هوّ يعني إيه يساري؟/ خالد الصاوي

ما اليسار؟ وكيف أفهمه؟ اليسار هو منظومة أفكار ومؤسسات الدفاع السياسي عن الطبقات المحرومة من الملكية -والسلطة بالتالي- إنه الانحياز الطبقي النقيض لأيديولوجيا الطبقة الحاكمة، وهو توجه يعبر عنه بالقول وبالفعل المنظمين لبلوغ إحدى غايتين: الإصلاح أو الثورة

هوّ يعني إيه يساري؟/ خالد الصاوي


خالد الصاوي. "هو أي يعني اليسار؟"

خالد الصاوي. "هو أي يعني اليسار؟"


|خالد الصاوي|

في المدرسة الإعدادية سمعت مدرّستي صدفة وهي تردّ على سؤال لتلميذ “هو يعني إيه يساري؟” أذكرها تسرد حادثة نشأة مصطلح اليمين واليسار بطريقة بسيطة جدًا: “كان هناك مجلسان يمثلان الناس في بلد أوروبي في زمان بعيد نسبيًا.. أحدهما مجلس للأعيان والآخر للعامة، الأول يجلس على يمين الملك والثاني على يساره”!

كانت عيني قد التقطت منذ زمن بعيد انقسام الناس على طبقتين رغم أني نشأت في قلب الطبقة الوسطى، كان حدسي يصور لي أنّ طبقتي الوسطى مجرد سلم متدرّج من ساحة الفقر إلى باحة الثروة، وهو سلم حادّ الدرجات تزل به قدم المرء أسهل من بلوغه أعلاه.
ومضت السنوات ودخلت الجامعة عام 80 وبدأ اهتمامي بالسياسة يتحرّك من الكتب إلى الأرض، ورأيت شباب الجماعة الإسلامية يحطمون معرضًا للطلبة اليساريين من ناصريين وشيوعيين دون تدخل من الإدارة أو الأمن، فبدا لي واضحًا أنّ معسكر اليمين يتكوّن من الإدارة والأمن –وكلاهما ينفذ أمر ومصلحة النظام والطبقة العليا- ويضم معهما الجماعة الإسلامية التي تنفّذ مخلصة لمعتقداتها ما هو ضدّ مصالحها أصلا باعتبارها جزءا من طبقة مقهورة وسليبة مثلها في ذلك مثل جنود الأمن والموظفين الصغار بالجامعة. لقد كان شباب الجماعة الإسلامية يكنس اليسار من سكة السلطة الساداتية، كان السادات يريد أن ينحرف يمينا في اتجاه أمريكا ولم يكن يريد يسارا سوفييتيا ولا ناصريا يزنّ في مواضيع القطاع العام والدعم والمواجهة مع اسرائيل والقومية العربية الخ.. خاصة بعدما كشف ذلك اليسار عن أنيابه وانضم للجماهير في انتفاضة الجياع في يناير 77.
كان حادث تحطيم المعرض اليساري في أوائل سبتمبر، وبعد شهر واحد كان شباب الجماعة مطاردين من النظام الذي وفر لهم شرط وجودهم الكبير.. أي التغاضي عن عنفهم تجاه اليسار؛ كان الشباب مطارَدًا وكان الرئيس قتيلا على أيدي فصيلهم العسكري.
وباعتباره المدافع عن الفقراء والحريات مع مزجه لنمط الحياة الغربية بروح الالتزام الشرقي كما رأيت وقتها، انضممتُ إلى معسكر اليسار من باب نادي الفكر الناصري –وكان سريًا آنئذ- وبدأت أرى نفسي ناشطًا يساريًا يربط دراسة الحقوق وهواية الفن بالدفاع عن قيم العدل والحرية والقومية العربية.
وعايشت صراعاتنا داخل معسكر اليسار مع الشيوعيين بشكل متوازٍ مع صراعاتنا مع معسكر اليمين –السلطة بذراعيها الإدارة والأمن- والشباب المُلتحي وأخواتهم المنتقبات والذين كان إصرارهم يتزايد على تحدّي النظام، وهكذا كان هناك صراع آخر يدور في معسكر اليمين.
كنت أحسّ بمشاعر مختلطة تجاه هؤلاء الشبان، فهم ضد الحريات والحياة العصرية كما أفهمهما ولكنهم يبحثون عن العدل وهم فعلا محرومون منه أكثر من معظم مجموعتنا اليسارية.. هم من فقراء الأقاليم –المظلومة اجتماعيا أصلا- يعيشون في معسكرات مدنية اسمها المدينة الجامعية أو مكدسون في غرف عشوائيات الجيزة وإمبابة.
ورغم أنهم الأكثر حرمانا منها إلا أنهم يدافعون بكلّ كيانهم عنها- تلك الملكية الخاصة التي تضطهدهم، ويعادون المدافعين عنهم –نحن- على أساس أننا كفرة أو مكابرون مجاهرون بالمعصية، ويقاوموننا لأننا ضد الملكية الخاصة لقناعتهم بأنّ عداءنا لها هو عداء لحق يقرّه الدين، ورغم وجود متدينين في صفوفنا إلا أننا جميعا مصابون بنفس الاتهام طالما أنّ مرجعياتنا بشرية ومرجعيتهم النصّ الديني.
وبدأت أتعرف على يسار ما وراء أسوار الجامعة، ووقع اجتياح لبنان عام 82 ونشطنا كما نشط الجميع، وهزمنا كما هزم الجميع مع خروج (ياسر) عرفات ورجاله من لبنان، ودخلت حالة من الاكتئاب والخجل من أني لم أحاول جاهدا السفر للانضمام إلى المقاومة مع القوى الفلسطينية واليسارية اللبنانية ضد إسرائيل واليمين اللبناني، وانكببتُ أقرأ بحثا عن حل، وحين خرجت من دوامة الاكتئاب بعد شهور قليلة وجدتني أقرب للطلبة الشيوعيين مني للناصريين، ومع هذا فحين اندلعت مظاهراتنا عام 84 بعد طول صمت دخلت اللجنة الوطنية للطلبة مستقلا وسط زملائي من الناصريين والشيوعيين. كيف كنت أنظر لنفسي وقتها؟ كنت أراني يساريًا من دون تحديد.
دار كل هذا برأسي وأنا أحضر الاجتماع الأول لاتحاد كل قوى اليسار في نقابة الصحفيين، كنت قبلها بيومين قد سُئلت من شابة في العشرين: “إلا هو يعني إيه يساري؟”.
كنت أتابع مشروع وحدة اليسار بشغف على النت ولكني لم أستطع أن أجيبها فورًا، دارت برأسي عشرات الكتابات والمواقف التي جرت بي وجريت بها أكثر من ربع قرن، ورنّت في أذني أجراس: كتلة اليسار-اليسار الجديد- اليسار الرسمي- آفة اليسارية الطفولية- يسار الوسط- يسار أمريكا اللاتينية- اليسار الثوري-اليسار الإسلامي-اليسار القومي- اليسار اللاسلطوي-مأزق اليسار وأخيرًا اليسار الديمقراطي.
ووقفت الفتاة تحدق بي ولسان حالها يقول: “ساكت ليه يا منيل؟ لما انت مش عارف تشرحه أمّال مؤمن بيه ازاي؟!”، ثم كررت السؤال بمنتهى الأدب: “بقول لحضرتك.. اليسار.. يعني إيه؟”
وللحظة تُهت مع تذكّري سجالات الزملاء، ومع إفراطي في استهداف الأمانة سكت ثانية وامتدت لحظة البله! “اليسار.. هو.. ال.. دفاع .. السياسي”، سكتّ للحظة وعيناها تعطياني نظرة “آه يا مُدّعين يا ولاد ال..” وغرقت مسائلا نفسي: “أممكن أن أنخرط ربع قرن في النضال تحت لواء ما لا أعرف له تعريفًا واضحًا؟” كان الأسهل أن تسألني ما الاشتراكية؟ أو ما هي الاشتراكية الثورية؟ أو ما هي الماركسية اللينينية؟ وبسرعة مرّ عليّ الشريط كله.. كيف كانت الستالينية بالنسبة لي يسارًا ثم استحالت يمينًا عام 89 وأنا أتعرّف على تروتسكي عن كثب، وكيف كنت قبلها فوضويًا لمدة وجيزة ظنا مني أنّ هذا هو اليسار الحقّ، وكيف عدلت عن الفوضوية حين قرأت مقالات مجمعة ضدها لماركس وإنجلز ولينين، تذكرت المواقف اليمينية لليسار الرسمي وهجوم تياري على اليسارات الأخرى وشتائم كل يسار آخر لليسار الذي أؤمن به، وقبل أن تصرف النظر عن تساؤلها البريء ابتسمت للفتاة وقد فتح الله علي فتذكرت مدرسّة الإعدادي ثم اليوم الذي قررت فيه أن أنضم لمعسكر اليسار وأنا في الثامنة عشرة من عمري، وتذكرت رحلاتي المكوكية مع اليسار.. ستالينيا ثم فوضويا ثم ماويا ثم جيفاريا ثم تروتسكاويا ثم ماركسيا لينينيا ثم رأيت صورة مجلس العامة على يسار الملك، وسرت بداخلي روح الشباب المبكر وأنا أقرر الانضمام لمعسكر الكادحين على خلفية العلم والحريات وضد معسكر الملكية الخاصة سواء اتخذ شكلا مدنيا أو عسكريا أو دينيا..

همست بجدية: “اليسار هو منظومة أفكار ومؤسسات الدفاع السياسي عن الطبقات المحرومة من الملكية -والسلطة بالتالي- إنه الانحياز الطبقي النقيض لأيديولوجيا الطبقة الحاكمة، وهو توجه يعبر عنه بالقول وبالفعل المنظمين لبلوغ إحدى غايتين: الإصلاح أو الثورة؛ الأول تهدئة لحدة الصراع الطبقي والثانية إحلال طبقة مضطهدة ومحرومة محل الطبقة الحاكمة.. كل هذا على أرضية فلسفة علمانية تفصل الدولة عن الدين، تناهض كافة أشكال التمييز، وتقدس الحريات.. (رغم التاريخ غير المشرف لأغلب الحكومات اليسارية مع قضية الحريات!).
نظرت الفتاة مرة أخرى إلي باهتمام فراجعت العبارة بسرعة متوقعا أن تسألني عن كل كلمة فيها! ولكنها صمتت طويلا كأنها تذاكر العبارة جيدا ثم قالت ببساطة: “أهه كده! أنا برضه قلت مش معقول التفسير الأهبل بتاع يمين الملك ويسار الملك يكون هو الإجابة!!” فتحرجت في الكلام للحظة متخوفا من أن تكون قد قرأت أفكاري: “هو فيه أصل للتسمية بس..” فقاطعتني بسلاسة: “أيوة فاهمة.. بس كده واضح.. شكرا على المعلومة”.. ثم استدركت سريعا: “بص هو أنا متعاطفة معاكم عشان بتدافعوا عن الغلابة ودماغكم مستنيرة بس أنا لا بشرب ولا عاوزة أنام مع حد قبل ما أتجوز!”
فبرقت وقد هالني اختصارها للقضية بهذا الشكل، فتطوعت بالدفاع عن قيم اليسار وقلبي يخفق باختبار الصراحة: “الشرب وممارسة الجنس دون زواج مش من شروط عضوية اليسار.. دي..” فقاطعتني بسرعة “ولا عاوزة أقلع الحجاب”، نظرت لحجابها البرتقالي اللطيف والجينز الضيق الذي ترتديه كملايين الشابات ولم أجد ما أقول فأضافت: “معرفش قوي يعني موقفي من الملكية الخاصة والقطاع العام بس هو أكيد الفقر حرام والاستبداد حرام والسكوت ع الذل حرام أكثر سواء كان الذل ده على أيد مصري أو أمريكي”، وشرعت أربط القضايا أمامها فقالت بسرعة: “أنا لا عاجبني الحزب الوطني ولا الوفد والتجمع ولا الاخوان ولا الناصريين.. بص، هم الناصريين كويسين بس مش عاجبني انهم مألهين شخص وماشيين وراه، وكمان مش هو ده النظام اللي طلع السادات ومبارك؟ بص بصراحة أنا حاسة كده اني يسارية بس انا مش عاوزة ابقى شبه الأجانب، انا مصرية ومسلمة وعندي صاحبة مسيحية، بكره أمريكا واسرائيل ومتعاطفة مع العمال والفلاحين والموظفين والفقرا عموما، عاوزة اشتغل بدراستي واتجوز واحد بحبه وأعيش عادي يعني وكلنا نبقى كويسين”.
وقبل أن أنبس بكلمة كانت قد نظرت في ساعتها وصفرت وقررت الانطلاق، وانصرفت الفتاة وأنا أمام تحدٍّ ذهني كبير وكأني أتأهل للرد على ملايين الشباب المصري الذي يشبهها في مختلف القطاعات.. ورجعت أتذكر التعريف الذي نحته من وحي اللحظة، وغبت في تساؤلات عميقة: “هل كنت أمينا وموضوعيا وواضحا في هذا التعريف؟”؛ “ألم تعبر الفتاة عن احتياجاتها الحقيقية بسلاسة تفوق تعريفي؟” ولم أفق إلا وأنا بعد يومين في الاجتماع الأول لاتحاد اليسار وقد تقافزت برأسي عبارات للأستاذ نبيل الهلالي متقاطعة مع عبارات لسامر سليمان وسامح سعيد عبود مختلطة بهتافات كمال خليل تخترقها كتابات د.رفعت السعيد، وانتظرت مستمعا للجميع دون أن أقوى على الكلام.. كنت أقرر أن أتكلم كلما شعرت بتباعدنا عن الهدف من الاجتماع ولكني تعلمت من سنوات قليلة فقط فضيلة الصبر في الحوار، ونعمة الاستماع.
تحدث صوت عن حتمية الثورة الوطنية أولا وعكس آخر رعبه من الاخوان بينما كانت الأنفاس المؤيدة للمقاومة تختلط في الصالة بأنفاس أقلية لا تراها مقاومة أصلا. كان هناك إلحاح من جميع المتكلمين على فكرة مركزية.. حسن النوايا هذه المرة، ودون ذلك لم يكن هناك شيء مشترك.
وبعدما تكلم المتحدث تلو الآخر غصت في تفكير عميق سائلا نفسي: “إلا هو يعني ايه يساري صحيح؟” وبمعنى أوضح: غير حسن النية، ماذا لدينا من روابط ووشائج تشدنا لبعض؟
اتحاد كل قوى اليسار.. ما الكلمة الزائدة في هذه العبارة؟ في رأيي أنا.. كلمة “قوى”! لقد فقد اليسار أو معسكر الدفاع عن ثالوث الديمقراطية-العلمانية-الاشتراكية قوته وبريقه من زمن لجملة من الأسباب، واستعادته لهما تمر في رأيي من بوابة صعبة تتمثل في:
1. التعريفات: ما اليسار؟ وكيف نرى مكوناته الرئيسة أي ما الديمقراطية؟ ما العلمانية؟ وما الاشتراكية؟ كيف تكون تعريفاتنا واضحة ومرنة معا؟ أين ومتى بالضبط يكون توصيف الفعل على أنه تكتيك فاشل أو استراتيجية خطيرة أو انحراف محدود أو خيانة طبقية؟ إن مبدأ التصدي لتعريفات من هذا النوع بأسلوب ديناميكي -يستوعب ويعطي الواقع تباعا- يعني أننا قررنا أن نهتم بشدة بتكوين زاوية النظر التي منها سنقيس الأمور أمام جماهيرنا المستهدفة.
2. الإطار وآليات التفاعل الداخلي: كيف نتعاون؟ كيف نختلف وكيف نتنافس في هارمونية وكيف نحل خلافاتنا؟ كيف نشجع المبادرات القاعدية وكيف نوفر لها دائما جوا من التلاحم العملي بين القواعد؟ كيف نقلص حجم السجال النظري على حساب تحليل التجارب المشتركة، كيف نركز على التعلم معا أكثر من النصح والتوجيه لبعضنا البعض؟ كيف نجمع بين الممارسة الديمقراطية الموسعة والانضباط البنائي الذي يراكم ويكرس قوة الاتحاد داخليا وخارجيا؟
3. المذاكرة ليوم الامتحان.. أو الاستعداد لإجابة الجماهير على السؤال الحاسم “ما العمل؟”، ولن يتأتى هذا الا بالانكباب معا على تحليل اللحظة وتصور كيفية التعاطي مع تحدياتها وسيناريوهات المستقبل القريب والقريب جدا.. ويقود هذا آليا إلى السعي الجاد لاستشراف ما يدور في مركز تفكير ووجدان الجماهير، مع ربط المشكلات المحلية بالإقليمية بالدولية، وبمعنى آخر إنعاش فلسفة “السياق ووظيفية عناصره وشكل ترابطها الخفي” على حساب فلسفتي “الدوجما هي الحل” أو “تفاصيل بلا رابط”.
4. وأخيرا.. آفاق وآليات التفاعل الخارجي.. لماذا نتحد الآن؟ لإعلاء أية راية بالضبط؟ وللتأثير فيمن تحديدا؟ وكيف؟ من سنحالف مؤقتا؟ ولماذا؟ وحتى متى؟ من سنهاجم قبل من؟ كيف نكسب الشباب من عينة صديقتي الصغيرة؟ وكيف نفعل ذلك دون نفاق أو تذيل للجماهير ودون أن ننعزل نهائيا عنها طبعا؟ كيف نبني الحلول مع الناس لا من خلفها؟ كيف نصنع من اليسار في عيون الناس ساحة للتحرر لا فسحة للثرثرة والبوهيمية؟

إن نظرة متفحصة على تصاعد الغلاء وتوحش الهيكلة الرأسمالية في مصر مع تناقضات أحداث لبنان وفلسطين والعراق وقرب انهيار الأمم المتحدة وتنامي المد الإسلامي حتى الصومال لتجعلني واثقا أن أحداثا جساما سوف تقع في القريب العاجل، وسواء أحببنا أم لا ستربط الجماهير العربية نفسها ببعضها عاطفيا ومصلحةً، وستميل إلى التمسك بالحل الديني لصد العدوان على ديارها ومقدساتها وثقافتها القومية، وسيقذف بها ظلم الغرب إلى عداء مفتوح معه وكأنه كتلة صماء غير متناقضة، ومع استمرار المقاومة ستنفلت الأمور عن جادة الحلول الروتينية، ومن الوارد توريط سورية -وإيران بالتالي- وهنا لا يمكن لطالب في سنة ثانية عسكرية أن يقبل دخول سورية حربا ضد اسرائيل لا تشاركها فيها مصر باعتبارهما فكي الكماشة معا، ولو لم تتخذ القيادة السياسية قرارا صائبا سيبزغ الحل الانقلابي على النمط الموريتاني –نمط يوليو أو انقلاب يحظى بالتأييد الجماهيري لاحقا فيستمد منه مشروعية الاستبداد- ومع خطر انفتاح المعركة من كل الجوانب وانحشار المارينز والجنود الاسرائيليين بل والمجتمع الصهيوني نفسه بين جبهات معادية من كل جانب قد يومض بصيص الثورة الشاملة في المنطقة على أرضية قومية -سواء دينية أو عسكرية- وقد يؤدي ذلك الانفلات غير المحسوب إلى العكس تماما أي تسريع عمليات “الفوضى البناءة” لو تلاقت قوى الدينيين أو العسكريين مع مخططات الشرق الأوسط الكبير، وهنا قد تظهر فجأة الشروخ المرعبة بين الثورة الإسلامية –حزب الله وفقراء الشيعة، حماس وفقراء الأرض المحتلة من جهة- والدولة الإسلامية –حكم البرجوازية الإيرانية، الاخوان في مصر وسورية من جهة اخرى- إذن..
إذن.. ما القوة التي يمكن الرهان عليها بديلا للجيش وللاخوان وجميع أقسام البرجوازيات العربية التي هي إما خائنة أو عاجزة؟ الاجابة على هذا السؤال ستوجهنا إلى البحث بدقة عن القاعدة الطبقية التي نرتكن إليها بشكل واضح دون رتابة الصكوك المجانية من عينة “الجماهير، الطبقات الشعبية.. إلخ”، هل نبشر بحلف طبقي واسع لكافة الأجراء والعاطلين؟ وما مركز هذا الحلف؟ وأي التناقضات قد تعصف به وهو وليد؟ هل نركز على مركزية دور الطبقة العاملة الصناعية؟
إن الأمر سيبدو بعد برهة قصيرة اختبارا للسرعة في ترتيب الأولويات ولن يتحقق هذا قبل خلق المنظور المتماسك أصلا الذي ننفذ عبره للمشكلة ونتصور عن طريقه الحل ونصوغ بوضوح رؤية يسارية تجذب الجماهير إلى مسار فيه من التوازن بين التناول المحلي والتعاطي الاقليمي والتفاعل العالمي ما يرشحه لكي تتبناه الجماهير تدريجيا عبر انفجاراتها المتصاعدة وباحترام كبير منا لها ولاختياراتها التي ربما لا تعجبنا أحيانا ولكن في انسحابنا عن مخاطرها عزلتنا الأكيدة.
من هنا سوف تكون قضيتنا الأهم هي ترتيب أولوياتنا التكتيكية المباشرة من عينة راية موحدة لليسار في الانتخابات العمالية القادمة- يسار طلابي موسع- يسار مسموع بين صفوف النقابات المهنية..الخ.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. من اجمل ماقرأت، والكاتب متنوّر ونستفيد من رأيه كثيراوهو يكثّف افكاره بشكل دينامي ويثير تساؤلات تشغل بالي كثيرا وكأنما هو يدغدغ ضمير وعيي السياسي والوطني والاجتماعي والاقتصادي والتقييمي في هذه الفترة التي تحتاج الى مثل هذه التساؤلات والتقييمات الجوهرية.
    شكرا على هذا المقال يا قديتا
    راضي شحادة
    مسرح السيرة

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>