مرثية بيضاء/ علي عباس

استديري رجاءً. نعم. هناك. عند أسفل الرقبة. حيث بداية ظهرك. بالضبط. هل تسمعين؟؟

مرثية بيضاء/ علي عباس

|علي عباس|

علي عباس

1

يمرّ القطارُ مقتربًا من المدينة، عندَ مدخلها الجنوبيِّ، ويرفّ القلبُ رفة صغيرة- لكنها حادة مثلَ الذّكرى. بدأتُ أكرهُ القطارَ.


2

يدي تعبثُ بالولاعةِ التي أهديتِني إياها. أتذكّر لهفتي عليها (عليكِ) وأبتسمُ. أشعلُ سيجارةً. منذ أن افترقنا وأنا أشعلُ السَّجائرَ (مرّاتٍ عديدة) حُبًّا في الولاعة لا في التبغ. أحملها -قداحتكِ- رغمَ أنني اكتشفتُ أنها ليست أصلية تمامًا، رغم أنها تتعبني من مرة لأخرى ريثما تشتعل. أدَخن سيجارة على شرف سجائرنا اللاهثةِ- مرةً في اليوم على الأقل.


3

هل تحتفلين بسجائرنا اللاهثة –مثلي- مرة في اليوم على الأقل؟


4

أنا أخون صمتِي. لا أريدُكِ أن تشفقي عليّ. أتفتّتُ دائمًا (في ساعات العصر خصوصًا- لماذا؟)، وأبحث عن صلة معك رغم قراراتي “الصّارمةِ”. لا تهزئِي رجاءً. تكفيني نظرةُ شاشةِ الحاسوبِ إليّ في هذه اللحظةِ.


5

ذكرياتكِ (كلها!) مثل الأورام في الحُزنِ- لا تُرى لكنها مُوجعة.


6

تبًّا لكِ: إرحلي!


7

الحبُّ يعودُ مثلَ الرّبيع المُتردّد الآنَ. لكنني لا أتمتع بالبرد الدّاهم رغم حبّي للشتاء. بدأت أكره الشتاءَ.


8

لا زلتُ أذكرُها، نظّارتكِ السّاحرة. لا زلتُ أذكرُها.


9

لنتخيّل للحظةٍ أنكِ هُنا، إلى جانبي، تنظرين إليَّ وأنتِ تتحدّثين عن كلّ شيءٍ، وأنا أصغي إليكِ مُتفهمًا كلّ شيء. تخيّلي رجاءً. ألم تنفتح شهوتكِ على النبيذ؟


10

قنينة النبيذ. الجبنة البيضاء. الكُؤوس البلاستيكية (الهَشّة مثلنا). رقائق الباستراما. علبة الحمص الخارجة عن السّياق. علبة الخيار المخلل. قنينة الكولا (كولا؟؟). ألبومات الموسيقى. شريط البورنو الذي وجدناه في المُشغّل صدفة. الشّال (الذي اشتريتُه لكِ). علبة سجائركِ. منفضةٌ ملأى بضجيج شهوتِنا. تلفزيون مُتوسّط الجَّودةِ. سريرٌ كبيرٌ (جدًا!). جزمتكِ السّوداء. مُعدّات المطبخ الكسولة. البابُ المغلقُ دومًا. هذا ما تبقى لي الآن (وأشياء أخرى قليلة).


11

لن أكذب عليكِ: لا زلتُ أحفظ إيميلك السّريّ عن ظهر قلب.


12

بعد أن أنتهي من هذه المرثيّة المُؤسفة، سأُنكرُ أية صلةٍ لي بها!


13

رغم أنك تعرفين أنني أنا الذي كتبتُها (لكنّ لا دليلَ لديكِ).


14

مع ذلك سأمنحُكِ دليلاً (لو احتجتِه يومًا): أنا من أيقظها فيكِ!


15

وسأمنحك دليلاً آخر: لا تُعرِّها من ملابسها. تذكر أن تُلبسها إياها.


16

إذًا، فلنتفق على أمرٍ واحدٍ (على الأقل): كنتِ في قمّةِ جمالكِ عندما اشتهيتكِ عنوةً في مكتبكِ.


17

قرأتُ أمس نشيد الإنشاد. قرأتُ معظمَه. “في الليل على فراشي طلبتُ من تحبّه نفسي طلبته فما وجدته…”- وهكذا. ثم فكّرتُ وأنا أبتسمُ: هل يمكن بعث السِّفرَ كله برسائل نصّيّة؟


18

استديري رجاءً. نعم. هناك. عند أسفل الرقبة. حيث بداية ظهرك. بالضبط. هل تسمعين؟؟


19

وهكذا، انتهتْ هذه المرثيّة -كما انتهت مرثيّاتٌ أخرى من قبلها- بهدوءِ اللبؤة وهي تكمن لظبي سيّءِ الحظ.


20

هُدُوء، “ضجّة بيضاء”.


21

أنتِ “ضجّة بيضاء”…

(كاتب فلسطيني مقيم في مونتينيغرو)



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>