بابل والموسيقى، عتبة المركزية الغربية / د.عبد الله البياري

بابل والموسيقى، عتبة المركزية الغربية / د.عبد الله البياري

خبر “قائمة أغاني التعذيب” الذي تناولته بعض المواقع الإخبارية الأمريكية بناءً على تقرير صحفي للصحافية الأمريكية جاستن شاروك، بناءً على ما تقول أنه تسريبات من محاضر التحقيقات، وشهادات لمعتقلين ومحققين وعاملين بالسجن، حيث تكشف عن قائمة موسيقية/غنائية كانت تستخدم لتعذيب السجناء وأثناء التحقيق معهم.

Tour_de_babel

| د.عبد الله البياري |

لعل التقرير الذي صدر أخيرًا عن اللجنة الأمنية في الكونغرس الأميركي حول لجوء “وكالة الاستخبارات الأميركية” (CIA) إلى التعذيب للحصول على المعلومات من “مشتبهٍ فيهم” بعد أحداث 11 أيلول إبان حكم الرئيس السابق جورج دبليو بوش، يمكن تناوله من أكثر من ناحية، وسيستفيض فيه الكثيرون حديثًا  ونقدًا وشرحًا، ولكن ما استرعى الإنتباه، هو خبر “قائمة أغاني التعذيب” الذي تناولته بعض المواقع الإخبارية الأمريكية بناءً على تقرير صحفي للصحافية الأمريكية جاستن شاروك، بناءً على ما تقول أنه تسريبات من محاضر التحقيقات، وشهادات لمعتقلين ومحققين وعاملين بالسجن، حيث تكشف عن قائمة موسيقية/غنائية كانت تستخدم لتعذيب السجناء وأثناء التحقيق معهم، والتي كان الهدف منها بحسب تلك الأخبار “المحافظة على استمرارية حالة الصدمة” لدى السجين و”التقليل من التركيز أثناء التحقيقات” معه و”زيادة الحرمان من النوم” وبالتالي قابلية كسره نفسيًا، وهنا لنا أن نتوقف أمام مدلولات مختلفة لتلك القائمة.

الصوت كمادة خام يمكن أن يحمل المعنى وينقله بالتواطؤ مع الإدراك، جميعًا نتذكر كليشيه التعذيب الأول في المعتقلات، وهو نقطة الماء الساقطة بشكل رتيب زمنيًا من صنبور الماء، وكيف أنها كانت تؤدي لضغط تعذيبي هائل، يفتح بابًا على انهيارات نفسية، تزيد من قابلية السجين للإنهيار أمام التحقيقات والمساءلات، فيما يمكن تسميته بـ(No Touch Torture) وهو أسلوب حداثي من التعذيب، قائم على إحداث صدمة وإدامتها على جسد وعقل ونفس السجين، ضمن منظومة كاملة من الضبط والرقابة، تذكرنا بشروحات “فوكو” عن المؤسسات الضبطية العقابية، كالمستشفى و المصح والسجون.

أما ثانيًا، ثمة دلالة ما يمكن تتبعها في اختيار الأغاني المستخدمة للتعذيب، فلننظر مثلًا من المجموعة:” “Fuck Your God و”Die Mother Fucker, Take your best shot” و”Enter Sandman” و”All Eyes on me” و”Stayin’ Alive” و”Click, Click Boom ” و “White America” و أخيرًا “Bayblon” و”Barney & Friends”، كل تلك الأغاني ليست مجرد مصادفة لذائقة موسيقية  عابرة تملأ خلفية مشهد التعذيب أو التحقيق، بل هي استدعاءات إمبريالية شكلت المخيال الغربي الإمبريالي، ولعل استحضار حضارة بابل، لا يتم من دون الإشارة إلى “برج بابل” ودلالته في المخيال الغربي، وأهميته في إنتاج شرق يطابق رؤية الغرب، وليس واقع الشرق، تلك الرؤية المتكونة بالتراكم من مرويّات دينية وثقافية وأثرية، وانطباعات للرحالة، وإلهامًا للقصاصين والرسامين، الأمر الذي جعله يتسامى إلى رمز ميتافيزيقي في المخيلة ومستقر لضروب من الوعي، أسست لتحويل البرج من واقعة “خطابية” إلى واقعة “تاريخية”. فعملية الحفر الأركيولوجي في البرج ودلالته لا بد أن تتوقف أمام دلالة البرج في السرديات المختلفة؛ حيث فكرة الطوفان والنجاة منه إذ يحل بأرض السواد، وما يتعلق بتضرع الآلهة وتوسلها بهدف درء ذلك الخطر بعد طوفان نوح، وعلى تضارب المرويات بين الإسلامية، والتوراتية، وما تعاضد منها من سرديات الرحالة الجوابين والمؤرخين وغيرهم، يظل البرج موقعًا لصراع الآلهة ضد الطوفان، وتعاضد سرديات مختلفة تقوم كلها على السيطرة، وهنا يأتي دور آلهة جديدة تأتي من “أميركا البيضاء / White America ” لتصدح وكل الأعين عليها “All Eyes On Me” قائلة:  ”Fuck Your God” .

“بابل”، اسم علم مسلم به، هكذا يقول دريدا، ولكن حين نقول “بابل” اليوم، فماذا نسمي؟ يجيبنا دريدا: “إذا تأملنا ديمومة نص يعد تراثًا، إلا وهو حكاية أو أسطورة برج بابل، نجد أنه لا يؤلف استعارة واحدة فقط بين الاستعارات الأخرى. وبعد أن يكشف النص على الأقل عن عدم كفاية لغة بالقياس إلى لغة أخرى، وعن عدم كفاية مكان في الموسوعة بالقياس إلى مكان آخر، وعدم كفاية لغة بالقياس إلى نفسها وإلى المعنى وما إلى ذلك. يكشف أيضًا عن الحاجة إلى الاستعارة، إلى الأسطورة والمجازات والانفلاتات والانعطافات” ثم يخلص قائلًا: “بهذا المفهوم سيكون أسطورة أصل الأسطورة، ومجاز المجاز، وحكاية الحكاية”، وبالتالي فإن بابل ها هنا كأسطورة هي أداة لبناء أسطورة أخرى، هي أميركا البيضاء، في مواجهة “رجل الرمل/SandMan”؛ المخيال الغربي ها هنا لأسباب دينية –حضارية بدأ ينتج، بآلياته الخاضعة لضرب معين من الثقافة أسطورة البرج، بما يتوائم  لحاجاته وتصوراته الميتافيزيقية لوجوده، وهو ما يفسر قول  عالم الآثار الفرنسي، أندريه بارو، أن الرحالة الجوابين كانوا يرتحلون على أوهام التوراة وما جاء في سفر التكوين في تهيئة تصوراتهم عنه وامتلاكه بها، وكما كانت تلك المرويات سدنًا دينيًا كانت رواية “هيرودوتس” المناظرة لها في التاريخ سندًا أيضًا، وبالمزاوجة بين المرويات التأريخية و الدينية، يمكننا تفهم كيف كانتا آليات لتبرير تمدد النفوذ الروماني، وبالتالي فقد كانت مرويات هدفها إمبريالي، ولا يختلف الأمر كثيرًا ها هنا، فبقدر ما تمثل بابل لدى السجناء إرثًا تاريخانيًا هوياتيًا وثقافيًا، هو يمثل هدفا إمبرياليًا للآلهة الأمريكية البيضاء.

ثالثًا: ثمة الكثير من العنف الجسدي والجنساني الموجه في الأغنيات تلك، فأغنية كريستينا آغاليرا “قذر/ Dirty” بكل إيحاءاتها الجنسية  والبورنوغرافية، لم تأتِ اعتباطًا لتُلقى على مسامع أناس محافظين فيما يتعلق بالجنس، وإدراكاتهم للجسد وللجنس، ضمن نسق ديني إسلامي محافظ، تحديدًا. وعلى هذا المنوال نرى “فلتمت يا ابن العاهرة/Die MF Die”. ومن يتابع كلمات الأغاني، يرى استحضارات تتفوق على ما يمكن للمتن ها هنا احتماله، من تصاوير وإدراكات عنيفة وجنسية وقمعية لتطويع السجين و”صهر وعيه” (بمصطلح الأسير الفلسطيني في سجون الإحتلال وليد دقة)، وصولًا للتجمل بالضحية كما تقول أغنية أميركا البيضاء، وبارني، إغراءً بـ”الفطيرة الأمريكية/American Pie” تلك السلسة من الأفلام القائمة على الكثير من المجون والإبتذال الجنسي.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>