7 ليالٍ على شفا غفوة/ هشام نفّاع

حين فتحتُ عينيّ أفلتت مني صورة حلم وسقطت في ظلمة دامسة فيّ قبل أن أتحقّق منها. أرى القلق يأتيني من غدٍ لم أصله بعد. قلق مؤجّل يتفاعل الآن/هنا. أفطن بخوف والديّ عليّ. قبل دقائق قال بورخيس من كتابه قرب وسادتي: “المطر شيء يحدث بدون شك في الماضي”

7 ليالٍ على شفا غفوة/ هشام نفّاع

|هشام نفاع|

عواء الواوي الذي أتى تحت داري هذه الليلة أيضًا من سفح الكرمل، عبر حدائق البهائيين، أعلى من شجرة السرو التي تظلل سقف الطابق السادس فوقي. كلاب الجارة تنبح بغضب مبلل بالخوف. أنا منهك عاجز عن النوم. سيارة مسرعة تقصّ أذنيّ. صورة وجه نون المرسوم بلون الرغبة يلامس جبهتي. كأنني غفوت. حين فتحتُ عينيّ أفلتت مني صورة حلم وسقطت في ظلمة دامسة فيّ قبل أن أتحقّق منها. أرى القلق يأتيني من غدٍ لم أصله بعد. قلق مؤجّل يتفاعل الآن/هنا. أفطن بخوف والديّ عليّ. قبل دقائق قال بورخيس من كتابه قرب وسادتي: “المطر شيء يحدث بدون شك في الماضي”. لا مطر في حزيران. لقد ظلّ هناك ومعه الماضي قابعًا تحت لحاف الشتاء. الحرّ يلسع بأنياب من هسهس. ومن وحدة في سرير. وحدها صورة نون البعيدة ترسم ابتسامة متعبة في قلبي.

• •

بكاء رضيع. صوت ناعم كبياض الحليب. يمسّ مسحة الطفولة التي ظلّت في القلب. لشدّة التأثّر والرحمة ترتبك فتبتسم. لقد أيقظ أولى محاولاتي للنوم. الابتسامة إيماءة تصرّفت وحدها تعبيرًا عن التسامح مع إفشاله خطة نومي. صمت. أكيد أنّ أمه تأخذه في درب الحليب إلى غفوة جديدة. مقدمة بترا البرغوثي لكتاب رفيقها فقيدنا حسين البرغوثي، هزمت التعب الذي كاد يسيل مني. أكسبتني بضع صفحات من الصحو التّعِب. عتّمتُ الغرفة. طائر يصرخ أخرجَني من خلف جفوني. ما إن تفتح جفونك حتى تعود للحياة. غريب. العيون منفذ الحياة إليّ، والملاذ منها. الطائر يصرخ. صوته آدميّ قليلا. قبل ـ إنسان. سمعته وكأنه قرد. رأيته سيقفز على السروة فالشرفة. تركت بابها مفتوحًا لشدة الحرّ. هل سيقفز إليها ويروح يركض من غرفة إلى أخرى؟ خفتُ من صراخ الطائر القرد. سيفشل محاولة جديدة للرحيل خلف جفوني. أزلت عتمة الغرفة. قمت وأغلقت باب الشّرفة. أعدت قراءة رسالة نون على الهاتف. ابتسمتُ لها. عتّمتُ الغرفة. وضعت يدي اليمنى تحت رأسي وباليسرى أحطتُ بطني وقوّستُ جسدي محاولا العودة إلى الجنين الذي فيّ، وانتظرتُ النوم.

• •

صمت. حرّ رطب. فجأة صافرة إنذار خاصة. لم تنذر بحرب بل ربما باعتداء على سيارة أو دكان. صوتها يرنّ قرب الصحف بجانبي. توقّفت فجأة. صمت. صوت الثلاجة يؤشر إلى اعتلالها. حشرجات من وهن. هل سأنتبه له كل يوم أم أنني سأتأقلم فأنسى؟ لقد صرت أستصعب النوم مع أني تخلصت من كيلوهات قلق مؤخّرًا. هل يعسّر الصفاء النوم؟ كيف أفسّر هذا الأرق إذًا؟ حين تصرخ إحدى الجارات في ساعة مبكرة لا أشتمها في سرّي. في السابق كنت أفعل. وجهي يستسهل الابتسام اليوم. صدري يتسع لمدى أكبر من الضحكات ولصدى أكبر للقهقهات اللاهية. لكن لحظة ما قبل النوم تتمدّد. أتذكّر حلمًا: مسير في زقاق قديم مع صديق قديم. وجوه قروية حنونة الصدر. ثم ثلاجتي الضاجّة مقصومة يسيل ماؤها كالنزيف. هل قتلها الوهن الذي شخّصته فيها. هل قتلتـُها؟ أم أنّ الطبيعة رسمت مشهد طغيان الحرّ بموت ثلاجة؟ غريبة هي الأحلام. تحدث في الخارج ونراها فينا، في الداخل. كالحياة تمامًا.

• •

لوقع الرأس على الوسادة القطنية صوت ارتطام. ربما هي الفودكا. أو وجبة العشاء المتأخرة لشخص واحد. أو اقتراب العقارب من الفجر. صوت السيارة التي تمرّ في الشارع المقابل كالمطرقة. ضرباتها متقطعة وبعيدة. تغيب. شيء يشدّني من رموشي إلى بئر النوم. أشمّ رائحة نون في خيالي. وفي شفتيّ ولساني. هناك روائح تلائم الذاكرة. تُستعاد.
ترسم صورًا وتعزف أصواتًا. رائحة تشبه ما يؤلف مادة الحلم. هيوليّ ملوّن.

• •

على الجانب الأيمن. مرّة واحدة يتقلّص جسدي وتمسك قدم بتلابيب أختها/صاحبتها. أنظر في العتمة التي تخترقها سهام ضوء ضعيف. غدًا الجمعة. ليته يكون حافلا بأكبر كمّ من الكسل وفرحة العقل. غابت هتافات كرة القدم قبل ساعات. لا يزال منها الوعاء الذي ترددتْ فيه. دور قديمة فقيرة بعض بعضها مرمّم على عجل. عاملات وعمال مهاجرون بشتّى الألسن والسّحنات. فتيات صغيرات أنهكهنّ نسخ صورهنّ عن الشاشات. شبان يصرخون بحيرتهم الوجودية من أشكال ألوان شعورهم. التعب الآن لذيذ. يقود إلى الغفوة ببراعة ناعمة. نون لا تزال ترقص بلا شك. لو أني رافقتها.. قدمي اليسرى غريبة. تثير فيّ مخاوف متطرّفة. كلمة جلطة ترنّ في مكان ما وتختفي. غدًا سأنهض بكسل.

• •

النوم بعد سهرة صاخبة طويلة سهل جدًا. أكاد لا أذكر كيف دخلت الفراش. هناك صور متقطعة من حلم سعيد. رأيت أهلي فيه. كان خفيف الظلّ والوقع. كما لو أنه صياغة للطمأنينة. أو رغبة في الاطمئنان. أذكر إيماءة مني في حلم آخر بدون تفاصيلها. شيء كحركة اليد الخفيفة التي تبغي قول شيء مع تردّد مخفيّ لأنّ بعض الحركة غير عفويّ. رجفة من الافتعال مرّت في الإيماءة، واهتزازة خفيفة في الرموش. هل كنت أكذب في الحلم؟ هل يمكن التمييز بين الحقيقة والكذب داخل الحلم. هل يقتحم العقل خيال الحلم خلسة أحيانًا فيوبّخ أو يحذّر؟ هل جاء ذلك استمرارًا لحركتي المتحفّظة المنضبطة في تلك السهرة المحاكة بالافتعالات؟ هل كنت أوبّخ نفسي في حلمي على قبولي بمعايشة مجاملات الليلة السابقة؟

• •

بدأ النوم بشكل مباغت. جسدان يتعانقان مع تعبهما اللذيذ. يصحو واحدهما للحظة، يتحسّس عناقه، يتأكد من رائحة الانصهار ثم يعود لغفوة تعود للانقطاع مجددًا. الفجر يملأ النوافذ. ضحكات خفيفة وتمتمات تصحو متسائلة. لننام على السرير بدلا من هذه الكنبة. بأرجل متعثّرة يملآن سريرًا بالحميميّة. غفوات وصحوات عديدة تراودهما. جسدان يكثران من إيماءات الشوق في لحظات التحوّل الخاطفة بين الصّحو والنوم. قبلة رقيقة على الأصابع. قدم تبحث عن قدم. كفّ تتحسّس خصلة. وشيء كالرّضا يملأ الحنجرة. هناك شيء طفوليّ في كل هذه الحسّيّة. كذلك الذي جمع دييغو وديفيد في هافانا. قصة توت وشوكولاه تقطر أسئلة لا تزال علاماتها المدوّرة مزروعة عندي. ذات حلم رأيتني أودّ القول لـ نون شيئًا يشبه هذا: إنه خيط واحد، لا يوجد غيره، أما ما يبدو فيه من تعدّد فهو منه هو، الواحد. من أين جاء هذا الكلام الذي حلّ فيّ حلولا. لم أقله ولم أكتبه. لكنه كلام مطبوع في ذاكرتي. لا أعرفه حرفيًا بل أتخيّل فقط أنه هكذا. من أين جاء؟

• •

الصباحات المليئة بالمشاغل عدوّة التذكّر. تطمس كل ما يمكن قوله. حتى التفكير في البدايات يصير من المتعب الوقوف عنده. البدايات بوصفها شيئا يسجَّل في الخاتمة، كل مرّة. الفكرة الضائعة هي كالمولود الميّت. أمر حزين يستدعي القول: خسارة. كم خسرت من ذكريات راودتني وأنا نائم!

(حزيران 2006)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. ليتني كنت “نون”

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>