“نص كيس رصاص”: بين الحقيقة والمخيال

تصور المسرحية نضال الشعب الفلسطيني لمنع التقسيم وبالتالي النكبة والهجرة واللجوء عبر رواية نضال الشهيد المرحوم الزعيم الوطني عبد القادر الحسيني في معركة القسطل عام 1948 هو وصحبه من المجاهدين ودور الجامعة العربية في دعم أو عدم دعم نضال الشعب الفلسطيني

“نص كيس رصاص”: بين الحقيقة والمخيال


نص كيس رصاص

نص كيس رصاص


|سامي مسلم|

أربكت ريم تلحمي الحضور في مسرح عشتار في رام الله وهم ينتظرون دخول المسرح مساء السبت 20/11/2010 لأنهم عندما كانوا يلقون عليها التحية والسلام “مرحبا ريم” ترد عليهم بجدية صارمة أنا كاميليا مرحباً بكم. ولم يخطر على البال أن هذا سيكون اسمها في مسرحية بعنوان “نص كيس رصاص” التي ذهبنا لمشاهدتها. ولم ندرِ أنها بدأت بتمثيل دورها في المسرحية من لحظة استقبالها للمشاهدين القادمين. وعندما أدركنا نحن المشاهدين البسطاء اللعبة ارتحنا ارتياحاً ممتعاً من عدم جهلنا بمعرفتها.

“نص كيس رصاص” هو اسم المسرحية التي تجري في القدس، والتي كتب نصها كامل الباشا وأخرجها عبد السلام عبده للمسرح الوطني الفلسطيني في القدس الذي يديره د. جمال غوشه. تنقلنا المسرحية هذه عبر الزمن من أيام السلاطين عبر لسان الحكواتي عيواظ والكراكوز مروراً بالنكبة عام 1948 وبتداعيات القضية الفلسطينية والنضال للمحافظة عليها والصمود بها إلى ما بعد الاحتلال في حرب 1967، حيث تصور لنا مقاومة مصادرة الأملاك الفلسطينية، واستبدال أصحابها بالمستوطنين اليهود، لتنتقد بشدة استكانة الشباب في القدس، كمثال للأماكن الأخرى، للتعامل مع واقع الاحتلال عن طريق العمل لديه وحتى إقامة الحفلات الموسيقية في مناسبات اجتماعية وأخيراً تنقلنا إلى الزمن الراهن حيث توجد إشارات وتلميحات لعدم جدوى المفاوضات.

تصور المسرحية لنا عن طريق الحكاية الشعبية، التي يرويها الراوي، كاميليا (أو عيواظ أو الكراكوز) نضال الشعب الفلسطيني لمنع التقسيم وبالتالي النكبة والهجرة واللجوء عبر رواية نضال الشهيد المرحوم الزعيم الوطني عبد القادر الحسيني في معركة القسطل عام 1948 هو وصحبه من المجاهدين ودور الجامعة العربية (وليس العرب) في دعم أو عدم دعم نضال الشعب الفلسطيني. كل ما قدمته الجامعة العربية، وفقاً للمسرحية، لهذا النضال هو “نص كيس رصاص” عاد به عبد القادر الحسيني من الشام لمنع سقوط القسطل. ومن هنا جاء اسم المسرحية.

تبدأ المسرحية على طريقة مسرح الحكواتي التقليدية في دكان القهوة في القدس، حيث يدعو الراوي الجمهور لدخول المسرح/القهوة على ألحان الزغاريد والمواويل الشعبية للترحيب بالجمهور. ولذلك أعيد ترتيب المسرح ليبدو وكأنه فعلاً دكان قهوة حيث وضعت الطاولات تحيط بها الكراسي مثل ما هو معروف في المقاهي، وهناك “الولد” الذي يلبي طلبات الزبائن بالقهوة أو الشاي ويوزع عليهم “الملبس” أي الحلويات التقليدية. وعلى حائط خشبة (أو كما يقول أخواننا في المغرب العربي على ركح) المسرح انتصبت شاشة متوسطة الحجم لعكس خيال الظل للدمى المتحركة التي تروي الحكاية جنباً إلى جنب مع الممثلين. في العاب الدمى يبرز كل من عبد السلام عبده ورجائي صندوقه وعلى المسرح تبرز ريم تلحمي /كاميليا وعامر الأشهب الذي يقوم بدور ابنها المتعامل مع واقع الاحتلال وعازف العود، كما يظهر معهما أيضاً في بعض المشاهد كل من عبد السلام عبده ورجائي صندوقه، وهما اللذان يتحدثان نيابة عن عيواظ والكاراكوز.

يقول مخرج المسرحية عبد السلام عبده، عن مسرح خيال الظل في “المطوية” التي وزعت عن المسرحية، إنّ هذا النوع من المسرح كاد أن يختفي من بلادنا وكان حلم المخرج أن يعيد بناءه خاصة أنه، أي المخرج، يأتي من تخصّص قريب له وهو مسرح الأطفال (الدمى والعرائس). فراح يبحث وينقب ويجمع من الكتب والمراجع كل ما يتصل بنشأة هذا المسرح وتطوّره ومكان انتشاره. فيكتشف أنّ مصدره إحدى الدول الآسيوية، إما الصين أو الهند أو إيران، أي أنه ليس غريبًا عن بيئتنا وتراثنا الشرقي. وتعلم خصوصية صنع الدمى على يد الفنان التركي جانكيز اوزيك الذي تم دعوته من مركز عبد المحسن القطان والمسرح الوطني لعمل ورشات عمل عن مسرح خيال الظل وصناعة الدمى. ووجد أن أقدم ما وصلنا من هذا الفن العريق كان من بابات ابن دانيال الذي عاش في العصر الفاطمي، مما يعني أنّ هذا الفن كان موجوداً قبل ابن دانيال. ويقول المخرج إنّ هذا الفن استمر في بلادنا فلسطين وفي عدد من البلدان العربية الأخرى، حتى ستينات القرن الماضي وكان هناك “مجموعة من النصوص وأسماء مخايلين ومقاهٍ كانت بمثابة دور عرض.”

ويذكر أسم المخايل “الطرابلسي (طرابلس الشام) وعازفه عبد السلام الأقرع الذي كان يقيم في القدس طوال شهر رمضان ويقدم خيالاته في مقاهيها متنقلاً من باب حطه إلى حارة السعدية إلى باب العامود في عروض شيقة تتسابق الناس إلى متابعتها.”

في المسرح المقهى ترحب كاميليا (ريم تلحمي) بالحضور لتقطع كلامها لتجيب على مكالمة هاتفية على الهاتف الخلوي، تخرج وتعود لاستكمال تقديم عرض المسرحية. فتقدم للجمهور شخصية المخيال عيواظ والكراكوز وتصف عيواظ وكراكوز مستندة إلى “كتب الأدب” قائلة عيواظ “متعلم، متزلف، يعني بوجهين مثل كثير من الناس اليوم، زلق بتقدروا تقولوا خالطها، آه، من الطبقة الوسطى، يعني بينفع نقول مسكف، هاظا مين؟ يسلم تمكوا، هاظا عيواظ.” أما كراكوز فله الصفات التالية: “بسيط يعني هبيلة بلغة عصرنا، جاهل، هاي بدل ما يقولوا تيس، سريع الغضب، ايدو فرطه ورجلو كمان – من عامة الشعب، قصدهم من الرعاع يعني اللي لا بيحلوا ولا بيربطوا زينا بلا مستحى منكو،….”

عمل عيواظ وكراكوز في بلاط السلطان الذي أمر في لحظة غضب بقطع رأسيهما لأنهما غابا عن مجلسه. لكن عيواظ يملك هذا المقهى الذي نحن فيه، والذي يخلفه لابنه الحاجي صالح كما تقول: “عمي وأبو جوزي.” وعلى ما يبدو الحاجي صالح الذي عاش في القدس لم يكن مخايلاً أو عيواظاً فقط في النهار وإنما كان مجاهداً في سبيل قضية فلسطين في الليل. وهو يناضل ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية. ويستشهد في معركة القسطل مع عبد القادر الحسيني فيورث المقهى لابنه عبد القادر (رجائي صندوقه) زوج كاميليا. لكن عبد القادر ليس في وارد الجهاد والنضال، لا يعمل، وإنما يقضي يومه كما تصفه كاميليا متنقلاً من التلفزيون إلى الكنبة ومنها إلى الطاولة وإذا لم يجد شيء ينتقل إلى الكومبيوتر ليلعب ورق “الشدة.”

كاميليا في حيرة. زوجها عبد القادر غير مكترث ومهمل رغم تهديد سلطة الاحتلال له بمصادرة دكانه هذا مثلما فعلت مع جاره وسلمت دكانه إلى “شوشانا” اليهودية. وهي تريد منه أن يتابع هذا الموضوع مع المحامي. ومن هنا خروجها باستمرار من المقهى / المسرح لتجيب على الهاتف الخلوي. وابنها عازف العود (عامر الأشهب) عضو في فرقة موسيقية إسرائيلية. تتهكم كاميليا عليه عند لفظها لاسم الفرقة “شلوم عليخم.” وهي حزينة ومقهورة لأنّ ابنها متعامل. ففي الحوار الذي يدور خلال المسرحية بين كاميليا وابنها نرى شدة الإحباط والإدانة للعمل لدى الاحتلال وهذه فقرة تربوية مهمة لمقاطعة الاحتلال ومقاومته وعدم التعامل معه. وما يحزن كاميليا أكثر أن ابنها (أي جيله) لا يعرف ما هي معركة القسطل ولا من استشهد فيها، وما هي أهميتها في النضال الفلسطيني ولا بالإحباط الذي ساد الأوساط الفلسطينية من جراء شح الدعم العربي عن طريق الجامعة العربية. وما قدم من دعم هو فقط نص كيس رصاص لعبد القادر الحسيني عندما عاد مندوب الجامعة العربية في دمشق. وتعبر الحكاية الشعبية الفلسطينية عن هذا الموضوع بغناء شعبي حزين ومؤثر بدأت فيه كاميليا مطلع العرض المسرحي حيث زغردت قائلة:

بلبل الروض غنا مراعينا

والله يا قوم شرفتم نواحينا

القدس ونابلس سبع براج عالمينا

حيفا ست الملاح عكا تسلينا

رحنا عالشام قلنا الشام تغنينا

جارت علينا الليالي بعنا اواعينا

تنتقد المسرحية أيضًا الردّ الشعبي الفلسطيني على فقدان القسطل واستشهاد عبد القادر الحسيني، هذه المعركة التي تسمى في التراث “الانتصار في معركة القسطل” الذي هو بالواقع هزيمة ماحقة استطاعت من خلالها القوات الصهيونية السيطرة على القدس الغربية وضواحيها وكانت مقدمة لفوزها في معركة باب الواد، فاتحة الطريق إلى القدس الغربية. إنّ “الفزعة” الفلسطينية التي حدثت أثر استشهاد عبد القادر الحسيني رغم كثرتها لم تكن مجدية. فقد جرت دون تنسيق أو تعاون. كانت هبة جماهيرية رداً على هول الخسارة. لكنها لم تنفع في الدفاع عن القسطل والقدس.

تتناول هذه المسرحية الجريئة، نصًا وتمثيلاً، دور المرأة الفلسطينية في البيت وفي الحياة العامة. فكاميليا المرأة هي ربة البيت، لا بل عماده، وليس زوجها. تدير المقهى وتسهر على ألا يتم مصادرته. ولكن عند احتدام الأمور يرفع زوجها يده عليها فيتصدى له الابن ليمنعه من ضرب أمه. ويقع الخلاف وتجري المصالحة بين أفراد العائلة.

وكاميليا، في الوقت نفسه هي المناضلة المتطرفة التي لا تريد سلاماً ولا مفاوضات. وتنتقد المفاوضات الجارية بالإشارة والتلميح. وترى أن الحرب هي العنصر الذي يعيد الروح للشباب وللوطن. والأخلاق كذلك. وهي من مؤيدي الحرب والمقاومة. زوجها وابنها من مؤيدي السلام. ويحاولان، رغماً عن كاميليا، مرة بالحوار، وأخرى بالحوار الساخن، وثالثة بالخلاف والاختلاف أن يفهماها إن هناك أسلوبان للدفاع عن القضية، واحد بالحرب وأخر بالسلم ولكل منهما أسبابه ونتائجه. هي تريد الحرب وهما يريدان السلام. وبالنسبة لهما هو أجدى لأن ليس كل شيء يأتي من خلال الحرب. لها طريقتها ولهم طريقتهم، وكأنهما يقولان لها لنجرب الأسلوبين معاً ولكن لتفسح لهما المجال ولا تفرض رأيها عليهما.

“نص كيس رصاص” مسرحية جميلة وذات رسالة هامة. ربما تعلم الجيل الصاعد أكثر من الكتب دروساً جانبوها بحكم الواقع. إنها محاولة لإعادة الأمور إلى نصابها في التربية الوطنية. وهي إلى ذلك مسرحية عن التراث وأهميته إذ أعيدت صياغته بأسلوب حداثي كما فعل المخرج. وهي أيضاً مسرحية فيها جانب ترفيهي مضحك على نكات تأتي من الماضي وكأن الحاضر قتيم وثقيل. وهي أيضاً مسرحية فيها من الكيمياء والتجانس بين أعضاء الفرقة وكأنهم بالفعل أسرة واحدة عادية لا تتسم بالخوارق لمجرد كونهم فلسطينيين يعيشون في قدس الأقداس، العاصمة الأبدية لفلسطين ولدولتها القادمة.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>