21 فبراير: الشعب يريد استعادة الذاكرة/ ياسر عبدالله

أسوأ ما في الأمر أنّ حالة فقدان الذاكرة تلك تمتد من الحكم الاستبدادي لتصيب معارضيه بنفس ذات المرض، بحيث تنطبق عليهم مقولة غرامشي عن الطبقات التي تثور وهي لا زالت واقعة تحت الهيمنة الفكرية لمن تثور عليهم

21 فبراير: الشعب يريد استعادة الذاكرة/ ياسر عبدالله


"ممنوع مبارك"- رسمة من مدونة "جنزير"


|ياسر عبد الله|

ليس الحكم الاستبدادي مجرد نظام سياسي، لو كان الأمر كذلك لهانت وسهلت، أنه بالأحرى نظام فكري متكامل، حالة وجودية عمادها التجهيل ومحو الذاكرة. يعتمد الحكم الاستبدادي على معادلة بسيطة تتلخص في قوله أنا الأول والآخر، أول ما بدأ كل شيء وآخر ما سينهي كل شيء، فتمتد حالة فقدان الذاكرة الحضارية تلك إلى مختلف ضروب الحياة، مستعينًا في ذلك بقدرة جلاديه وخطاباتهم المتلفزة في خلق ذاكرة اليوم الواحد التي تُمحى في اليوم التالي- كما قال الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس في حوار له: ” يجعلون وسائل الإعلام تحلّ محلّ الذاكرة، كل أربع وعشرين ساعة يظهر فلان أو علان على شاشة التلفزيون ليُملي عليك ما يجب أن تتذكّره طوال هذا اليوم وهو ما ينبغي أن تكون قد نسيته بعد ذلك بأربع وعشرين ساعة”. أسوأ ما في الأمر أنّ حالة فقدان الذاكرة تلك تمتد من الحكم الاستبدادي لتصيب معارضيه بنفس ذات المرض، بحيث تنطبق عليهم مقولة غرامشي عن الطبقات التي تثور وهي لا زالت واقعة تحت الهيمنة الفكرية لمن تثور عليهم، فيحكي الثائرون على نظام أنفسهم، كيف خُلقوا بعد القيام بثورتهم وكيف ابتدأ التاريخ بهم.

في مشهد يذكره كل من شاهد فيلم الكرنك، يحكي حلمي الشيوعي عن مسيرة الثورة المصرية الممتدة منذ القدم وصولًا إلى نظام يوليو، تلك المسيرة التي كان يدعي نظام يوليو أنها غير موجودة وكان يحاول دومًا محوها والبرهنة الدائمة على أنه أوّل كلّ الأشياء، تلك الخطوة التي عدّها صلاح عيسى في دراسته عن البرجوازية المصرية ولعبة الطرد خارج الحلبة صفة مميّزة لثورات البرجوازية المصرية؛ فثورات البرجوازية المصرية تجب ما قبلها وتنفيه، لا نفيًا جدليًا بل نفي ماحٍ لكل فرصة للتداول والتناقش.

لو كان ما حدث في 25 يناير ثورة شعبية حقيقية تامة وناجزة ومختلفة عمّا قبلها لتم الاحتفال بذكرى اليوم 21 فبراير 1946 إحتفالًا هائلًا، على الرغم من الغناء المتواصل في أجهزة الإعلام عن ثورة الشباب، وهي تسمية مُضلّة؛ فلم يتذكر أحد ما يوم الطلاب العالمي، في الحادي والعشرين من فبراير، على الرغم من ارتباطه بميدان التحرير، كان يسمى الاسماعيلية وقت ذلك اليوم، وعلى الرغم من كونه مصريًا خالصًا، ذلك اليوم الذي انتفض فيه أجداد لنا على الاحتلال الإنجليزي مُجبرينه على ترك المدن والتموقع في القناة. لم يتذكّره أحد ترافقًا وتوافقًا مع إدعاءات مستمرة بأنّ ما حدث في5 2 يناير كان أعظم ما حدث في مصر منذ سبعة آلاف عام.

الأمر لم يبرح انتفاضة شعبية استطاعت إزاحة رئيس عن كرسيه، بل بالأحرى أجبرت النظام نفسه على إزاحته لانقاذ النظام

التراكم القطعي الموجي الحادث عن تلاحق موجات منقطعة خلف بعضها، كما يحدث الآن، ليس تراكمًا بأيّ حال من الأحوال، ليس تراكمًا من ناحية، وقطعًا هادمًا من ناحية أخرى. لو كانت كل حلقة وخطوة هي الخطوة الأولى وليس قبلها شيء، فبالتالي ستكون الأخيرة وليس بعدها شيء. ولا ينطبق الأمر على الماضي البعيد فحسب، لكن حتى الماضي القريب يجري تناسيه. فيحدث الآن وباسم 25 يناير تناسي أول سعي لاحتلال ميدان التحرير والاعتصام بداخله في 20 مارس 2003، ويجري تجاهل دعوات الإضراب العام في 6 إبريل 2008، وكفاح عمال المحلة وكفاح العمال وإضراباتهم المستمرّة الموصل لهذا اليوم؛ يجري الحديث عن 25 يناير كأنه بدء الخليقة، كل ذلك ولم يتحول الأمر إلى ثورة بعد، كل ذلك والأمر لم يبرح انتفاضة شعبية استطاعت إزاحة رئيس عن كرسيه، بل بالأحرى أجبرت النظام نفسه على إزاحته لانقاذ النظام. 25 يناير وثورة الشباب كلمات تولدت في مخاض صراع، من نفس أجهزة الإعلام التي بدّلت خطابها بعد تنحي مبارك، هي ذاتها التي استخدمتها لشقّ الصفوف وفضّ الاعتصام، حين تحدثت عن شباب 25 يناير الذين رفضوا الاستمرار في الاعتصام بعد دخول قوى سياسية على الخط. إنها عينها الحرب على الذاكرة من طرف نظام سابق نجح طوال ثلاثين عامًا في حربه على الذاكرة المصرية، بحيث صار من الصعب تذكّر التاريخ المعاصر القريب.

في زيارة أخيرة لصديقة نصف ألمانية نصف مصرية تحدثنا طويلًا عن الذاكرة الحضارية التي يتم تحويلها وتغييرها إلى عادات أخرى، من جلباب بلدي إلى جلباب قصير ومن طرحة ملفوفة ببساطة إلى إسدال طويل. يومها -وكان يوم عيد الأضحى- وقفنا في شرفتها نتأمل جموع المصليين التي تكبرّ تكبيرات عيد ناقصة، ولا تكمل التكبير المصري بكامله. قالت لي: “ذاكرتك ستقتلك”، وسافرت في الأسبوع التالي.

لا أدري هل ستقتلني ذاكرتي التي أحاول أن أراكم بها تاريخًا كاملًا للمصريين على طريق نضالهم من أجل حريتهم وضد كل سلطة، أم ستحييني تلك الذاكرة؟



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>