“مواجهة دامية مع غولة العين” لهشام نفاع

تثاءبت العجوز دون أن تغطي شدقيها فبانت صحراء أسنانها ذات النتوءين الأثريين وقد ازداد رعب الأطفال بعدة درجات فيما ظلـّت عيونهم ملؤها التوسّل بأن تتابع الحكاية…

“مواجهة دامية مع غولة العين” لهشام نفاع

storyteller4

|هشام نفاع|

hisham-qadita

في الذاكرة الشعبية هناك الغول والمكان المسحور والموقع الذي يسكنه الجنّ. هذه حكايات لا تزال تتردّد حتى اليوم. ورغم أنّ وقعها يخفت ويشتدّ من حين لآخر هنا وهناك، وتسخن درجة الانشغال بها في فترات محدّدة، فلم يسبق أن سيطرت على عقله الذي طالما أثارت فيه هذه الحكايات سخرية استعلائية على مردّديها.

لكن في هذا الوضع المحيّر الذي انقذف اليه، فاض سيلٌ من هذه المعتقدات البائدة عليه فوجد نفسه غارقًا يتساءل: أيمكن أن يكون هذا حقيقيًا؟

وهنا سرت قشعريرة في جسده!

فلأنه شخص يتزمّت في علاقته مع أفكاره، راعه أن تنكسر حصون وعيه المنيعة وهو يرى قصص الجن والغيلان تخرج إليه من التاريخ الغابر، وشعر بهزيمته المُرّة أمام جحافل الخرافات التي بدأت تتسلل إلى عقله العلميّ الذي استوطنت فيه، إضافة الى دروس سنوات التعليم الإلزامي، محاضرات وتجارب مختبرات أربع سنوات من دراسة برمجة الحاسوب في معهد العلوم الدقيقة الرفيع.

كانت هذه هزيمة ليس بالمفهوم النفسي الذي جسّد انكساره فحسب، بل هزيمة حضارية تاريخية، وجد نفسه محورًا لها، حيث لم تُجدِ مداركه العلمية وشهادته المـُثبتة والمثبـّتة على جدار صالون والديه في صدّ ما يمكن أن تفيض به أعماق العقل السّوداء من قوى خرافية من شأنها تدمير مملكة المعرفة الـ موديرن التي شيّدها بكثير من الجهد والسهر والعناء وبايعها سلطانًا أوحد في داخله واستبطنها.

عادت إلى ذاكرته أيام الطفولة التي كانت سيدة مسنة تسرد في لياليها الشتوية حكاياتها التي تأكد لاحقـًا أنها ليست سوى خرافات ريفية من القطع المتوسّط.

إحترامًا للماضي وتهيـّبًا من وقعه وخوفًا على ما يمكن أن يُفهم أنه جزء من محاولة اغتيال للذاكرة الوطنية، لا نريد القول بجلافة إنّ تلك الحكواتية كانت عجوزًا شمطاءَ نمتْ شعرات بأطوال مختلفة من الشيب بعشوائية فظيعة على ذقنها المتكوّرة المتجعّدة تحت فم خلا إلا من سنـّيْن قبيحتيْن في كلّ واحد من طرفيّ الفكيْن: واحدة في يسار الفكّ العلوي والثانية في يمين السفليّ، حتى بدت شخوص الجنّ والغيلان والشياطين التي تثرثر بها أقرب ما تكون من الشبه الى حضرتها.

كانت الغرفة صغيرة وخانقة يظللها دخان غير مرئي لا يمكنك أن تعرف بوجوده سوى بعد حين عبر شعور متواصل من تحرّق في العينيْن، بسبب مدفأة الحطب القابعة في الزاوية. الأطفال يتحلـّقون حول العجوز التي تسرد حكاياتها بنوع نادر من الرّتابة الناعسة، لكن المثيرة للفضول والترقـّب والانتظار والخوف من المفاجأة القادمة، وكل هذا دون استخدام أيٍّ من المؤثرات الصوتية والخلفيات الموسيقية المتوترة التي لا يمكن اليوم لأكبر مخرج أو ألمع نجم أن يقنع بدونها جمهور زبائنه بما يقدّم.

عادت إلى ذاكرته أيام الطفولة التي كانت سيدة مسنة تسرد في لياليها الشتوية حكاياتها التي تأكد لاحقـًا أنها ليست سوى خرافات ريفية من القطع المتوسّط

كانت حكايتها عن غولة العين مثلا، تـُروى بنفـَس واحد وصوت رتيب عديم التسارع والقصور ثابت الذبذبة والوتيرة، ولكن لشدّة دراميتها الموضوعية الكامنة في عناصرها النصيـّة المجرّدة، فقد كان معظم الأطفال، عند ساعة النوم في نهاية سهرة سماع “الحكايا” (وهي صيغة الجمع بالعامية لـ حكاية، ولا أدري لماذا تبدو لي أجمل من صيغة “حكايات”)، يصرّون على إبقاء الضوء مشتعلا، حتى أنّ أحدهم كان يفزّ أحيانًا من عمق نومه بسبب حلم يلاحقه من وحي غولة العين المخيفة.

كانت عين غزيرة الماء لا تشحّ حتى في آب اللهـّاب. كان صوت مزرابها الذي يصبّ في الجرن الصخريّ الواسع المحفور منذ مئات السنين يُسمع حتى آخر بيوت الحارة الفوقى المطلّ على زيتونات أبناء عمومة العجوز. صوتٌ لا هو خرير الماء المعهود ولا وقع تلاطم التقاء الماء الذي يشغر بالماء الرّاكد. بل كأنه صوت بدأ منذ زمن سحيق في تلك اللحظة العشوائية المجهولة التي بدأ فيها ما يقذفه المزراب الخارج من بطن الجبل يلتقي ببطن العين لأوّل مرة ولا زال يتواصل كرعشة واحدة دون انقطاع.

كان هذا أشبه بصوت التاريخ، قال لنفسه حين بدأ يكبر ويرتـّب قصص العجوز في خانات العقل فيما هو يقرأ تاريخ الوطن.

لكن تلك العين التي كان مئات الناس وآلاف رؤوس الماشية يروون ظمأهم منها يوميًا مما جعلها أكثر مواقع القرية ازدحامـًا منذ ظهور أولى خيطان شمس الفجر كل يوم، كانت تتحول مكانا مقفرًا بمجرد غياب قرص الشمس خلف جبال السنديان البعيدة تاركا المكان في عهدة الظلام. حينها، كانت العين وكل الكروم التي تتدرّج تحتها بسناسلها الحجرية العشوائية بنظام والمنظمة على السليقة التي كأنما أنشأتها الفلاحات والفلاحون السُّمر لتشكـّل المقدّمة الفطرية الأولى لهندسة الحيّز الحرّ، تصبح أشبه بمكان تم إعلان حظر التجوّل فيه.

خواء من التوتّر المحفوف بالعتمة والظلال الليلية التي تلوح كلما انزاحت أواخر غيمة عن طرف القمر وتحركت ريح في شجرة أو منبسط عشب أو قطعة سياج متهالكة.

عندها تصبح العين مكانا محظورًا مهجورًا لا ترى فيه آدميًا يجرؤ على الاقتراب منه أو حتى المرور به فوق دابته. وحتى لو تأخر البعض في حقولهم البعيدة فما كانوا ليمروا على درب العين بل فضلوا على الدوام اعتلاء الطريق الصاعدة في سفح الجبل المقابل بثمن إطالة الطريق بساعة من الليل. فالإجماع الشعبيّ ومنذ عهد لم يعد يذكره أحد، كان أنّ العين مسكونة.

فحين يطلع القمر تخرج صبية آية في الجمال، وجهها الأسمر يلتمع بعينيْن “هالوسع” (وتؤشر العجوز على اتساعهما برسم حلقة متطاولة بملامسة إبهامها بسبابتها)، وشفتيْن كالبرقوق فوق بياض كالحليب (وكبياض نهود العذارى، كما يردّد الوقحون). شعرها أسود مثل الليل، ناعم كجلد الحية، تلبس عباءة بيضاء كالثلج، تجلس على صخرة ملساء قرب العين وتسرّح شعرها وهي تغني بصوتٍ سبحان الخالق ما أحلاه.

في إحدى المرّات كان حياة حسن الله يرحمه على فرسه الأصيلة التي ورثها من سلالة خيول جده، مختار إحدى القرى الشمالية البعيدة المشهورة بالتبغ والعنب، في مشوار طويل. أظلمت الدنيا ومن شدة تعبه لم يشعر كيف غفا قليلا فوق ظهر الفرس حتى استفاق ليجد نفسه قد أضاع الطريق.

إنتفض، ربّت على رأس فرسه بلطف ورابط قليلا. من عمق الليل جاءه صوت. أصغى ومدّ عنقه موجّهًا أذنه باتجاهه فسمع صوتا خافتا لماء يزقح. أصاخ السمع وسار بهدوء باتجاه الصوت الذي راح يعلو فعرف مطمئنـًا أنّ هناك قرية في الجوار. لم يكن قد زارها بعد لكنه سمع عنها وتذكر أنها واحدة من القرى البعيدة عن الطريق إلى المدينة الساحلية القريبة حيث أسواق الخميس ومكاتب الحاكم ومقاهي النراجيل والعرق اللبناني المكسور بماء الثلج.

إطمأنّ أكثر ولكش فرسه بمهمازه برقـّة حادّة فأسرعت الخطى حتى وجد نفسه أمام العين قبل أن يجفله صوت غناء رقيق انطلق فجأة كأنه سقط من السماء أو خرج من بطن الأرض.

شدّ لجام الفرس فتوقفت وهي تنخر بصهيل مكبوت، وتحت ضوء أبيض لقمر يقترب من الامتلاء رأى صبيـّة تمشط شعرها الطويل وهي تنظر نحوه بعينين توقعان الفارس عن الفرس.

ترجـّل واقترب متوجسًا وطرح عليها السلام فلم تغضّ نظرها الذي زاغ في البعيد وتواصل غناؤها الشجيّ وقد بان له أكثر وجهها البهيّ.

السلام عليكم يا أختي– كرّر.

إرتسمت ابتسامة خفراء على ذلك الوجه الحسن فاستأنس أخونا حسن وأقعى على صخرة قربها تاركـًا فرسه تعبّ الماء من الجرن الصخريّ وتنفض منخريها بجلبة محبـّبة.

وفجأة:

Cut!!

فقد تثاءبت العجوز دون أن تغطي شدقيها فبانت صحراء أسنانها ذات النتوءين الأثريين وقد ازداد رعب الأطفال بعدة درجات فيما ظلـّت عيونهم ملؤها التوسّل بأن تتابع الحكاية. ومن غير المعروف إن كانت الحكواتية قد تعرفت قبل التلفزيون بعدة عقود على تقنية قطع المسلسل في أوج تفاعله الدراماتيكيّ حتى تواصل سرقة ألباب الجمهور، حين قامت بإطلاق ذلك التثاؤب الذي شدّ عضلات الترقّب الطفولية حولها إلى آخر حدود توتّرها.

ومن يدري: فقد يكون ما درجت الفضائيات على استعماله من تقنيات لمواصلة اعتقال جمهورها كي يتابع اجترار مسلسلاتها يوميًا هو اكتشاف علميّ تحمل تلك العجوز حقوق ابتكاره بكلّ ما يمكن أن يدرّه عليها من أرباح ودولارات وعائدات واستثمارات فعقارات ومرسيدسات وفيلات وكوكتيلات وصور في صحف ومجلات، دون أن تدري!

بالنسبة للصغار فقد ملأ التوتّر الجوّ عليهم طيلة فترة التثاؤب القصيرة الخاطفة، والتي استطالت بحكم نسبية الشعور بالزمن وسط التفاعل الروائيّ الذي انقطع تصاعده الدرامي من دون نذير. فوقفت المسائل على مفترق طرق حاسم في اللحظة التي عاد فيها فم العجوز إلى الانطباق معلنـًا نهاية التثاؤب واضعـًا الجميع أمام لحظة مصيرية.

وجهها الأسمر يلتمع بعينيْن “هالوسع” وشفتيْن كالبرقوق فوق بياض كالحليب (وكبياض نهود العذارى، كما يردّد الوقحون)

فهل ستتابع القصة أم ستفعل مثلما فعلت قبل أيام مع قصة “السّت بدور” التي قسمتها إلى تريلوجيا؟ هل ستقول الآن أيضًا “هاي حكايتي حكيتها وفي عـُبـّكو حطيتها” وتصرفنا إلى النوم، أم ستتنحنح وقد تبصق كما تفعل أحيانًا فيما نحن نقلـّل بشكل مصلحيّ منافق من خطورة هذه اللباقة المنقوصة والمؤسفة من جهتها، منتظرين أن تصرّح: “المهم، شو إلكو بالطويلة” وتتابع قصتها غير القصيرة.

ودون سبب أو منطق وفي سلوك منافٍ لكلّ أعراف الاتفاق المعنوي غير الموقع ولكن المفهوم بـحُكم “العشم” بين الطرفين، صمتت العجوز وكأنها انتقلت بعقلها إلى عالم آخر ونسيت جمهور مستمعيها.

“وبعدين شو صار؟” صاحت صغراهم.

دون فائدة!

“كمـّلي ستي كمـّلي”، أضاف آخر.

فش حدا هون!

تململ الأطفال وعيونهم منصبّة عليها وقد اتسعت حدقات عيونهم الصغيرة، ربما في إشارة غير واعية انطلقت من دواخلهم مفادها: ها أنت ترين أنّ عيوننا على اتـّساعها ولم ننعس بل نطالب ببقية الحكاية، فهيّا!

لكنّ العجوز ظلت على حالها وفي زوغانها، وكأنها غير مسؤولة عن مصير قنابل الفضول العنقودية التي أمطرت بها خيال الصغار الخصب قبل أن تنفـّذ انسحابًا متثائبًا من طرف واحد.

“يلعن دينِك ستـّي كل يوم نفس القصة!” صرخ أحد الأشقياء بعد أن غلبه غضبه. وأمام هذه الشتيمة النكراء لدينها، ويا للهول، استفاقت العجوز لتوبخه وتلعن تربيته ووالديْه قليليْ الدين اللذيْن سيجدان الطريق بلا شكّ وحتى دون مرشد أو مرافقين، إلى جهنم وبئس المصير.

ولكن الغضب الساطع برد بعد حين، عندما راحت تغسله بالدعاوى المتضرعة لله بمحق وسحق كل الكافرين وطلب المغفرة للعباد الصالحين، ولتعود العجوز، ويا للغرابة، إلى شبه غفوتها التي استشاط لها الآن غضب الصغار.

في ضوء هذا التحوّل غير المحسوب والمزاجية غير المقنعة التي أثارت طبقة جديدة من الغضب وأشدّ فتكـًا في نفوس السامعين، إستجمع أحدهم شجاعته -بل وقاحته- ولكشها بيده في خاصرتها مرددًا: “طيّب وبعدين!”

وعلى التوّ راحت الحكاية تتواصل وكأنّ العجوز احتاجت لما يشبه كبسة زر حتى تواصل الحكي.. ومما قالته يتذكـّر ما يلي:

الفارس المغوار انبهر بهذا الجمال ورقص قلبه في عبـّه كالعصفور وهو يعيش لحظات الغناء التي بدأت الدموع تخنق أوتارها فجأة!

بكت الصبية، علا نحيبها فبلعط قلب حسن في صدره تأثـّرًا.

“خذني من هنا أيها الفارس”. “خذني معك”، “خذني”..

وخذ بكاء ونحيبًا وعويلا!

فللشهامة ثمنها، خاصة وهي تختلط بغرائز جنسية اشتعلت في جسد حسن رغم كل محاولاته السخيفة لاخفائها، وكأنه كلـّه أخويّة وكرم أخلاق ما شاء الله. فما كان منه إلا أن أخذ بيدها وساعدها على اعتلاء صهوة الفرس بعد أن سبقها اليه بقفزة نشيطة، وإلى الأمام.

جالسةً على الفرس خلفه، كانت ترتجف فتدغدغ روحه التي أخذها الهيام وشوّح بها للبعيد وهو يتخيـّل أنه يعيش واحدة من الأساطير التي يعثر فيها الشاب الحسن على الصبية المليحة فيأخذها إلى أهله ويعارك رفضهم اقترانها بها وبعد كرّ وفرّ وربما رحلات طويلة ملؤها المغامرة ومصارعة الشدائد، يعود ليتزوّجها وتعقد الليالي الملاح ويعيشان في رغد ومنعم و…

وفيما كان حسن يحلّق حيث سحبته بنات أفكاره، انتبه فجأة إلى أنّ أسنانها بدأت تصطكّ، وصارت أناملها التي تحيط بجسده من خلفه قاسية وأظافرها التي أوجعت لذته حتى الآن، بدأت تخزه وتكاد تنغرز فيه وتسبب له وجعا حقيقيا وليس من ذلك النوع الذي يتمناه العشّاق.

شو السيرة، كنا مناح!

ولكن التطوّرات الجديدة لا تحتمل التجاهل. فحتى حركة الفرس ثقلت، وصارت هذه تجرجر نفسها بعناء لاهث وبأنفاس متقطـّعة.

لقد شعر حسن بأنّ المرأة الرقيقة خلفه لم تعد كما كانت.

وفجأة كأنما شمّت رائحة قطيع من ذئاب الليل وضباع البراري جمحت الفرس وصار غضبها يتطاير من منخريها فالتفت حسن للخلف ويا للبشاعة!

إنها الغولة، إنها تلك الشيطانة التي تغوي الرجال قبل أن تفترسهم، ها هي أطرافها تطول، رجلاها تنجرّان تحت بطن الفرس، وشدقها يفرز جعيرا خافتا ولعابا مقززًا.

راحت عليك يا حسن وإنك هالك لا محالة!

وفي اليوم التالي وجد الحراثون هيكليْن عظمييْن، لآدميٍّ وحيوان. “لفارس وفرس افترسهما وحش مخيف” – قال الحراثون خائفين حتى من ذكر الغولة تطيـّرًا من صيتها اللعين.

ولكن في رواية أخرى أكثر تفاؤلا جاء:

ما إن شعر حسن المغوار ابن الأكابر بما يدور حوله، وبالخطر الذي تعاظم خلفه، حتى استجمع شجاعته وقواه، وكدّ فرسه على حين غرّة فسقطت الغولة عن فرسه خلفه وهي تهمهم بأصوات وحشية وتعالى الغبار خلفه وهو يكرّ بفرسه هاربًا لا يلوي على شيء، ولتظل قصته تعيد إنتاج خوف الناس من المرور بالعين بعد كل غياب شمس.

ساعتها وجد الأطفال أنفسهم أمام ليلة ستتعارك فيها الكوابيس وتتوالى فيها يقظات الرّعب المفاجئة، ولن يتمكّن بعضهم من ضبط مثانته فيبلل سريره جرّاء جرعات الخوف التي عبـّها من العين التي تسكنها الغولة، وهو ما ستترتب عليه عواقب وعقوبات في الصباح.

(قطعة من نصّ أطول، يُؤمل نشره قريبًا)

___________________________________

قراءة شخصية • القلم المرتعش هو الموضوع

يستعيد هشام نفاع تراث الحكواتية، لا ليحكي حكاياتها (حكاياها، بلغته) بالنيابة عنها – فذلك يبدو أجدر بقصص الأطفال – ولا ليتحدث عنها بإعجاب مشوب بالرثاء لهذه “القيمة التراثية الأصيلة في حياتنا”، بل ببساطة، ليصف شعراتها الشائبة النابتة على ذقنها المتكوّرة المتجعّدة، ليصف بصقتها، والصحراء التي تفتحها في فمها إذ تتثاءب.

بنفس المنطق، فبطلة الحكاية نفسها، تتحوّل من ست الحسن والجمال إلى غولة، وتنقلب على بطل الحكاية. والحكواتية تتوقف في منتصف الحكاية، لتتثاءب (كم هو أمر مبتذل أن تتثاءب هذه القيمة التراثية الأصيلة في حياتنا!) فترة التوقف هذه تمكن الكاتب من استرجاع وظيفتها، واستحضار وظيفة الفضائيات، وتقنيات القطع والوصل. الحكاوتية القديمون كانوا يعرفون ما يعرفه الفضائيون (نسبة للفضائيات) الأحدث، والقادمون في عصر الخرافة هم آباء القابعين في عصر العقل. فكأنّ هشام يكتب بقلم مرتعش، يخاف من الحكاية المجرّدة فيبعد الكاميرا قليلا، لنرى الحاكي والمحكي إليهم، يخاف من النهايات السّعيدة فيحوّل ست الحسن غولة، يخاف من الخرافة فيبدأ القصة بالاعتذار لعقله، “فلأنه شخص يتزمّت في علاقته مع أفكاره، راعه أن تنكسر حصون وعيه المنيعة وهو يرى قصص الجنّ والغيلان تخرج إليه من التاريخ الغابر، وشعر بهزيمته المرة أمام جحافل الخرافات، التي بدات تتسلل إلى عقله العلمي.”

كأنّ هشام يتقدم خطوة ويتراجع أخرى ليرى أثر تقدمه من بعيد، ومن الثلاثة، خطوة التقدم وخطوة التراجع وخطوة الرؤية، يُخلق النص.

(نائل الطوخي)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. لطالما كانت القصص الشعبية ملهاة لعصرها مع اختلاف العصور، وأن تعاود حكايتها من جديد هو استحضار جميل. فبالرغم من أنها قصة مكتوبة إلا أنها تستقي وتستحوي الكثير من القصة الشعبية في عناصرها لسنا بصدد تعدادها لكثرتها وطول الحديث فيها. من الواضح تأثر هشام بالعديد من أساليب الوصف إن كان من كتاب آخرين أم من القصص الشعبية نفسها أذكر البعض من ذلك: التأثر بقصة “الله أعطى والله أخذ” للكاتب محمد نفاع خاصة في وصف العجوز، استعمال التضاد وهو أحد أهم مميزات القصة الشعبية يبرز هنا أكثر ما يبرز في شخصية الغولة – الصبية، هذا التضاد الذي يطرح فكرة فلسفية حول أن الحياة بما فيها من تفاصيل هي وجهة نظر لا أكثر، هي انطباع ذاتي ظهر جلّ ذلك في نهاية القصة على شكليها. قصة جميلة نتوق لإكمالها بالرغم أنها لا تخلو أحيانا من بعض الاستطرادات الزائدة. 

  2. “لا نريد القول بجلافة إنّ تلك الحكواتية كانت عجوزًا شمطاءَ نمتْ شعرات بأطوال مختلفة من الشيب بعشوائية فظيعة على ذقنها المتكوّرة المتجعّدة تحت فم خلا إلا من سنـّيْن قبيحتيْن..” جميلة هذه التقنية الساراماغوية يا هشام.

    هو حسن وهي فرسه “عصفورة”، حيث وُظفت عندنا الأسطورة لتسمية إحدى قطع الأرض، فقد قطع حسن رباط السرج لتقع الغولة أو الرسدة، ويهتف هو لفرسه “إرمحي يا عصفورة”، فصارت إسم الأرض موقع الحدث، مراحة عصفورة.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>