مهر الوظيفة/ نجيب محفوظ

ننشر هنا قصة قصيرة للكاتب الراحل الحائز نوبل للآداب نجيب محفوظ، وهي جزء من كتابات أدبية كتبها الراحل في مطلع حياته الأدبية، ولم تحظَ بالنشر أو القراءة إلا فيما ندر

مهر الوظيفة/ نجيب محفوظ

نجيب محفوظ. كتابات أولى

نجيب محفوظ. كتابات أولى

..

|نجيب محفوظ|

..

(ننشر هنا قصة قصيرة للكاتب الراحل الحائز نوبل للآداب نجيب محفوظ، وهي جزء من كتابات أدبية كتبها الراحل في مطلع حياته الأدبية، ولم تحظَ بالنشر أو القراءة إلا فيما ندر.)

..

كانوا أربعة فتيان، جمعتهم في البدء نشأة الصّبا على ما بين القصور الشماء والبيوت البسيطة من تفاوت ونفرة، وآخت بينهم زمالة الدراسة الطويلة ما بين ابتدائية وثانوية وجامعية، وأغراهم بالطموح إلى المجد اجتهاد عظيم وعزم متوثب ونجاح مؤازر لم يخنهم عامًا من الأعوام حتى غدوا تملأهم الثقة ويلهب قلوبهم الحماس.

وذكروا في حياتهم الدراسية العالية مثالا لهم شرذمةً من رجال مصر نشأوا على الإخاء نشأتهم، وتزاملوا في الدراسة زمالتهم. ثم كان منهم الوزير الخطير والماليّ الكبير والفيلسوف الحكيم والمُشرع العبقري، جعلوهم نبراسًا منيرًا بهداه يهتدون، ومن قوته يستمدّون، وبعظمته يرجون ويأملون، ولم تقصر أخيلتهم عن التوفيق والابداع، فربط كلّ منهم نفسه بواحد من هؤلاء العظام إمّا لصفة ظاهرة أو سجيّة غالبة أو خلق معروف.

فلمّا أن حصلوا على ليسانس الحقوق ووضعوا أول قدم في طريق الحياة العملية الجديدة انتظر كلّ منهم نصيبه داعيًا أن يجد فيه ما يحقق أحلامه ويؤدي إلى هذه الحياة التي سعى إليها طويلا وبذل النفس كي يحقق مثلها الأعلى، وما كانت الوزارة لدى الزميل منهم إلا بعض أحلامه… وفي الفترة التي أعقبت ظهور النتيجة ارتحل اثنان من الأربعة –وهما الثريّان– إلى المصايف كعادتهما كلّ عام، وسافر واحد من الاثنين الباقيين إلى كفر الشيخ مسقط رأسه، وبقي في القاهرة “الأستاذ” جودة وهو شاب بسيط الحال من أسرة فقيرة في الصّيت والرجال، عميدها موظف صغير بالبريد جاوز الخمسين ولم يجاوز مرتبه خمسة عشر جنيهًا. ولم يَنِ الشّاب عن السعي فحرّر عدة طلبات استخدام وأرسلها إلى وزارة الحقانية وأقلام القضايا في الوزارات المختلفة، وكان طيب القلب قليل الخبرة فانتظر على شيء من الأمل والاستبشار. وفات يومان وأسبوع وأسبوعان، وشهر وشهران ولم يلقَ ردًا أو يرى في الأفق بشيرًا من الأمل، فراجع نفسه في تفاؤله وتلفّتَ يمنة ويسرة فلم يجد من يهتم لشأنه سوى أبيه العجوز الضّعيف، الذي لا يملك له ضرًا ولا نفعًا. وعلى غير انتظار زاره صديقه رشدي ففرح به أيّما فرح وكان في أشدّ الحاجة إلى من يبادله الرأي ويبثه الشكوى ويتقبل منه العزاء، فبادره سائلاً:

“أراجع أنت من كفر الشيخ؟”

فردّ عليه الشاب وهو يتنهد:

“أي كفر الشيخ يا رجل؟ لقد كنت تلك الشهور التي غبتها عنك كالرحّالة أجوب البلدان وأزور الرجال وأتسقط الرزق… والآن ما أخبارك أنت؟”

“لا شيء مطلقًا سوى أني سعيت للتوظف وعدتُ من مسعاي بالخيبة… هل من أخبار عن صديقينا حامد وإبراهيم؟”

“أخبار سعيدة والحمد لله… هما الآن موظفان بالحكومة المصرية.”

“مبارك حظهما… ولكن كيف حدث هذا؟”

“كيف حدث هذا؟ أتحسب أنّ حامدًا يشقى في طلب وظيفة وأبوه مستشار في محكمة النقض والإبرام؟ لقد كان تعيينه بالنيابة العمومية أمرًا مفروغًا منه من يوم أن التحق بالكلية.”

“حسنٌ.. وإبراهيم؟ نعم إنّ إبراهيم غنيّ ولكن أهله فلاحون وليسوا من ذوي المناصب الحكومية.”

“المال أبو الخوارق، وإبراهيم شاب جسور، أفتعلم ماذا صنع؟ ذهب إلى وكيل وزارة الخارجية وهو من بنى بلدته، وطلب يد ابنته ومهرها ألف جنيه… ولما كانت هذه الفتاة من ذوات الأمزجة الرقيقة اللآتي لا يجوز أن يمضين شهر العسل في مصر، فعمّا قريب سنذهب جميعًا لتوديع صديقنا العزيز وهو في طريقه إلى السفارة المصرية في روما.”

فبدتِ الدهشة على وجه الشاب وتساءل:

“وما الذى زكّاه –وهو شاب ناشئ– فطاب في عيني هذا الرجل الخطير… ومثل ابنته يتنافس فيها خيرة الموظفين الممتازين؟”

“ما فائدة التساؤل؟ هَبْ أنها عاطل من الجمال… أو أنّ رشاشًا يبلل سمعتها.. أو.. أو.. فما يهمني سوى رواية ما عندي من الأخبار.”

وصمتا لحظة جامديْن خلا فيها كل منهما إلى أفكاره، ثم نظر الشابّ إلى رشدي وقال:

“ها إنّ الصديقين يرسمان الخطوة الأولى في الطريق المؤدي إلى المجد ولا يبعد أن يحققا مرة أخرى المثل الأعلى الذي سبق أن حققه الباشوان اللذان كان الصديقان يترسمان شخصيتيهما.” فأحنى الأستاذ رشدي رأسه مؤمنًا فعاد الآخر إلى سؤاله بعد تردّد:

“وأنت؟”

“أما أنا فقد سعيتُ كما سعيتُ وأغلقت الأبواب في وجهي كما أغلقت في وجهك ولكني لم أسلم للخيبة كما سلمت لها؛ ففي ميدان المحاماة مُتسع لجميع ذوي العزائم والهمم، والمحاماة ميدان تبرز فيه ملكات الرجال ومزاياهم، فلا ينبغ فيها إلا كل عبقري جبار؛ وما أجدرها أن تبلغ بي ما تتمنى نفسي من المثل الأعلى.”

• • •

هذا جميل، ولكنه لا يستطيع أن يحتذى حذو رشدي ولا أن يأمل آماله؛ فآل رشدي على شيء من الثراء يمكّنهم من أن يؤيدوا الشاب حتى يقف على قدميه، أما هو فلا يمكن أن يطالب أباه بشيء من هذا، لأنه يعلم اليقين أنه شيخ فقير وأنه يربي خمسة من البنات والبنين، فما عسى أن يصنع؟”

لقد أظلمت الدنيا في عينيه وذوت أزاهر آماله اليانعة وبات يذكر أحلامه عن المجد والوزارة بالاستهزاء المرير والسخرية الأليمة، وداخله شعور قويّ بتفاهته وتفاهة الدنيا وأحلامها ومسرّاتها، فعاش زمنًا في ظلمة أشدّ حلكة من ظلام القبور.

• • •

وبعد حين زاره فجأة الأستاذ رشدي، وكان في هذه المرّة منشرح الصدر جذلاً مسرورًا فبادره بقوله:

“قل معي يا بشرى… لقد اهتديت إلى كنز ثمين فأصبت منه حظًا وأرجو أن تنال منه مثل حظي.”

فنظر إليه نظرة المريض المشرف على الهلاك إلى طبيبه. فاستطرد رشدي قائلا:

“لن تغرب شمس الغد عليّ حتى أكون من الموظفين.. من أعضاء النيابة العمومية.”

“مبارك.”

“أرجو أن أهنئك بدوري عمّا قريب. والآن إصغِ إليّ فإني أعلم أنك تتلهّف إلى معرفة حقيقة المسألة. هو مكتب للمعاملات المالية في الطابق الخامس من عمارة رقم 85 شارع سليمان باشا، مديره رجل في الأربعين حنكته الأيام والتجارب ففاق الفلاسفة فهمًا للنفوس والرجال، يعرفه جميع الماليين وكبار الموظفين لأنه يقرض النقود بأرباح هادئة. وقد غدا بحكم اتصاله بكبار رجال الدولة من زبائنه ذا نفوذ عظيم. له ظاهر يعلمه الناس جميعًا وباطن يعلمه هو وهم وأمثالنا من ذوي الحاجات.. هلمّ أدلك على قريب لي من أصدقائه المقرّبين، خاطبه في أمرك فإن رأى أنّ شروطك ملائمة كان واسطتك إليه، وثقْ يا صديقي أنه إذا كُتب لسعيك لديه النجاح فإنك لا شكّ غدًا من موظفي الحكومة الممتازين.”

• • •

وفي عصر ذلك اليوم كان عند قريب الأستاذ رشدي. وقد قدّمه إليه صديقه فلقي منه ترحيبًا شدّ عزيمته وأنعش أمله. قال له الرجل بعد ما بسط له مسألته:

“أذكر لي الوظائف التي ترغب في الالتحاق بإحداها.”

فأجابه جودة:

“النيابة العمومية… قلم القضايا… السفارات أو القنصليات…”

“أوه … إنك تنظر إلى علٍ… فما هي مؤهّلاتك؟”

“ليسانس الحقوق.”

“شهادة في ذاتها مبجّلة… ولكن ليس العبرة بالشهادات… هل لك أقارب من ذوي المناصب؟”

فضحك الشابّ وقال:

“لو كان لي ما سعيت إليك.”

“حسنٌ… من يطلب ثمينًا فليدفع ثمينًا. إلا أني أرجو أن تذكر أنه ما أنا إلا واسطة نزيهة، وإني إن مددتُ لك يدًا فلأنك صديق رشدي ولأنه حدثني عنك بما جعلني أقدرك وأعطف عليك. والآن اسمح لي بأن أعرض عليك الوسائلَ التي قد تبلغ بك إلى غايتك المقصودة، وما عليّ جناح أن أعرض عليك الوسائل التي قد تبلغ بك إلى غايتك المقصودة، وما علي جناح إن لم يصادف بعضها هواك أو لم يستحق احترامك فعليّ العرض وعليك الاختيار.”

فأحنى الشابّ رأسه أن نعم؛ فاستطرد الرجل همسًا:

“النساء من أنجح الوسائل تحقيقًا للغرض… أم جميلة… أخت شابة… زوج ظريفة… أرى وجهك تحتقن فيه الدماء وتلتهمه سورة الغضب. حسنٌ فلندع هذه الوسيلة.”

“نعم… نعم…”

“وسيلة أخرى شريفة جدًا… الزواج. ولكنه ليس زواجًا بهذه الفتاة أو تلك وإنما هو طلب الإنضواء تحت لواء اسم كبير. أو أسرة عتيدة.”

فانبسطت أسارير وجه الشاب وخفق قلبه من نشوة الأمل وصاح:

“هذا عليّ هيّن.”

“لا تتسرع فليس الأمر كما تظنّ. فشهادتك لا تكفي؛ هذه الأسر تهمّها المحافظة على المظاهر وصون اسمها من انتقادات الصالونات ما أمكن. فمهر كبير يُخرس الألسن ويدعم أيّ إدعاء وإن بعُد عن الحقيقة.”

فعاوده اليأس واستشعر الخيبة مرة أخرى وقال:

“فالأحق بوظيفة. وليدعوا لي فرصة حتى أقتصد من مرتبي وأفي بوعدي.”

“وما الداعي لرهان غير مضمون والزبائن النافعون غيرك غير قليلين؟”

“إذًا هاتِ وسيلة أخرى.”

“وآسفاه إنها لا تكاد تختلف عن هذه إلا في الاسم: هي المال.”

“وكم ينبغي أن أدفع؟”

“مهر الوظائف التي تطلب من الألف فصاعدًا…”

الألف. إنّ والده لم يربح من الحكومة طوال عمره بها ضعف هذا المبلغ فكيف يأتي به في ساعة من الزمن؟ أواه… إنّ اليأس ينشب في أظفاره فيستقرّ في قلبه. ولكن التمعت في ذهنه فكرة فصاح:

“لم لا يقرضني صاحبك المُرابي المبلغ الذي يريد ويكتب عليّ صكًا أسدّده فيما بعد من مرتبي؟”

“فكرة حسنة، ولكنه رجل مرّت به جميع التجارب وهو يرفض عادة أن يقرض مبالغَ ضخمة لغير ذوي المراكز المالية المضمونة، ولكنه قد لا يرى بأسًا من كتابة صكوك وهمية كهذه بمبالغ صغيرة. مئة جنيه أو مئتين لمن يرغب في وظيفة كتابية مثلا.”

وظيفة كتابية؟ أين هذه من المجد والوزارة ومثله الباشا العظيم؟

ولكن ما باليد حيلة، وقد سُدّت في وجهه الطرق وأظلمت الدنيا في عينيه فينبغي أن يغضّ عن الآمال العالية ولو إلى حين ريثما يبحث عن كسرة الخبز أولا، ومن يعلم فقد تتمخّض البداية الصغيرة عن نهاية عظيمة! فكم من الوزراء بدأوا كتبة في المحاكم المقبورة في أقاصي الصعيد؟

وهكذا اضطر إلى أن يحوّل قلبه عن محركات الدولة الكبرى إلى آلاتها الصغرى الميكانيكية التي تتحرّك ولا تدري لمَ تتحرك أو كيف تتحرك. وأصبح ذات يوم فوجد نفسه في حجرة واسعة تتزاحم فيها المكاتب الهرمة يقعد وراءها قوم خُيل إليه –لجمودهم وتفاهتهم– أنهم قطعة من بنيانها المتهدم.

المركز صغير والمرتب ضئيل. ترى هل ينتظر طويلا كي يضخم هذا المرتب أو يعلو هذا المركز؟ واقترب برأسه من زميل له وسأله هامسًا:

“ما موعد علاوتي المقبلة؟”

فنظر إليه الرجل دهشًا وردّ عليه بصوت مسموع رنان:

“يحلّ موعد علاوتك –ومقدارها جنيه واحد– بعد أربع سنوات بصفة اسمية تصير فعلية بعد سنة فالمدة كلها خمس سنوات.”

ولفتت إجابة الرجل انتباه الحاضرين فعرفوا بداهة السؤال الذي اقتضى هذه الإجابة فلم يملكوا أنفسهم من الضحك. ومن حقهم أن يضحكوا من هذا الشاب الذي يسأل عن موعد علاوته ولمّا يمضي عليه من العمل أسبوع. وقال له واحد منهم:

“ستعلمك هذه الوظيفة أن تستهين بأمتع فترة من عمرك وهي الشباب. فتستحثّ كلّ يوم –من أجل جنيه واحد– خمس سنوات من العمر اليانع أن تفوت وتنطوي!”

..

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. ما معنى جملة “ولم تحظَ بالنشر أو القراءة إلا فيما ندر” هل نشرت من قبل أم لم تنشر؟ وإن نشرت من قبل فأين؟

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>