هل أنت الوريث لكل مصادر الرعب؟/ آنا مينينديز

إنه آخر قطار إلى كوجيمار. تذكرتُ الآن أنها رغبتي، لأستحمّ بالشمس مرة أخيرة، ولأغطي الأوراق مجدّدًا بالشعر، وتوجّب عليّ أن أحرّك ساقي بقوة. لكن كان رجلا المعطفين يتقدّمان؛ كانا أضخم وأسرع بينما كنت أنا ضعيفة ومريضة

هل أنت الوريث لكل مصادر الرعب؟/ آنا مينينديز



آنا مينينديز. تصوير: كارلوس أفيلا غونزاليس


|آنا مينينديز|

|عن الإنجليزية: صالح الرزوق| خاص بـ “قديتا”

بعد أعوام كثيرة، ولدى نهاية هذه القصة، وجدت نفسي، بطريقة معقدة، على رصيف لمحطة قطار. وتصادف ذلك في شهر كانون الأول. لذلك لا بدّ أن الطقس في الخارج مثلج، حيث لديّ ذكريات عن هطول الثلوج وقتها، ولكن في داخل المحطة كان الجوّ دافئا فعلا. في البداية، خطر لي أنني وحيدة، ثم علمت برعب مفاجئ، أنّ معي رجلين يرتديان المعاطف الطويلة وكانا يضعان قبعتين سوداوين متماثلتين، ويشبهان بملامحمها أخوين شقيقين، باستثناء أنّ لأحدهما لحية والآخر أمرد. وقف كل منهما في بركة خاصة به من الجليد المصهور، وقد ثبتا أقدامهما على الأرض، وكانا في كل خمس دقائق تقريبًا يتحرّكان للاقتراب من الخطوط الحديدية. وقد كان الهواء رطبًا ومنذرًا بالخطر.

“كان وضعه حساسًا.”

“نعم، حساس جدا، هذا صحيح.”

“لم يعد بمقدوره أن يعمل.”

“أضف إلى ذلك، كانت الصحف تصنع حول سريره أرخبيلا.”

“ولكنه كان يغرق قرب الشاطئ.”

“لا فرق، هذا مغاير لأسلوبنا.”

إنتابني إحساس بأن الرجلين يتهامسان حولي. وقفت لأصغي ورغبت لو ينطقان باسمي الذي نسيته. ثم بذلت جهدي لأحدّد الطريقة التي وصلت بها إلى هنا. وماذا أنتظر؟ على الأرصفة الأخرى، جاءت القطارات وأقلعت. قطارنا وحده تأخر على ما يبدو. وفكرت بالبحث في جدول المواعيد. ربما يقدم لي هذا إشارة حول مكان محطتي التالية، لكنني خشيت مغادرة الرّصيف فيفوتني القطار. من حولي كان يبدو على الرجلين أنهما في حالة من نفاد الصّبر. ولكن سريعًا انضمّ إلينا آخرون وهذا وفر لهما الاطمئنان، ومع ذلك تابعا التهامس.. الحوار نفسه. من خلال مكبرات الصوت، أعلن صوت باللغة الإسبانية عن أسماء مدن لا  ترتبط بهذه المحطة: موا، جيبارا، باراكونا. لقد توقفت القطارات عن المرور فيها من سنوات. قد يكون هذا سبب التأخير، أو لعله من الأجدى أن يُخطر أحد بذلك مدير المحطة.  لكنني لن أفعل هذا بنفسي؛ فأنا أعلم أنني لو غادرت الرصيف فسوف أضيع تمامًا وأفوت الفرصة- فرصتي الأخيرة.

مرت عدة ساعات، وانضمّ إلينا المزيد من الرجال، وازدحمنا فوق الرّصيف، وكلّ منا يقف فوق بركة الآخر الخاصة به. ثم انتابني الشعور بأنّ هناك من يلاحقني هنا. لكنّ الرجل الملتحي والآخر الأمرد اختفيا. انحنيت بقامتي إلى الأمام للبحث عنهما بين الحشد المزدحم، وشحذت سمعي لألتقط النبرة الجزويتية المثقفة التي تدلّ على أهل الشرق، في نفس اللحظة التي شقت الحشود آهة فرضت الصمت على أرجاء المحطة. أشار أحد الرجال بيده، ثم رفع آخرون رؤوسهم إلى الأعلى. وخطر لي أنه طير علق بالسّقف. لكن تبين لي أنه بالون أزرق كهربائيّ لطفل، حيث كان خيطه الفضّيّ يلمع بين أعمدة النور. ارتفع البالون ثم انخفض مع تيار الهواء ليندفع مجدّدًا إلى الأعلى في سماء ليلية معتمة. وهنا وصل قطار إلى المحطة، فشتت التيار الناجم عنه اتجاه البالون عبر السّماء حتى أنّ منظره ضاع عن عيني لفترة من الوقت. ثم وجدته سريعًا حيث كانت القبة الضخمة تنحني باتجاه الأسفل. كما فقد الآخرون الاهتمام به، و تابعوا حواراتهم الخافتة. لكنني لم أرفع عيني عنه. كان يبدو كما لو أنه في رحلة عريضة حول العالم، وكانت قشرته الرقيقة تغطي في البداية برج الدلو ثم السّرطان، وعندما وصل إلى برج القوس تمهل قليلا، وخطر له أنه سيستقرّ هناك حتى ينفد الهيليوم منه ويرتطم بالأرض. ولكن، ولدواعي دهشتي (كان الآخرون قد صرفوا النظر عن هذا المسكين)، اندفع البالون من القوس إلى الحوت، وبالكاد لم يضرب جزءًا من الجّدي، ثم انطلق من خلال الفجوة إلى الفضاء حتى النجوم.

لم أشاهد في حياتي بالونا ينطلق نحو عنان السماء البعيدة. نظرت من حولي لأرى هل شاهد أحد آخر هذه الحادثة الغريبة، إلا أنّ الجميع وقفوا ونظراتهم مركزة على الخطوط الحديدية. وعندما نظرت إلى الأعلى مجدّدًا، شاهدتُ علامة في السّماء، أثرًا لفجوة سوداء صغيرة قرب برج الحوت. كانت النجوم براقة في تلك الليلة، واعتقدت أنها خدعة تضامنت فيها الإضاءة واتجاه القبة. ثم شاهدت الخيط الفضّيّ وهو يتحرّك بعيدًا بلا شيء. وبينما كنت أراقبه، التمعَ ضوء مثل كشّاف يمرّ من ثقب صغير في السّماء. وتابعته حتى مصدره، وأنا أمعن النظر نحو الفجوة، وهناك- هناك (وهذا أمر يصعب تصديقه)، رأيت من وراء الفجوة المرتفعة عينًا تبادلني النظر.

سيطر على قلبي الرعب، وتخيّل البرد الذي جمّدني، عندما لاحظتُ أنّ العين التي تنظر نحوي هي لي. صرفت عيني بسرعة ثم عاودت النظر. كانت العين مثبتة تحدّق بي، لا تطرف أبدًا. ولم تكن هي الخطأ الوحيد في تلك السماء القاسية. كلما وقفت تحت القبة لأنظر بي، كنت أرى أنّ النجوم والنظام كله عبارة عن انعكاس، صورة في المرآة، تلك هي العين الأخرى، التي تراقب ببرود من خارج حدود الفضاء، وهي تشاهد الأشياء على وجه الحقيقة كما هي.

وكلما تضاعفت ألغاز محطة القطار تلك، كنت أستسلم للقلق. أين هي حقائبي؟ إلى أين أمضي؟ لماذا تأخر القطار حتى هذه الدرجة. وقفت عند الرصيف لأمسح يدي الباردتين والرطبتين بسروالي. نكست رأسي من السماء، لم يكن يوجد هناك غير الاضطراب. الشيء المهم الآن أن ألحق بالقطار. انتظرت قرابة ساعات، وربما لأيام، ولم أشعر بالتعب يلحق بساقيّ. لم تشرق الشمس- في الداخل لم يغرب الليل، وكان الرصيف يلمع بنور كهرباء تلك النجوم الغريبة. وقرابة منتصف ليل اليوم الثالث، انطلقت صرخة على الرّصيف. ثم هدير- لقد زمجرت الخطوط بصوت خافت. واقترب القطار !

الآن كنا متقاربين على الرصيف، المرفق يلامس المرفق، وكان من الواضح أنّ لا مُتسعًا للجميع على متن القطار. دفعني الحشد بقوة حتى حافة الرصيف. وعندما حاولت جهدي العثور على موطئ قدم، ظهر الرجلان بمعطفيهما الطويلين مجدّدًا. كانا يشقّان طريقهما عبر الزّحام بسهولة، ويشيران لي. ابتسم الرجل الأمرد، وكأنه صديق يودّ أن يُقرئني السّلام. إلا أنّ المُلتحي عبس وهو يدفع الآخرين من طريقه. كما علمت أنه يجب أن أبتعد. يجب أن أفرّ. صاح المنادي باللغة الإسبانية باسم محطة غير معروفة. هذا هو الأمر إذًا،  إنه آخر قطار إلى كوجيمار. تذكرتُ الآن أنها رغبتي، لأستحمّ بالشمس مرة أخيرة، ولأغطي الأوراق مجدّدًا بالشعر، وتوجّب عليّ أن أحرّك ساقي بقوة. لكن كان رجلا المعطفين يتقدّمان؛ كانا أضخم وأسرع بينما كنت أنا ضعيفة ومريضة. والأسوأ، كان الرجال المنتظرون مؤيّدين لهما. وسريعًا بدأ الجميع يشيرون إليّ وأنا أفلح في الوقوف وأحاول المرور من بين الزحام على اعتبار أنني قاتلة. من بعيد، أطلق قطار صافرته. أما العين الكبيرة- عيني الخائنة، فقد نظرتْ إليّ من السماء، من غير شفقة ولا اهتمام. زمجرت القطارات. شعرت بيدٍ قاسيةٍ على كتفي. لقد اقترب رجلا المعطفين مني بينما قبض الآخرون عليّ. تخلصت من معطفي وهربت. شعرت بالخفة، حتى أنني كنت أهرب وأفلت من الأيدي الممدودة نحوي، وكلّ أثر للمرض زال تمامًا مع معطفي المُغبر. كنت أرحّب بهذا الأثر المُعاكس. ثم مع عاصفة كبيرة من الهواء، اكتسح القطار المحطة، وكان يحمل معه رائحة البحر.

(ميامي، 2010)

 

آنا مينينديز: كاتبة أمريكية من اصل كوبي. لها عدة مؤلفات من أهمها “كنت في كوبا راعية ألمانية”، “في حب تشي”، “الحرب الأخيرة”، وغيرها. هذه القصة مأخوذة من مجموعتها “بلد سعيد لأديوس”، التي ستصدر في وقت لاحق من عام 2011 عن دار نشر “غروف”. تتنقل آنا بين ميامي وأمستردام.


المصدر:

You Are The Heirs Of All My Terrors. Story by : Ana Menendez. World Literature Today. September – October issue. 2010. P.p. 28 – 29.



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>