرة من الصورة التي لديك في النافذة، الصورة ذات الزورق”. غادرت المرأتان وهما تعدان الشلنات القليلة التي حصلتا عليها، وتضعان في نفس الوقت قسائم المرهونات في حقيبة اليد، وهنا عاد الرجل العجوز يحمل بيده الصورة وكأنها تساوي خمس جنيهات.

سمحت لي الصدمة بأن أعلم أنها باعتها بثمن مناسب، غير أنني لم أفهم تماما ماذا يحصل، لذلك أمعنت النظر بها لأتأكد أنها اللوحة بعينها. كان السعر المكتوب على الخلف غير واضح لأتمكن من قراءته. سألته: “كم تريد ثمنا لها؟”

“تستطيع الحصول عليها بأربعة شلنات”.

يا للكرماء. ولكنني لست من النوع الذي يساوم. بمقدوري الحصول عليها بسعر أقل، والأجدر بي أن أدفع نقرة أخرى ولا أهدر خمس دقائق من الثرثرة. قدمت له النقود، وقلت له إنني سأعود لاستلام اللوحة لاحقا.

أربع نقرات ثمينة، فكرت بيني وبين نفسي وأنا أشق طريقي تحت المطر. يا للوغد اللص. لا بد أنه أعطى كاثي المسكينة واحد وستة(4). ثلاثة مكاييل من البيرة، هذا هو ثمن صورة زورق الصيد.

لا أعلم لماذا، ولكنني كنت أتوقع أن تتصل بي مجددا في الأسبوع التالي. وحضرت في يوم الخميس، في نفس الموعد، وهي ترتدي بالطريقة المعروفة: دراعة صيفية بارزة من تحت المعطف الشتوي البني والتي لا تتوقف عن اللهو بأزراره، مما يدل كم هي قلقة. وكانت قد حصلت على كأس شراب أو اثنين في طريقها، وقبل أن تدخل إلى البيت تمهلت عند دورة المياه في الخارج. كنت قد انتهيت من العمل في وقت متأخر، ولم أشرب كل كوب الشاي، فسألتها هل ترغب بشاي.

وقالت لترد: “لا أرغب به. حصلت على كأس قبل وقت غير طويل”.

أفرغت سطل الفحم فوق النار. وقلت لها: “تفضلي بالجلوس قرب الدفء. الطقس قارس قليلا هذه الليلة”.

وافقتني، ثم نظرت إلى لوحة قارب الصيد المعلقة على الجدار. كنت بانتظار هذا، وكنت أتساءل عما ستقوله حين تشاهدها، ولكنها لم تستغرب رؤيتها في مكانها القديم، وهذا خلف في نفسي قليلا من الخيبة والتخاذل. واكتفت بالقول: “لن أتأخر هنا هذه الأمسية. لدي موعد في الساعة الثامنة مع أحدهم”.

ولم تنطق بكلمة واحدة عن اللوحة. قلت لها: “لا بأس. كيف تسير الأحوال معك؟”

ردت بصوت بارد كأن سؤالي ليس في مكانه: “رديئة. فصلت لأنني أبلغت ملاحظة العمال إلى أي مكان يجب أن تنصرف”.

قلت لها: “آه”، من عادتي دائما أن أقول “آه” حينما تنتابني الرغبة بإخفاء مشاعري، والحقيقة أنه رهان آمن بقول “آه” حين لا يكون لديّ المزيد.

كانت تراودني التكهنات بأنها تود أن تعيش في هذا البيت مجددا بعد أن ضاع عملها. ولو أنها تريد ذلك فبمقدورها ذلك. ليس هناك ما تخشاه من هذا الطلب، حتى في اللحظة الراهنة. ولكن كل ما في الأمر أنني لم أود أن أبادر بالإشارة إلى الموضوع. قد تكون تلك خطيئتي، فلن أحزر تماما لماذا هي هنا. قلت بخضوع: “من المؤسف أنك مفصولة”.

استقرت عيناها على الصورة مرة ثانية، ثم سألت: “هل بمقدورك أن تقرضني نصف تاج؟”(5).

“طبعا، ممكن”… وأفرغت جيوب سروالي، وأحصيت نصف تاج، وقدمته لها. هذا يعادل خمسة مكاييل بيرة. لم تستطع التفكير بأيّ شيء لتقوله، وحركت قدميها استجابة لإيقاع صامت يرن في رأسها وقالت: “شكرا جزيلا”.

قلت لها مع ابتسامة: “بسيطة”. وتذكرت شراء علبة سجائر في حال أنها ترغب بالتدخين، وهذا يدل على مدى ظنوني بعودتها المؤكدة. قلت لها: “هل ترغبين بالتدخين؟”. تناولت سيجارة، وأشعلت الثقاب بأسفل حذائها قبل أن أتدبر أمر الولاعة بنفسي.

“سأعيد نصف التاج في الأسبوع القادم حينما أستلم أجرتي”. كم هذا مضحك، فكرتُ. ولكنها أضافت: “لقد حصلت على عمل بعد أن فقدت العمل السابق مباشرة”. وحاولت قراءة ذهني قبل أن تسنح لي الفرصة المناسبة للكلام. وتابعت أيضا تقول: “لم يستغرق الأمر طويلا. هنا الكثير من العمل بسبب الحرب. والأجور أعلى أيضًا”.

قلت: “أعتقد أنّ كل الشركات ستبدل خططها سريعا”. وتبادر إلى ذهني أنها قد تطلب بعض التعويضات مني، فنحن لا نزال متزوجين قانونيًا، وهذا أفضل من أن تأتي لتقترض نصف جنيه بين حين وآخر. إنه حقها، ولست بحاجة لأن أذكرها بذلك، ولن أنكره لو أبدت أسبابها. بعبارة أخرى، لم أتوقف خلال السنوات الأخيرة عن ادخار عدة جنيهات خلسة. وهنا قالت وهي تنهض وتزرر معطفها: “سأنصرف”.

“هل أنت متأكدة أنك لا تريدين كوب شاي؟”

“لا، شكرا. أود اللحاق بالحافلة العائدة إلى سنينتون”. قلت لها سأرافقك حتى الباب، فقالت وهي تقف بانتظاري: “لا داعي للكلفة. سأكون على ما يرام”. نظرت إلى اللوحة المعلقة على الجدار فوق رف الزينة، وأضافت: “لديك  لوحة رائعة هناك. كم أحببتها دائما”.

وألقيت عليها الطرفة الاعتيادية قائلا: “نعم، ولكنها آخر فرد في السّرب”.

“لهذا أحبها”. ولم تذكر أمامي أنها باعتها لقاء ثمانية عشر بنسًا. رافقتها في طريق الخروج والغموض يغلف رأسي.

بعد ذلك كان من عادتها أن تحضر أسبوعيًا، طوال فترة الحرب، ودائما مساء الخميس وفي نفس الميعاد تقريبا. نتكلم قليلا عن الطقس والحرب وعن عملها وعملي، من دون أن نضيف شيئا مهما. وغالبا ما كنا نجلس لفترة طويلة ننظر إلى النار من مواقعنا المختلفة في الغرفة، أنا قرب الموقد وكاثي على مبعدة مناسبة قرب المنضدة وكأنها انتهت من وجبتها للتوّ، كلانا في صمت مطبق ومشاعر متوعكة. وأحيانا كنت أحضر بعض الشاي، وفي بعض الأحيان بلا شيء. وأفترض الآن أنه كان من الأجدى لو وفرت لها مكيالا من البيرة، ولكن هذا لم يخطر لي في حينها. ولا أعتقد أنها افتقدت لذلك، فمن غير المتوقع أن تحصل على البيرة في بيتي، على أية حال.

لم تتخلف عن القدوم مرة واحدة، وكانت تعاني مرارًا برد الشتاء وكان من الأجدى لها لو ترقد قليلا في الفراش. حتى أنّ الظلام الدامس وانقطاع الكهرباء والانفجارات لم تمنعها عن هذا الروتين. وبطريقة غريبة كنا نسعد أنفسنا ونتطلع إلى لقاء آخر. وربما كانت هذه أفضل الأوقات التي مرت بنا في حياتنا. وقد أعانتنا بالتأكيد على المرور بالأمسيات الرتيبة الميتة التي تناوبت خلال أيام الحرب.

كانت ترتدي دائمًا نفس المعطف البني، الذي تدهورت أحواله. ولم تكن تغادر دون اقتراض بضعة شلنات. تقف وتقول لي: “هل يمكن اقتراض نصف دولار يا هاري؟”، وأحيانا تضيف طرفة: “لن تسكر به كثيرًا، هل تفهمني؟”. ولم أكن أرد، كان سلوكا رديئا أن تخترع النكات في مسائل من هذا القبيل. وطبعا لم أكن أسترد نقودي، ولكنني لم أكن أفتقدها أيضًا. ولذلك لم أرفض كلما سألتني. ومع ارتفاع أثمان البيرة كانت ترفع من  المبلغ المطلوب: حتى ثلاث نقرات ثم إلى ثلاث وست(5)، وأخيرا قبل أن تموت بفترة وجيزة، حتى أربع نقرات. وكان من دواعي سروري أن أمدّ لها يد العون. أضف لذلك، كما قلت لنفسي سرًا، ليس لديها غيري. ولم أسال أسئلة مثل أين تعيش، ومع ذلك ذكرت لي في مناسبة أو اثنتين أنها لا تزال هناك في زقاق سينينتون. ولم ألتقِ بها في أيّ بار أو صالة سينما، فنوتنغهام مدينة كبيرة من عدة وجوه.

وفي كل زيارة كانت ترمق على فترات متقطعة صورة زورق الصيد، آخر السرب، وهي معلقة على الجدار فوق رفّ الديكور. وغالبا ما كانت تذكر كيف تراها جميلة، وكيف أنه يجب أن لا أتخلى عنها، وكيف أن الشمس المشرقة والزورق والمرأة والبحر في أتم انسجام وتناسق. وبعد عدة دقائق تلمح كم هو رائع لو كانت ملك يدها، ولكن كنت أتغاضى عن تلميحاتها لأنني أعلم أنها سوف تذهب بها إلى حانوت المرهونات. وكان من الأجدى أن أقرضها خمس نقرات مع النصف تاج وهذا سيردعها عن اللوحة قليلا، ولكن في السنوات الأولى من زيارتها لم تكن تفكر بما يزيد عن نصف تاج. وذات مرة ذكرت لها أنه بوسعها الحصول على مبلغ أكبر لو أحبت، ولكنها لم ترد. ولم أعتقد أنها ترغب باللوحة على وجه خاص لتبيعها أو لتنتفع بثمنها، أو لتعلقها في بيتها. كانت تحب متعة التخلي عنها بين المرهونات، وأن ترى غيرها وهو يبتاعها، وهكذا لا تكون ملكا لأيّ واحد منا نحن الإثنين على قدم سواء.

لم ألحق بها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. فقد ضربتها شاحنة في الساعة السادسة مساء، وفي الوقت الذي قادتني الشرطة إلى المستشفى العمومي كانت ميتة. لقد كانت مضعضعة، وعمليا نزفت حتى الموت قبل أن تصل إلى المستشفى. وأخبرني الطبيب أنها لم تكن متماسكة تمامًا حين تلقت الصدمة. وبين مقتنياتها التي سمحوا لي برؤيتها وجدت صورة قارب الصيد. كانت ممزقة ومنقطة بالدم لذلك بالكاد تعرفت عليها. وفي وقت متأخر من تلك الليلة أحرقتها في اللهب المشتعل داخل الموقد.

وحينما غادر شقيقاها وزوجتاهما وأولادهم ومعهم جوّ الاتهام واللوم الذي ألقوا بأثقاله علي بسبب حادث كاثي، وقفت قرب المقبرة أفكر وحدي، على أمل أن أنتهي بالبكاء وبالدموع وهي تسيل من عيني. لم يواتِني الحظ. رفعت رأسي إلى الأعلى وفجأة لاحظت رجلا لم أشاهده من قبل. كانت أمسية شتوية مشرقة بالشمس، ولكن البرد قارس، وأول شيء كان قادرا على غسل أعباء كاثي من رأسي فكرة أنه يتوجب على رجل مسكين تكسير القشرة الصلبة للأرض وحفر قبر تستلقي فيه الآن. وها هو رجل غريب آخر هناك. كانت الدموع تنهمر على وجنتيه، وهو رجل في أواسط الخمسينات يرتدي بزة محترمة، رمادية اللون وتحمل الشريط الأسود حول الذراع. لم يتحرك من مكانه حتى لمس الشماس المضجر كتفه، ثم كتفي، وأعلن أن الأمر قد انتهى.

لم أشعر بالحاجة للاستفسار عمّن هو- وهذا عين الصواب. حينما وصلت إلى بيت كاثي (كان بيته أيضًا) كان يحزم أشياءه، وغادر بعد قليل بسيارة عمومية من دون أية كلمة. ولكن الجيران الذين هم على دراية بكل شيء، أخبروني بأنه كان وكاثي يعيشان معا طوال ستة أعوام مضت. هل تصدقون ذلك؟ كم رغبت لو كان بمقدوره أن يحملها على الشعور بالسعادة أكثر مما كان عليه الحال.

انقضى الوقت ولم أفكر بالحصول على لوحة أخرى من أجل الجدار. ربما خريطة للحرب تنفع، الجدار الآن عار تماما، وأعتقد أن الحكومة ستتكفل بالموضوع عاجلا أم آجلا. المهم أنه في اللحظة الراهنة لا داعي لأي شيء، هذه هي الحقيقة. كان ذلك الركن من الغرفة مشغولا برف الديكور، وفوقه لا تزال توجد صورة الزفاف، وهي شيء لم يخطر لها أن تطلبه. بالنظر إلى هذه الصور القليلة القديمة المتراكمة في خلفية رأسي بدأت أفهم أنه يجب أن لا أسمح لها بالرحيل، مثلما يتعسر علي أن أسمح لكاثي بالاختفاء. شيء ما أوضح لي أنني أفقد توازني العقلي وأنني ميت ولا أنفع لشيء، وكما سوف يتضح لحظي الفاسد أنّ كلمة ميت هي التي استقرت في رأسي أكثر من كلمة غبي وغير متوازن، وهي لا تزال هناك موجودة مثل العمود الفقري لسمكة مياه مالحة أو ثعبان الماء، وهي تحاصرني أحيانا كلما استلقيت في الفراش لأفكر.

وبدأت أقتنع بأنّ حياتي بلا هدف– لقد تسارعت وتيرتها ولم يكن يجدي معها لا التدين ولا حتى الإفراط بالشراب. ثم تساءلت: لماذا أنا حيّ. لا أجد مبررا معقولا لذلك. ما الهدف من كل شيء؟ وفي أسوأ لحظات فراغ منتصف الليل كنت أختصر التفكير بنفسي وأستغرق بالتفكير في كاثي. وأتخيل أنها تعاني أضعاف معاناتي، ثم يخطر لي، بسرعة قرص الأسبرين المثير للشفقة والذي لا يستطيع مقاومة أوجاع الرأس المزمنة، أنّ الغاية من البقاء على قيد الحياة  هي، وبحسبة بسيطة، أن أساعد كاثي في معمعة الحياة.

لقد ولدت ميتا، وها أنا أخبر نفسي بذلك مرارًا وتكرارًا. وأردّ على نفسي: ولكن كل الآخرين أموات. وأواظب قائلا: هم كذلك ولكن معظمهم لا يعلمون بهذه الحقيقة التي بدأت أستوعبها، ويا له من عار كبير أن هذا لم يخطر لي إلا في النهاية حينما تضاءلت فرصة القدرة على المناورة حياله. لقد تأخر الوقت فعلا ولم يعد بوسعي أن أحصل منه إلا على ما هو أسوأ.

ثم خرج التفاؤل من غياهب الظلمات مثل فارس يرتدي درعه. لو أنك أحببتها (وأنا أصر على ذلك)… كان بمقدورنا معا أن نقوم بالممكن لو أنه سيبقى للذكرى وكحب غابر. والآن ما شأنك؟ الفارس المدرع يعود إلى الظلام والعتمات. نعم، وها أنا أقول بملء صوتي: لم يحرك أحد منا نحن الاثنين ساكنا لحلّ الموضوع- وهذه هي المشكلة.


هوامش المترجم:

1 – ليستير ونوتنغهام: مدينتان في شرق وسط إنكلترا. نوتنغهام هي مسقط رأس الكاتب.

2 – نقرة: شلن باللهجة العامية في إنكلترا وما حولها. انظر المعجم المختصر للغة العامية وغير الرسمية، من إعداد: توم دالزيل وتيري فيكتور. 2008.

3 – سبعة وستة: سبعة ونصف، لهجة عامية.

4 – واحد وستة: شلن ونصف، بالعامية.

5 – نصف تاج: نصف جنيه.

6 – ثلاثة وستة: ثلاثة شلنات ونصف. بالعامية.


ألان سيليتو: كاتب بريطاني. له روايات وقصائد تعكس آلام وأوجاع الطبقة العاملة في أوروبا.

مصدر القصة: The Fishing boat Picture , by  : Alan Sillitoe , in : The Loneliness of  The Long Distance Runner. Grafton Books .1960.



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. من أجمل ما قرأت على الموقع؛ قصّة جميلة، وترجمة متقنة. أتمنّى لو يتم نشر المزيد من التّرجمات على هذا النسق.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>