“وأنهم يقولون ما لا يفعلون”/ مجد محسن

فنانو “القائمة السوداء” الذين رأوا في الثورة المصرية فتنة وتخريباً، لم يكونوا أفضل من المسؤولين الذين استغلّوا الناس وتسلّقوا على ظهورهم ليصلوا ذات القمة التي وقعوا منها

“وأنهم يقولون ما لا يفعلون”/ مجد محسن

|مجد محسن|

تركت ثورة مصر انطباعات كثيرة عندي، فاقت في تأثيرها عليّ أكثر الروايات ملحمية. رأيت أموراً لم أعهدها إلاّ في الأدب الذي يحاول عادة أن يقدّم صورة لما يمكن أن يكون متصدّياً بذلك للإحباط والبؤس الذي تفرضه “واقعية” الحياة البعيدة عن الحلم. رأيت في ثورة مصر عدالة شعرية أو إلهية كما يسمّيها البعض، وصناعة أبطال، وشخصيات تتبلور متحوّلة من شرنقات قبيحة إلى فراشات، وجمال روح عصيّاً على الوصف.

رأيت أيضاً معادن الناس على المحكّ. فمنها ما لمع وأشرق، ومنها ما تكسّر وانطفأ، بل كان أقرب إلى الصدأ المتعفّن. من بين المواقف التي أذهلتني – وهي كثيرة (وضعها بعض الشباب المصري في قائمة سوداء على الفيسبوك) – كانت لبعض الفنانين المصريين “العظماء” والمحبوبين الذين رأوا في الثورة فتنة وتخريباً ونكراناً للجميل (لا أعرف جميل من!) وتبعية لجهات أجنبية… لا أرى داعياً للخوض فيها لأن معظمنا شاهدها أو سمع عنها.

لكن من بين أكثر تصريحات هؤلاء الفنانين غرابة (أحاول هنا الاحتفاظ بالأدب) كانت تلك التي لم تفهم سبب الثورة، مستهجنة على الشعب انتفاضته للمطالبة بحقوقه وفي مقدمتها كرامته. المأساة أن معظمهم بنى شهرته وثروته وشعبيته على شقاء الناس وبؤسهم، مستغلّين مرارة الواقع لرسم خيال أجمل وأفضل وأعدل. صدّقهم الناس عندما ادّعوا أنهم يعبّرون عن هموم الشعب ويحاولون صادقين وبأمانة تغيير الواقع بأدواتهم الخاصة. اشتروا إسطواناتهم وحضروا أفلامهم وقرأوا كتبهم.

عدد من هؤلاء الفنانين يحاولون الآن (وحاولوا في الأيام الأخيرة من الثورة عندما فهموا أن الأمر قد حُسم) تبرير خطئهم متذرّعين بأنهم لم يكونوا مدركين مدى سوء الحال واستشراء الفساد والبطش!! كنت أرى ذلك وأفكّر “رجعنا إلى “استهبال” الناس والاستخفاف بعقولهم ومشاعرهم. هؤلاء الذين غنّوا ومثّلوا وكتبوا عن الفلاحين البسطاء المطحونين في مواجهة الإقطاعي الحقير، والعمّال الكادحين المسحوقين في مواجهة “المؤسسة” الفاسدة، والناس التي تشقى وهي تقف في طابور “الجمعية” لشراء “العيش والفراخ” أو تتعربش الحافلات العامة المهكّعة…

لقد راكم هؤلاء الفنانون ثراءً على ثراء برسم هذه الصور، والادّعاء أمام الناس أنهم يفهمونهم ويقفون إلى صفهم. لكن تبيّن الآن أن العديد منهم لم يكونوا أفضل من المسؤولين الذين استغلّوا الناس وتسلّقوا على ظهورهم ليصلوا (وها هو القدر يقول كلمته التي لا ترحم!) ذات القمة التي وقعوا منها.

في الأردن ليس لدينا الوسط الفني الموجود في دول أخرى في المنطقة، وفي مقدمتها مصر. ومع أنني قد لا أهتم لآراء الفنانين الأردنيين بما يحدث في بلادنا، إلاّ أنني أعرف وأفهم مكانة الفنان المصري بين جمهوره وشعبه. وما حصل من هؤلاء الفنانين في أبسط مستوياته خيانة للمهنة والنفس والشعب… ولا أعرف إن كان الشعب سينسى و/أو يسامح!


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

4 تعقيبات

  1. قصدك يمثلون ما لا يفهمون..

  2. اشكرك يا مجد على هذه المقالة فانا احسست انها صاردة من صميم قلبك كوني اعرفك معرفة شخصية… فانا اوافقك الرأي تماما فالصورة التي ارفقتيها في مقالك هي احسن تعبير عن فنانو القائمة السوداء كما اسميتيهم (لاارى ..لا اسمع ..لا أتكلم) فكم انا آسفة ان هذه الفنة من الناس هم اكثر من مثل الواقع المصري وفقره وقله حاجته في افلامهم ومسلسلاتهم وكانوا يبكون تأثراً بالشخصية ولكن على ارض الواقع الامر مختلف فاصبحت رسالتهم هي جني الاموال لا تحسين الواقع ,النفاق وليس الوفاق ولكن لم يعلموا ان هناك خالق عظيم يفوق في عظمته كل الموازين فهو من أخذ بيد هؤلاء الشباب ونصرهم مع قلة حيلتهم ….فطوبى لهم …..

  3. بسم الله اولأ وبسم الثورة ثانياً

    اسمحي لي في البداية أن أبدأ تعليقي في اقتباس من بداية المقال أعلاه

    ((رأيت أيضاً معادن الناس على المحكّ. فمنها ما لمع وأشرق، ومنها ما تكسّر وانطفأ، بل كان أقرب إلى الصدأ المتعفّن. ))

    لقد وضعت يدك ِ على جوهر ما حصل إن أردنا أن نتكلم عن الوسط الفني و الثقافي في مصر على أنه ( النُخبة ) أو ( طليعة المجتمع ) أود أن نعود في الزمن للخف قليلاً في أحداث الحرب على غزة و أحداث مباراة كرة القدم التي جمعت منتخب مصر و منتخب الجزائر لاحظنا جميعاً غياب الوسط الفني و الوسط الثقافي إلاً من ( رحم ربك ) بل كان موقف الكثير منهم مُخزي جداً وأنحاز إلى القطرية الضيقة بل عفن الوعي وصدأ الذات بل بمعنى أخر أنكشف ما يحمل بمرآة روحه , وهُنا أتساءل من يحمل أجندة إقليمية ضَيقة هل يفهم ما معنى ثورة على الظُلم مَن كان أعلى فضاء له موالاة الحزب الحاكم هَل يفهم لغة الرصيف وأجراس الزقاق .

    المال و الشهرة لا تُغير المعدن الطيب و الأصيل , بل تَُكشف عن أصل ذات المعدن , إن أكثر الناس شهرة الزعيم العربي الأوحد جمال عبد الناصر رحمه الله على روحه , كشفت لنا الشهرة في روح عبد الناصر أنه لم يتَغير بل انحازت إلى الشارع .

    ينسى الكثير أو يتناسى الأغلب منهم أن الفن رسالة قبل أن يكون مهنة و أن المثقف هو الأمين على روح الأمة و الناطق الرسمي للشارع و الرصيف.

    الثورة جميلة كانت وما زاد جمال الثورة جمال أنها لم تنتظر ( عهر الوسط الفني و الثقافي ) لأن يُساند أو ينطق باسمها .

    مع العلم ظَهر في الشارع المصري بعض المُثقفين و الفنانين الذين التحموا في الشارع ولم تكن الشهرة أو المال عثرة في طريق التحامهم بل العكس تماما كانت مُساندة للشارع .

    هنيئا لكُل من راهن على الشارع هنيئا لكُل إنسان تشرب لغة المقاومة كَثقافة هنيئا لكل إنسان أنحاز إلى الحق .

    كل الخزي و العار إلى من راهن على الظُلم و الطغيان وإلى كُل إنسان كان ( إمًعة ) يَميل حيث يميل الشارع , فإنه في كل مرة سيقف فيها أمام المرآة سيبصق بالضرورة على وجهه .

    هنيئا إلى رُوحك يا مجد راهنت ِ وكَسبت ِ الرهان

    يوسف أبو جيش

  4. انا اتفق معك، اصبح هؤلاء الممثلين وغيرهم اثرياء بسبب المقموعين، صدمونابنفاقهم، لكن التاريخ لا يرحم ولا ينسى!
    اشكرك على هذه المقالة الرائعة التي لخصت ما نحس به.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>