المجرم يطالب بثمن الرصاصة / هشام نفّاع

“المنهال”، أكثر المؤسسات التي يرتبط وجودها ودورها وسياقها بالنهب والسرقة، يطالب أهالي العراقيب بمليون و 800 ألف شيكل تعويضًا عن تكاليف هدم بيوتهم!

المجرم يطالب بثمن الرصاصة / هشام نفّاع

تدمير اسرائيلي في العراقيب – تصوير: Activistills.org

|هشام نفاع|

حين كانت دولة إسرائيل، قبل أيام، تهدم قرية العراقيب الفلسطينية في النقب للمرة الـ 28، كان “المنهال” (دائرة أراضي اسرائيل) يطالب أهل القرية بدفع تعويضات بمبلغ مليون و800 ألف شيكل. المنهال، وهو السلطة المسؤولة عن شؤون الأراضي، برّر هذا المطلب العجيب الذي قدمه للمحكمة في بئر السبع، بأنه تعويض له مقابل تكاليف الهدم واخلاء السكان!

المؤسسة الاسرائيلية تفقد بتسارع كبير جميع أقنعة الحياء والدبلوماسية التي حاولت بها تمويه سياساتها العنصرية ضد العرب الفلسطينيين الباقين في وطنهم بعد نكبة 1948. ومع تساقط هذه الأقنعة، قسرًا وطوعًا، لم تعد مؤسسات الدولة تتورّع عن الخروج بمواقف وخطوات سافرة غاية في التبلّد والوحشية وكأنها تقول لنا: نعم، نحن عنصريون وفخورون أيضًا؛ لا نريد إخفاء أو تجميل وجهنا كما كنا نفعل سابقًا.

لأن بيت الفلسطيني وأرضه في دولة اسرائيل يتجاوز السكن والإسكان؛ إنه قضية بقاء ووجود، وهو ما يفوق سقف القانون الاسرائيلي الواطئ، قياسًا.

ذلك “المنهال” يزعم أن أهالي العراقيب استولوا على أراضٍ ليست لهم، بل على “أراضي دولة”. ومن هنا يبرّر الهدم والتهجير والتدمير المتسلسل، ويتوّجه لمطالبة الأهالي بدفع تكاليف خراب بيوتهم من جيوبهم. في بعض الحالات تقف أمام الكلمات في حالة من الذهول، فلا تعرف ما يعبّر منها عما يدور أمامك. هذا ينطبق على وقاحة “المنهال” الاسرائيلي الذي يقترف الجريمة ثم يطالب الضحية بدفع ثمن الرصاصة.

قرية العراقيب كجميع القرى الفلسطينية التي ترفض سلطات اسرائيل الاعتراف بها، لم تقتحم أراضي أحد. أهاليها يعيشون على أرضهم التي توارثوها واعتاشوا منها وفيها وعاشت فيهم قبل أن تهلّ على العالم دولة اسرائيل.. كانت الأرض بالنسبة لهم شيئًا ببساطة الهواء وبديهية الماء وطبيعية امتداد الأفق. حتى هلّت دولة اسرائيل… فهجّرت آلاف الفلسطينيين من النقب ودمّرت وجودهم. المؤرخ الصهيوني بيني موريس تحدث عن تهجير

 نحو 20 الف فلسطيني بين النكبة وعام 1951. أما المؤرخ نور مصالحة فكتب أن التهجير قلّص عدد الفلسطينيين في النقب بعدة أضعاف حتى بقي منهم نحو 15 ألف انسان من أصل نحو 90 ألفًا. أرض هؤلاء المهجّرين تم نهبها. ومن يتولى مسؤولية ادارة الغالبية الساحقة من هذه الأراضي المنهوبة هو هذا “المنهال” نفسه الذي يتهم أصحاب البلاد وأهلها بالنهب.

‫في إسرائيل؛ فاتورة ثمن هدم بيتك...لا يشمل الخدمة.

إذا بحثنا عن أكثر المؤسسات التي يرتبط وجودها ودورها وسياقها بالنهب والسرقة والسيطرة بالقوّة على ممتلكات وأراضي الآخرين، فقد نجد غالبًا أنها ليست سوى هذه المؤسسة الوقحة التي تُقاضي بتهمة النهب مَن قامت بهدم بيوتهم المُقامة على الأراضي التي نهبتها عمليًا هي نفسها.

بين مفاصل وتعرّجات وتشابكات هذه الحالة العجينية يكمن الكثير من حقيقة الواقع الذي تفرضه السلطات الاسرائيلية على البلاد. وهي حين تصل الى المحاكم لا تخرج من مساحة هذه الحالة المقيتة، لأن المحاكم معجونة عميقًا فيها، فنكاد لا نجد بيوت العدل الاسرائيلي تدفع بلدوزرًا عن هدم بيت أو تردع بوليسًا عن تهجير أسرة. فللعدل عِرق وايديولوجيا أيضًا في “دولة اليهود”.

أما حين يقيم أهالي العراقيب المدمّرة خيامهم، صامدين، على أنقاض الدمار والخراب والجريمة فإن هذا يظلّ خارج “أزمة السكن” والاحتجاج عليها. هذه الخيام لا تهزّ حبة غبار في مقر رئاسة الحكومة. وهذا متوقّع طبعًا لأن بيت الفلسطيني وأرضه في دولة اسرائيل يتجاوز السكن والإسكان؛ إنه قضية بقاء ووجود، وهو ما يفوق سقف القانون الاسرائيلي الواطئ، قياسًا. لأن زيادة أيّ مدماك على صرح العدل الاسرائيلي بحيث يصبح قادرًا على استيعاب معنى البيت الفلسطيني، سيجعل الأساسات تصطكّ.. فترى السلطات الاسرائيلية تعيد كتابة التاريخ وتزييفه وأداء لعبة المقاضاة أمام محاكمها دون أن تخرج قيد أنملة من حدود القلعة الايديولوجية فظّة البنية والبنيان، فيظلّ يتردد بين جدرانها الصلدة ضجيج ناشز يختلط فيه هدير وغبار بلدوزر الهدم بكلام القضاة الفصيح البرّاق عن تطبيق القانون والتغزّل بعدلٍ يروح أمام خيام العراقيب المقامة فوق أنقاض بيوتها المدمّرة للمرة الـ 28 يتحوّل الى مسخ كافكائيّ؛ لكنّه هنا مسخ واهٍ فارغ حتى آخر درجات التفاهة والتوحّش معًا.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>