يوميات من ميدان التحرير/ أحمد زغلول الشيطي

فصل من كتاب: “مائة خطوة من الثورة.. يوميات من ميدان التحرير” يصدر في الأسبوع المقبل، في القاهرة عن دار “ميريت” وفي بيروت عن “دار الآداب”

يوميات من ميدان التحرير/ أحمد زغلول الشيطي

|أحمد زغلول الشيطي|


ساعة الدكتاتور الأخيرة

الخميس 10 فبراير، الساعة 11 صباحًا

أحمد زغلول الشيطي

فنجان القهوة الصباحي في يدي، بينما أطمئن على الميدان من البلكونة، كل شيء في مكانه كالمعتاد، عاد عم حندوقه السايس وولده الشاب إلى الشارع، وضع الجراج حاجزًا حديديًا متحركًا أمام بابه بعرض الشارع لتنظيم حركة دخول وخروج السيارات، عما قليل سأنزل لأشارك في اعتصام بالمجلس الأعلى للثقافة، أحدث الفئات الوافدة إلى الاحتجاجات، بعد تفكير في عوائق السير اخترت أن أذهب إلى المظاهرة سيرًا على القدمين، دخلت إلى ميدان التحرير من بوابة قصر النيل، كانت المظاهرة لا زالت في لحظة استقبال صباح جديد، وكانت الحشود في حالة صباحية، تتزايد الحشود إلى أن تصل للذروة نحو الساعة الرابعة مساء، خرجت من البوابة المجاورة لمبنى وزارة الخارجية القديم، باعة كثيرون خارج البوابة يبيعون أعلامًا بكل الأحجام وبسكويت وشيبسي وسمسمية وفولية، وسجائر و كروت صغيرة ملونة معدة للتعليق على الصدر عليها شعارات مثل مصر فوق الجميع، في مدخل الكوبري سيارات كثيرة تتحرك بصعوبة، حركة السير في اتجاهين. جماهير كثيرة على الكوبري، كان مظهر المشاة إما قادمون للمظاهرة بأعلامهم ولافتاتهم أو خارجون منها، سرت يمين دار الأوبرا رأيت ثلاثة شباب يسيرون وحدهم ويرددون هتاف “يسقط يسقط حسنى مبارك”، الغريب أنهم كانوا يسيرون عكس اتجاه مظاهرة التحرير، كنت أسير بدوري عكس اتجاه السيارات، رأيت بلاعة صرف صحي طافحة يتصاعد منها مياه الصرف المكتوم تحت الغطاء الحديدي، و رائحة حادة في المكان، رجحت أن البلاعة لن تجد أحدا ليصلحها، فالنظام يتهاوى، فقط يسيطر على مقعد الحكم والإذاعة والتليفزيون وبعض الصحف فضلا عن الجيش ذي الموقف الغامض، كان الباب الحديدي للمجلس مغلقًا، رأيت المظاهرة بالداخل أمام مبنى المجلس، حاولت الإشارة والمناداة ليفتح لي أحد الباب دون جدوى، جاء رجل طاعن في السن من خلفي، و سألني هووه فيه إيه؟ قلت له مظاهرة في المجلس والباب مغلق، نصحني أن أسير إلى نهاية السور وانحرف يسارا، وأنني سأجد ممرًا على اليسار أدخل منه إلى المجلس، سرت دون أن أسأله هو ماذا يريد؟ كأنه وُجد في هذه اللحظة بالذات ليرشدني كيف أدخل للمظاهرة، بالفعل دخلت من الممر إلى المظاهرة المصطفة على هيئة قوس، كانت مكونه من نحو خمسين شخصًا تقريبًا، كانت اللافتات والشعارات مطابقة لما هو في الميدان – الشبان الذين تناوبوا قيادة الهتاف في منتصف القوس لم أعرف أيًا منهم – كانوا يشبهون شباب الميدان، فكرت هل جاءوا هنا ليقودوا المثقفين والكتاب، ويساعدونهم على صياغة رفضهم داخل المظاهرة، هؤلاء الشباب يقودون الشعب كاملاً، شيء مذهل، لا أصدق ما يحدث، لماذا كان متاحًا لهؤلاء أن يضطلعوا بهذه المهمة، دون ادعاء دون تنطنه دون تخوين، كيف تجاوزوا كل أمراض النخب السابقة، كيف أيقظوا من غرق في اليأس أو في الحسابات المشؤومة، أو في الطرق المسدودة لتدمير الذات، هذه العبقرية البسيطة كالماء والهواء، “ارحل يعنى امشي ياللى ما بتفهمشي”، رأيت ممن أعرف: سيد البحراوى، منصورة عز الدين، محمد عبد النبي، حمدي الجزار، هشام أصلان، هويدا صالح، سمر نور، محمد صلاح العزب، سيد ضيف الله، هيدرا جرجس، سيد الوكيل، شعبان يوسف، سامية أبو زيد، طه عبد المنعم… ” ارحل” سمعت محمد عبد النبي يهتف هتاف التجريس الشهير في ميدان التحرير “حلو يا حلو مبارك شعبو حلو”، ” دلعو يا دلعو مبارك شعبو خلعو”، والكتاب والمثقفين يرددون وراءه أمام مبنى المجلس ثم إشارة يد من سيد ضيف الله بأن ننطلق إلى ميدان التحرير لننضم للمظاهرة، وبالفعل انتظمنا في صفوف وسرنا في الشارع باتجاه كوبري قصر النيل، قبل الوصول إلى الكوبري أوقفنا الشاعر أحمد سويلم أمام البوابة الرئيسية للأوبرا انتظارًا لمظاهرة اتحاد الكتاب القادمة من الزمالك، وقفنا نردد الهتافات، كانت كاميرات كثيرة تسجل الحدث، وكان يقف إلى جواري كل من منصورة عز الدين وهشام أصلان، كنت أحمل لافته من كلمة واحدة “ارحل”، التحمت بنا المظاهرة القادمة من الزمالك ودخلنا إلى كوبري قصر النيل على يسار الكوبري، عكس اتجاه السيارات، هبت نسمة شتوية باردة حركت مياه النيل رصاصية اللون، رأيت لأول مرة واجهة مبنى الحزب الحاكم المطلة على النيل محترقة، خالجني الشعور بأن حسنى مبارك سيرحل، وأنه لم يعد هناك مفر من رحيله وإلا فعلى كل من شارك في الثورة أن يرحل، لا يوجد حل آخر، وأعتقد أن هذا ملمح هام من ملامح هذه الثورة، هو أنها أحرقت كل مراكبها وراءها تباعًا حتى لم يتبق لها أي وسيلة للتراجع، من بوابة قصر النيل الأمنية استقبلتنا تشريفة الميدان… “مرحب مرحب بالأحرار يالا انضموا للثوار”، راحت المظاهرة تلتحم بالموج البشرى داخل الميدان وتذوب فيه وبقيت أنا و منصورة وهشام، والعزب، وسمر نور، وهويدا صالح في دائرة وحدنا بعيدة نسبيًا عن الزحام، ثم سقط مطر غزير فرحنا نتجه تحت المطر إلى شرق الميدان تحت شرفة مطعم كنتاكي المغلق منذ بدء المظاهرة حتى يهدأ المطر.

خرجنا من بوابة شارع طلعت حرب للإفطار وتناول القهوة على مقهى زهرة البستان ثم العودة للمظاهرة، دارت المناقشات في المقهى حول تحرك مجموعة من المتظاهرين لأول مرة إلى قصر عابدين، وحول قيادات المظاهرة، وحول تفاهة من تتصل بهم وسائل الإعلام المصرية والعربية كممثلين عن شباب الانتفاضة، وحول تشبث مبارك بالحكم، وتهديد عمر سليمان بالانقلاب العسكري، وحول التوقعات عن مليونية غدا الجمعة، وإنها ستتجاوز جميع الحدود، وأنها ربما كانت الحاسمة في رحيل حسنى مبارك، قلت: “إن هذه الحركة قد حولت أجزاء كبيرة من أدبنا إلى أدب غير قابل للقراءة”.


الخميس11 فبراير

الساعة 5,00 مساء- الشقة

غلافا طبعة "ميريت"

بعد أن عدنا أنا ومنصورة ومحمد عبد النبي وسمر من أمام مجلس الشعب، ذهبت منصورة إلى بيتها، وانضمت سمر إلى مظاهرة التحرير، وذهب محمد عبد النبي إلى موعد، ورحت أشق طريقي وسط الطوفان البشرى إلى البيت في حالة شديدة من الإرهاق، اتصل بي صحفي من موقع الأهرام الإلكتروني يسألني حول توقعاتي عن جمعة التحدي وما إذا كانت ستشهد رحيل حسنى مبارك، اندهشت، هل يمكن نشر هذا الكلام في موقع تابع للأهرام؟ اللهم إلا إذا كان الصحفي يُعد موضوعًا للنشر بعد رحيل مبارك لتيقنه من رحيله، قلت إن نظام ثورة يوليو عمره 62 سنه، و إنه أنتج نمطًا من السلطة لا زال هو السائد إلى اليوم، وإن هذه الثورة تمثل قطيعة كاملة مع هذا النمط من السلطة، وإن هذا النظام الذي شاخ وهو يحكم، ولازال في جعبته الكثير من حيل التآمر، وإنه سيواصل تشبثه بالحكم خوفًا من المحاسبة ومن ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية، ومن مصادرة الأرصدة المهربة، وإنني لا أتوقع أن يسقط مبارك يوم الجمعة وربما حدث ذلك خلال أسبوع، كانت هناك توقعات ضخمة عن جمعة التحدي أو جمعة الزحف، وكنت أقلق كثيرًا من رفع سقف التوقعات خوفًا من الإحباط.


خبر عاجل

الساعة 5,20 مساء

خبر عاجل على الجزيرة حول انعقاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كانت هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها اصطلاح المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ضمن سياق الانتفاضة وفجأة قطع مذيع الجزيرة كلامه وقال ننتقل إلى التليفزيون المصري، ظهر مذيع شاب يرتدى بذلة مدنية ليقرأ البيان رقم واحد، “انطلاقًا من مسؤولية القوات المسلحة والتزاما بحماية الشعب ورعاية مصالحه وأمنه، وحرصًا على سلامة الوطن والمواطنين ومكتسبات شعب مصر العظيم وممتلكاته، وتأكيدًا وتأييدًا لمطالب الشعب المشروعة… انعقد اليوم الخميس الموافق العاشر من فبراير 2011 المجلس الأعلى للقوات المسلحة لبحث تطورات الموقف حتى تاريخه. وقرر المجلس الاستمرار في الانعقاد بشكل متواصل لبحث ما يمكن اتخاذه من إجراءات وتدابير للحفاظ على الوطن ومكتسبات وطموحات شعب مصر العظيم”.

رأيت هذا انقلابًا عسكريًا، سمعت الميدان في حالة هياج شديد ثم ساد للحظة هدوء غير عادي، كنت في حاجة لأحد أكلمه، اتصلت بمنصورة قلت لها إنني أخشى أن يكون هذا هو الانقلاب العسكري الذي بشر به عمر سليمان، فالبيان رقم واحد هو قرين الانقلابات العسكرية في العالم الثالث، وعندنا البيان رقم واحد لثورة يوليو1952 بصوت أنور السادات، أيدت منصورة قلقي ورحنا نبث قلقنا على الفيس بوك، ورأيت كثيرين عندهم نفس القلق، كنت أتابع الجزيرة والفيس بوك في وقت واحد، كان مذيع الجزيرة على اتصال مع ناشط مباشرة من ميدان التحرير، قال الناشط “إن أحد الضباط قال له إن مبارك تنازل للجيش عن السلطة، وإنه وربما يكون قد غادر البلاد”، ساد هياج وموجات فرح كبيرة في الميدان نقلتها الجزيرة، ووصلتني من البلكونة، كان المتظاهرون في الميدان يتابعون أخبار الجزيرة لحظة بلحظة على شاشة منصوبة على عمارة هارديز شرق الميدان، وعلى سماعات قوية في جميع أركان الميدان، وكانوا يصنعون لها الأخبار لحظة بلحظة في بث مباشر متصل، فإذا ما أذاعت خبرا انتظرت ممن في الميدان الرد الجماعي لتنقله مباشرة للعالم ولباقي المتظاهرين في أنحاء مصر.

خبر عاجل آخر على شاشة الجزيرة : رويترز عن الأمين العام للحزب الوطني الحاكم في مصر: الخيار الأفضل لمبارك هو التنحي وأتوقع مغادرته اليوم. كان هذا هو الخبر الصاعق فلا يمكن لأحد رجاله بيعه هكذا علنا ما لم يكن الخبر حقيقيًا، في اتصال آخر مع الناشط وائل غنيم يقول إن رحيل مبارك مطلب باعتباره رمزًا للنظام وإنه ينتظر رد فعل الجيش.


خبر عاجل على الجزيرة

7,25  مساء

الرئيس الأمريكي أوباما ردًا على أسئلة الصحفيين: لابد أن ننتظر لنرى ماذا يحدث في مصر.

إذًا الحسم الليلة، استباقًا لجمعة الزحف إلى جميع المواقع الحيوية في جميع أنحاء مصر والقاهرة، أكيد قدر النظام أنه سيهزم، وقرر التعقل والتراجع في اللحظات الأخيرة، سأنزل إلى الميدان خلال دقائق.

عاجل آخر على الجزيرة الساعة سبعة ونصف: الرئيس مبارك يعقد اجتماعًا الآن مع رئيس الوزراء – أكيد يودعه ويسلمه المفاتيح –  وأنباء عن خطاب لمبارك الليلة، لابد أنه خطاب التنحي، أجهدت نفسي في تصور أي لغة سينطق بها هذه العبارات، وكيف ستكون ملامحه وهو يعلن ذلك هل ستطاوعه ملامحه التي اعتادت الخداع طوال ثلاثين عامًا أن تواجه لحظة الحقيقة، ستكون ليلة أسطورية، ليلة انتصار الثورة، ولكن ما حقيقة موقف الجيش؟


ميدان التحرير

7,45مساء

كان الميدان في كامل أبهته، رواد ساعة الذروة لم ينصرفوا كالمعتاد مع قدوم المساء، تزايدت المنصات ومكبرات الصوت، نشأت منصة جديدة على ناصية شارع قصر النيل أمام “ايجيتراف” للسياحة، الأعلام منتشرة في كل مكان، وتلوح بها أيدي الجميع، أغاني فرحة “صورة صورة كلنا كده عايزين صورة”، وشادية تشدو “أصله ما عداش على مصر”، والناس يتمايلون على الإيقاع، يرقصون ويغنون، شاب يرسم العلم المصري على الوجوه، تنبيهات بضرورة عدم الانصراف من التحرير قبل تحقيق كامل أهداف الثورة، رحت أشق طريقي وسط التكتلات البشرية إلى شرق الميدان نحو الشاشة الضخمة المنصوبة على عمارة هاردييز، بدا الوصول دربًا من المستحيل، كان الوقت يمر بتثاقل، وأنا لم أنل كفايتي من الراحة، كانت الحوائط البشرية تشكل حواجز لضبط حركة الذهاب والإياب داخل الحشود المتلاصقة، شعرت بالاختناق أكثر من مرة، رحت اشرئب برأسي بحثًا عن بقعة هواء نقية، أفضى زحفي بين الحوائط البشرية إلى موطئ قدم في زاوية صعبة جدًا أمام الشاشة الكبيرة، بحيث إذا تحركت رأس حركة بسيطة حجبت عنى الشاشة بالكامل، ارتضيت بمكاني ورحت انتظر، أستمع للأغاني وانتظر، مدير المنصة يذيع عن أطفال تائهين من يجدهم يحضرهم عند الإذاعة، أو يقول بلاغات من نوع نهى إبراهبم، مايسه السعيد تنتظرك عند بوابة طلعت حرب، لم أكن أعرف موعد الخطاب، كانوا يرجحون انه سيكون في العاشرة، لا زال الوقت مبكرًا، ساعة تقريبًا، كيف سأقضى الساعة في هذه البؤرة، نظرت حولي للكتلة البشرية التي أقف في مركزها، من الجنون التفكير في مغادرتها، لا منفذ، وإذا استطعت الوصول إلى أحد الممرات المضمونة بالحوائط البشرية، ربما أذيع الخطاب قبل خروجي منها، وقفت أبدل ثقل جسدي من ساق إلى ساق، والإذاعة لا تكف عن تشغيل الأغاني، وإذاعة التنبيهات عن التائهين أومن ينتظرون بعضهم، وتطور الأمر قليلا بأن قال مدير المنصة “مطلوب نجار حالا إلى جوار الإذاعة”، سرعان ما قذفت الكتلة البشرية إليه بنجار كأنهم كانوا في انتظار الطلب، أما أنا فقد كنت حانقًا على مبارك رئيسًا ومتنحيًا، فهو متعب في الحالتين، ومن ثم اتخذت قراري بالخروج من الكتلة البشرية، لا أريد أن أرى وجهه، سأكتفي بالاستماع إليه من أي سماعة من السماعات الكثيرة المنتشرة في الميدان، شققت طريقًا للوصول إلى ممر للخروج، كان يبدو أن الميدان قد تحول كله إلى كتلة بشرية واحدة لا منفذ بها، وكان هناك المخادعون الذين يخرجون من اتجاه الخروج إلى اتجاه الدخول بالنفاذ من تحت أيدي الحائط البشرى فيربكون الحركة ويعطلونها، رحت أتقدم ببطء ملتصقًا فيمن هو أمامي وممسكًا بكتفيه، ومن هو خلفي يفعل مثلي، بطلوع الروح خرجت إلى بقعة أقل ازدحامًا، تنفست هواء رطبًا ثم رحت أعدل من وضع ملابسي، واتجهت إلى سماعات معلقة بالقرب من كنتاكى، ووقفت على حافة الحشد، سمعت تنبيها شديدا بالإنصات، كان خطاب التنحي قد بدأ، كانت الساعة حوالي العاشرة والنصف، كان صوته المعهود، مصابًا بالوهن قليلا، مع الاحتفاظ بالرطانة الرسمية بوقفاتها ونقلاتها المعتادة، لم أفهم في البداية ماذا يقول إلى أن سمعته يستخدم عبارات من نوع سأعمل وسأكون، وخلال الأشهر المتبقية من ولايتي، رأيت الذهول على وجوه من يحيطونني وهم ينظرون في الظلمة الخفيفة تجاه مصدر الصوت، اندلعت موجة هياج أسكته الجميع بسرعة للاستماع لباقي الخطاب، فوجئت بمن حولي يرفعون أحذيتهم عاليا كأنما سينقضون بها على من يتكلم داخل السماعات السوداء الضخمة، سادت موجة حزن وغضب واختناق، كان الرجل يتكلم باعتباره باق في السلطة، وأنه أصدر تكليفات لمجلسي الشعب والشورى، وأنه سيعمل في المدة المتبقية من ولايته على نقلٍ سلس للسلطة، لقد كان يهزأ بالجميع، قلت لمن يقف إلى جواري بمرارة، هذا الرجل لن يخرج بإرادته أبدا، شعرت بساقي غير قادرتين على حملي، وأنني على وشك أن أتهاوى على الأرض، سادت لحظة حيرة كنت أرى الوجوه وقد غمرها الحزن والإحباط، مشاعر متضاربة كانت تجتاح الكل ما بين الحزن والحنق والإحباط، اندلعت موجة غضب عارم شملت الموج البشرى داخل الميدان ثم سمعت هتافًا بدا أنه الحل الوحيد الممكن “بكره العصر هنكون في القصر”، اندفعت كتلة بشرية كبيرة للخروج من الميدان من مخرج عبد المنعم رياض، وهى تردد “دلوقتى… دلوقتي”… رغم ذلك كنت أرى الحيرة على الوجوه، لا يمكن ترك الميدان، والذهاب إلى قصر العروبة، للحظة انقسم الميدان إلى كتل عديدة لمناقشة الأمر، والانتهاء إلى رأي، صرخت “إذا خرجنا من التحرير إلى أي مكان مش هنقدر نرجعه تاني”، وقال آخر “يستفزنا عشان نخرج من الميدان، ويحتلوه”، وصرخ رجل أربعيني بدين، “الميدان تحت جنازير الدبابات، مش هنسيب الميدان”، بالرغم من ذلك كانت الكتلة البشرية الذاهبة للقصر في طريقها إلى بوابة الخروج، انطلق رجل بمايكروفون خلفهم وراح يخطب فيهم” الميدان الميدان مش هنسيب الميدان” دون جدوى، فقد ركبهم الغضب وقرروا الوصول بالمواجهة إلى نهايتها، بدا لي أن الميدان يتمزق وشممت رائحة النهايات، أكاد أتهاوى، رحت أجر رجلي تجاه مخرج قصر النيل جارًا خيبة وإحباطًا كبيرين، وأفكر أن الدكتاتور المعتوه لا يعنيه أحدا سوى نفسه، وأنه لا يهتم إذا ما ضرب الحرس الجمهوري التابع له الناس، لم أصد ق كلامه الزائف عن الشهداء، فوجئت بيد مجدي على كتفي وهو يهزني “ما يهمكش يا أحمد الناس دي تستحق تشوف حلمها”، راحت دمعة تشق طريقها رغمًا عنى، حارقة ملتاعة، ثم انقلبت إلى مدخل العمارة وارتميت على جدار الأسانسير وأنا اشعر بدوار ورغبة في القيء.


بعد منتصف الليل

الجمعة 12,30

حين عدت إلى البيت كان التليفزيون كما تركته مفتوحًا على قناة الجزيرة “قمر هوت بيرد”، وهو التردد الذي لم يفلح النظام في التشويش عليه، أطفأت الأنوار وارتميت بملابسي على كنبة “الليفنج” بينما يتناهى إلىّ من الجزيرة صوت البث المباشر من الميدان، استغرقتني غفوة، أفقت على صوت جرس الباب يرن بإلحاح، أنا عادة لا أنتظر أحدًا، خاصة في هذا الوقت من الليل، كان فتح الباب مغامرة خطرة في مثل هذه الأيام، يمكن أن أفتح الباب، وأفاجأ بسلاح أبيض في جانبي، أو أفاجأ باعتقال من نوع ما، مباحث أمن دولة، شرطه سرية، بلطجية، شرطة عسكرية، ولن يهتدي أحد إلى مكاني، ولن يشعر أحد باختفائي إلا بعد مدة طويلة، فأنا أقيم وحدي، ولا يوجد من يتتبع خط سيرى، وقفت حائرًا أمام إلحاح الجرس، لا زال الصداع يقبض على مؤخرة رأسي، دفعني الفضول وصمت الجرس أخيرًا للنظر من المشربية الدائرية الصغيرة في الباب معتمدا على أن الباب مغلق بمزلاج حديدي قوى سيستغرق فسخه الوقت الكافي لطلب نجدة من الشارع، كان رجل متوسط الطول يبرز كرشه من سويتر قاتم اللون ويلف كوفية حول رقبته يقف مترددا أمام السلم، رحت أميز بصعوبة وجهه، كدت أغلق المشربية وأعود حين رأيته ينظر في الساعة بإرجاع رأسه إلى الوراء وإبعاد يده بشده مقاوما قصر النظر، كانت هذه الحركة المصحوبة بمط الشفة السفلى لصديقي القديم عادل الجندي، رحت أفتح الباب سريعًا، “أهلا يا راجل”، كانت مفاجأة حقيقية، كيف عرفت مكاني، بدا عليه الارتياح والعتب بسبب بقائه طويلا أمام الباب بينما صوت الجزيرة يتناهى إليه، قلت “معلش كنت نايم، أنا بنام والتليفزيون مفتوح”، قال: “أنت أعطيتني العنوان من شهور، أنا جيت من دمياط مع اثنين أصدقاء من المحامين لزيارة ميدان التحرير، وبحثت عنك ولم أجدك قلت أعملك مفاجأة”، كنت مندهشًا فالجنيدي لا يحب كثرة التنقل ولا يحب القاهرة بزحامها وغبارها قلت: “آخر شيء كنت أتوقعه”، وتذكرت كيف حلمنا في مراهقتنا بالبحث عن حزب شيوعي سري ننتمي إليه لنقوم باغتيال السادات، لكن مساعينا فشلت فشلاً ذريعًا، واغتال السادات بشر آخرون، “بجد إيه الدافع القوى اللي دفعك تغادر الحصن في دمياط وتيجي القاهرة؟” قال: “كنت عايز أشوف وجوه العيال بتوع التحرير عن قرب، وبيختلفوا عننا في إيه”، قلت: “وإيه الإخبار؟” قال: “شفت الشباب اللي في الميدان، دي عيال هفتانه جدا زي ما يكون ما أكلوش من شهرين، لكن فعلاً اللي عملوه مذهل وغير متوقع”، سألته “إيه أخبارهم دلوقت؟” قال: “إحباط من الخطاب وغضب”… كان الصداع يتقدم بثبات إلى مقدمة رأسي، ارتميت مجددًا على الكنبة قلت له: “عادل البيت بيتك، ادخل اعمل لنفسك حاجة، قضيت يومًا صعبًا في الميدان”، قال: “لا أنا نازل، الجماعة بيستنوني تحت”، قلت له “بات هنا الليلة”، قال: “مش ممكن أسيب الناس، هنرجع الليلة دمياط”، سألته “أخبار دمياط إيه؟” قال: “مظاهرات يومية، ومتوقع مظاهرة كبيرة غدًا، البلطجية ومؤيدي مبارك يزعمون أن الجيش يحمي مبارك ومش هيمشي ومش هيسيب الحكم”، قلت: “آه”، كان الصداع يزيد رغبتي في القيء ويشعرني أن عيني اليسرى ثقيلة، وكأنها مركز الصداع، حتى أن الدموع كانت تتجمع بها وتسيل رغمًا عنى، قال فجأة “عارف العيال دول نجحوا ليه؟” قلت “ليه؟” قال “الجيل دا حل مشاكله مع الجنس وارتاح، دخلوه من أقصر الأبواب، ومن غير لف ولا دوران، أما إحنا، التربية والنظام (حلّونا) بدري، ياراجل أنا اقتربت من الخمسين، وعمري ما عملت واحد يكيّفني”، انفجرت بالضحك، شعرت بمكونات رأسي ترتج، لكنى أيدته “أيوه ما فيش عندهم مشكلة مع الجنس ولا أوهام بخصوص الأمور الحياتية الصميمة”، استأذن ليلحق بأصحابه، قلت: “كان نفسي أنزل معاك لكنى متعب جدا”، أغلقت الباب، عدت هذه المرة إلى السرير، والسؤال يتردد في رأسي لماذا لم نكن نحن مثلهم؟ وهل أمامنا فرصة لنعيش مثلما عاشوا.


الجمعة 11 فبراير، الساعة 12,10 ظهرًا

جمعة التحدي، أو جمعة الزحف إلى مؤسسات الدولة، القصر الرئاسي، البرلمان، الإذاعة والتليفزيون، وزارة الداخلية، بعد خطاب مبارك المهزلة، على البعد، من البلكونة أرى الحشود وقد فاضت عن ميدان التحرير وامتدت حتى ميدان طلعت حرب، سمعت بيان القوات المسلحة، يتبنى إجراءات حسنى مبارك التي تعهد بها في خطابه بالأمس، ويضمن تنفيذها، راقبت الموقف على شاشة التليفزيون وبالنظر من البلكونة، نزل سهم الله على المتظاهرين بعد بيان القوات المسلحة رقم 2، فالجيش يتعهد بضمان تنفيذ إجراءات لا تمثل مطالب الميدان، أسمع من البلكونة خطبة صلاة الجمعة، هل سيقول المتظاهرون كلمتهم بعد صلاة الجمعة؟ جو ربيعي مشمس رغم برودة فبراير، ما هو موقف الميدان الآن؟ نظام نشأ منذ 62 عامًا يقف الآن عاجزًا ومتلاعبًا بالناس، لا أصدق ما قاله حسنى مبارك بالأمس، هل هو مريض؟ تحدث أيضًا عن الإملاءات الأجنبية التي لا يقبلها؟ وهو العائش فيها، بالأحرى لم يدعهم يحتاجون إليها أبدا، سوى هذه المرة، بعد أن أصبحت مشاكله أكبر من فوائده، أخيرًا لم يسارع إلى تنفيذ ما يريدونه قبل طلبه منه؟ كيف يرى الدكتاتور الثلاثين عاما الفائتة الآن؟ كيف يرى أصدقاء الماضي، ماذا يريد أن يقول لهم ولنا الآن لو أنه قرر أن يتكلم أخيرًا بصدق دون خطاب معد سلفًا بمعرفة موظف كان تلميذًا في الإعدادية حين ارتقى هوى سدة الحكم؟ إلى أين يذهب بنا في لعبته الأخيرة؟ دعوات صلاة الجمعة تواتيني في بث مباشر من الجزيرة، ما الذي سيحدث ماذا سيعمل هؤلاء الناس الذين أخرجوا كل ما في قلوبهم من أمل؟ وماذا سيفعل الجيش الذي يقف على الحيادً في أفضل الأحوال، أو مساندًا لنظام مبارك إلى النهاية في أسوأ السيناريوهات، وهل الجيش حائر حول كيفية انتقال السلطة دون أن يفقد محوريته التي أضفتها عليه حركة يوليو؟ سأنزل إلى الميدان لأرى الوضع بعد أن تعقد الموقف، الساعة الواحدة إلا عشر دقائق، شاهد عيان للجزيرة يقرر: حالة تأهب قصوى في محيط القصر الرئاسي بمصر الجديدة، وتعزيزات من الجيش على طول طريق صلاح سالم، ونشر قناصة الحرس الجمهوري فوق العمارات القريبة وفوق قصر العروبة، ويؤكد أنه إذا ما حدث أي تهديد للرئيس لن ينجو أي أحد من المتواجدين في محيط القصر الرئاسي بمن فيهم مؤيدي مبارك، الدكتاتور في قصر العروبة الآن، بماذا يشعر في هذه اللحظة؟ بينما يصوب الحرس الجمهوري رشاشاتهم إلى رؤوس وصدور آلاف المتظاهرين حول القصر المحاط بالأسلاك الشائكة؟ ماذا سيحدث؟ كنت على يقين أن الحرس الجمهوري سيضرب في النهاية، فهو سلاح منفصل عن الجيش ويتبع مبارك مباشرة، وأكيد كان حريصًا على إرضائه لضمان الولاء المطلق، خاصة بعد اتجاهه لتوريث ابنه الحكم رغم الرفض الشعبي، الحرس الجمهوري الآن هو خط دفاعه الأخير بعد انهيار الداخلية والأمن المركزي، وإعلان الجيش أن لن يطلق طلقة واحدة ضد المتظاهرين. يقود الديكتاتور الوضع إلى هذه الدرجة الخطيرة حفاظًا على ذاته، لأنه يعلم أنه سيخضع للمحاكمة إن لم يكن بيد مَن في الميدان وحول القصر فبيد أصدقائه القدامى أصحاب الإملاءات الأجنبية، يعلم الدكتاتور أنهم سيبيعونه إذا ما كان ذلك مفيدًا لهم بأي درجة، خاصة بعد أن انكشف الغطاء عن أهوال من القتل والإرهاب والسلب والتزوير، وبعد أن أفاق الناس على أن من يحكمون هم عصابة اختطفت جهاز الدولة واستخدمته في تحقيق مشاريعها الخاصة، لا زال الدكتاتور يلعب لعبته الأخيرة.

من البلكونة أرى الميدان ممتلئًا عن آخره، رغم أن الصلاة لم تنته في الكثير من مساجد القاهرة، يوجد ظن على نطاق واسع أن الجيش في النهاية سيقف صراحة مع مطالب الشعب، وأنا من جبهة المتشككين لسوء الظن المستحكم ما بين المدنيين والعسكريين، سأنزل إلى الميدان، خبر عاجل على الجزيرة: بلطجية يعتدون على المتظاهرين في محيط القصر الرئاسي، وفى الإسكندرية يتوجه المتظاهرون إلى القصر الرئاسي في رأس التين.

لحظة قلقة وتاريخية، دراما كونية، إرادة كسرت حاجز الخوف، ماذا يحدث الآن؟


11 فبراير، الساعة 1,40 بعد الظهر

“سأنزل فورا إلى الميدان”.


11 فبراير، 5,10 مساء

خرجت من الميدان الساعة 4,30 وسط دعوات حول الاستعداد للبقاء في الميدان ستة أشهر، ذهبت إلى سوبر ماركت “مصرية” في شارع صبري أبو علم لشراء احتياجات البيت، ميدان طلعت حرب ممتلئ بالمتظاهرين، أغاني وطنية تنبعث من مكبر صوت في الميدان، مناقشات حول محاولات النظام البقاء في الحكم بأي ثمن، مجموعة من المتظاهرين تلتف حول خطيب إلى جوار تمثال طلعت حرب، ينبه الخطيب إلى أنه لو تمت الاستجابة لما جاء بخطاب حسنى مبارك التي تعهد الجيش بضمان تنفيذها فإن كل المشاريع المشؤومة للنظام ستُنفذ بما فيها مشروع توريث مبارك الحكم لابنه، رغم تمثيلية تفويض عمر سليمان، وسيقولون وقتها إنه جاء بانتخابات ديمقراطية، ونبّه إلى أن خطايا النظام وجرائمه سيتم تحميلها لموظفين وضباط صغار كالعادة، ولن يُحاكم أحد من الكبار، وأن النظام يبحث عن وسيلة للنفاذ من ورطته… حوارات جانبية في الميدان حول أن نَفَسنا أطول منه.

كانت أرفف كثيرة في الماركت شبه خالية، لم أجد أي خضروات طازجة، سلع كثيرة ناقصة بسبب الإضرابات والاعتصامات التي بدأت تتكاثر في جميع المحافظات، ربة منزل تقول للكاشير “لو كان عايز يثبت براءته من الجرائم اللي حصلت كان يقدم استقالته”، رجعت البيت. قابلت منصورة في الميدان، جلسنا على رصيف أمام مجمع التحرير، كانت محبطه من خطاب مبارك بالأمس، بدا أن المشوار لازال طويلاً، أخيرًا رأينا ديكتاتورا مصريًا على طريقة أمريكا اللاتينية، في خريف البطريرك، والسيد الرئيس عند استورياس، غير أن الدكتاتور المصري لم يطبخ وزير الخارجية، فعل ما هو أكثر واقعية وسحرية، أمر الحوت بأن يبتلع جيشًا قوامه اثنان مليون جندي ما بين أمن مركزي، وبوليس بأنواعه بمن فيهم وزير الداخلية، وأمر بنشر جميع مجرمي السجون بدلا منهم، وبالتالي كان مسؤولاً ولأول مرة في تاريخ مصر عن اختفاء صنف البوليس والعسس وخلو السجون من أي مساجين فيما عدا السجن الحربي، رأيت لا فته تظهر لأول مرة في الميدان “مطلوب عمليه جراحية لفصل حسنى مبارك عن الكرسي”، إصرار قوي، فَطِن الناس إلى محاولة الإيقاع ما بين الجيش والشعب، على الجزيرة الآن خبر عاجل: التليفزيون المصري بيان هام وعاجل من رئاسة الجمهورية بعد قليل…

دعوات في ميدان التحرير إلى الاستمرار، رأيت وجوه الناس، تبدي تصميمًا على الاستمرار إلى حين تحقيق الأهداف، وفطنه إلى العصابة التي اختطفت البلد لمدة ثلاثين عامًا، لافتات حول رئيس العصابة وعصابته… عاجل على الجزيرة: نصف مليون في أسيوط يطلبون برحيل مبارك.

أشعر بالقلق، إلى أين سنتجه؟ حاصر المتظاهرون الإذاعة والتليفزيون بالأمس، واليوم قصر العروبة، حوالي ثلاثين ألف متظاهر مرشحون للزيادة بالإضافة لمحاصرة مجلس الشعب ورئاسة مجلس الوزراء، في ميدان التحرير، أعداد مليونية فاضت على جوانب الميدان، كأن القاهرة الخديوية قد تحولت كلها إلى امتداد لميدان التحرير، رأيت مظاهرة أعضاء هيئة تدريس جامعة القاهرة قادمة من ناحية عمر مكرم، دخلت في مناقشة مع مجموعة نساء متوسطات العمر بعضهن محجبات، قلت إن الناس مع الثورة تميل حيث تميل، وإن النائب العام السويسري وافق على التحقيق في طلب تجميد الأرصدة، وإن موقفه سيسير صعودًا وهبوطًا مع موقفنا في الميدان، يعنى مصير حسنى مبارك في أيدنا، جلست منصورة على رصيف أمام المجمع أبدت اندهاشها وهى تقول “قابلت خالي وابن خالي هنا”، ثم أضافت مندهشة: “وسط الملايين دي كلها”، قلت: “إيه رأيك في الثورة اللي بتوصل لأهالينا أسرع من وصول كتبنا إليهم؟”

قضيت نحو ساعتين ونصف من 2: 4,30 جلست على الرصيف في مدخل شارع البستان، شربت شايًا رديئًا تحدثت مع شخصين يجلسان إلى جواري على الرصيف، كانا حانقين على الرجل الذي لا يريد أن يغادر الكرسي، لاحظت شابًا يتفاوض مع امرأة تبيع السجائر على مقربة، اعترض أن السعر مبالغ فيه جدًا قلت ملطفًا “الأسعار هنا سياحي”، قالت المرأة إنها تشتري السجائر غالية أصلاً، كان هناك اتفاق على الاستمرار، وأن مبارك لازق في الكرسي لأنه خايف من المحاسبة، رأيت آباء يحملون أطفالهم على أكتافهم والأطفال يرفعون الأعلام، قال الجالس إلى يساري: “قرفنا بالضربة الجوية يا ريته كان ضربنا، وراح حكم إسرائيل 30 سنة”، كان هذا الكلام مضمون لافته انتشرت في الميدان منذ الأيام الأولى… تحرك جماعي لقطاع من المتظاهرين باتجاه القصر.

أتابع الجزيرة، وأنا ممدد على الكنبة لا أعرف ولا أحد يعرف إلى أين ستتجه هذه الدراما، حتى مدير المخابرات المركزية الأمريكية فوجئ بالأمس أن مبارك لم يتنح، لا أذكر متى سمعت اليوم عن هبوط طائرتي هليكوبتر داخل قصر العروبة، كان هناك شعور بوجود تحركات غير عادية، داخل أروقة الحكم، البيان رقم (2) للجيش أفقد البيان رقم (1) دلالاته الانقلابية، خبر عاجل على الجزيرة: متحدث باسم الجيش يصل إلى ماسبيرو.

ما الذي بقى ليقال؟ على شريط الأخبار أسفل الشاشة حصار مديرية الأمن ومباحث امن الدولة بدمياط، سمعت اليوم هتافا أسمعه لأول مرة “يا حاكمنا بأمن الدولة فين الأمن وفين الدولة” وعلى شريط الأخبار… اليوم جنازة عسكرية مهيبة للفريق سعد الدين الشاذلي، فجأة، حوالي الساعة السادسة مساءً، قطعت قناة الجزيرة بثها المعتاد ونقلت إرسال التليفزيون الحكومي المصري، توقعت أن أرى عسكريًا فإذا بوجه عمر سليمان متجهمًا، توقعت أن يعلن أنه تسلم مقاليد الحكم في البلاد وأن الرئيس غادر إلى ألمانيا للعلاج، كان يقف وراء عمر سليمان رجل متجهم هو الآخر، وبلهجة تراجيدية تكملها أسارير رئيس المخابرات السابق، كما لو كان يريد أن يقول لنا أن من يقف خلفي يضع في ظهري مسدسا لأقول هذا البيان، قال: قرر الرئيس حسنى مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإدارة شؤون البلاد والله المستعان.

أعتقد أنني لم أسمع البيان كاملا، أو أن البيان تجمد عند كلمة “تخلّيه”، لأنني ربما طرت، أو قفزت، أو سرت، وربما تجمدت، لأنني في زمن لا أقدره، أظنه غير قابل للتقدير، كنت أقف في البلكونة، أصرخ بأعلى صوت كنت أتصور أنى أملكه موجهًا صراخي للمهرولين باتجاه ميدان التحرير ورافعًا ذراعي بقوة منتشيًا بالنصر: ت..ن..ح..ى..ى..ى

(القاهرة في 22 فبراير 2011؛ الكاتب روائي مصري؛ عن موقع “كيكا”)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>