قبل حلول الليل، حياة شاعر بين منفى الوطن والخارج / وائل قبيسي

قبل حلول الليل، حياة شاعر بين منفى الوطن والخارج / وائل قبيسي

تقارب قصة الفيلم مفهوم الثورات وانقلابها على مبادئها عند تسلمها السلطة، حيث تذكر فترة القمع الثقافي في كوبا بعد انتصار الثورة بالثورة الثقافية في الصين التي كبحت جماح الفنانين وصادرت حرية الرأي والإبداع وقمعت كل من يخالفها الرأي.

unnamed

|وائل قبيسي|

وائل قبيسي

وائل قبيسي

بيروت - يتطرق فيلم “قبل حلول الليل” إلى قصّة حياة الشاعر الكوبي رينالدو أريناس، وهو مقتبس عن آخر كتاب ألّفه قبل وفاته. ينقلنا الفيلم إلى كوبا الأربعينيات التي تشهد ولادة أريناس في ظل ديكتاتورية فولجنثيو باتيستا ثم ينتقل إلى الثورة الكوبية وينتهي في نيويورك حيث قضى الشاعر آخر سنوات حياته في المنفى.

يبدأ الفيلم بطفولة أريناس المؤلمة في الريف حيث يترعرع في منزل جدّه لوالدته المليء بالنساء المطلقات، مع والدته التي هجرها أبوه وينقل الفيلم صورة الفقر المدقع الذي كانت تشهده الأرياف في تلك المرحلة والذي كان يهرب منه الطفل إلى الطبيعة ليعيش حرية افتقدها في بيت جدّه المتزمت وفي كنف والدته التي تربطه بها علاقة معقدة.

ينتقل أريناس الشاب إلى هافانا في الستينيات لإكمال دراسته في ظل انتصار الثورة الكاستروية التي ناصرها وشارك فيها في البداية، لكنّه اكتشف أنها تمثّل ديكتوتارية ثانية، أدواتها وسائل قمع تحت ذرائع منع الترويج للرأسمالية ومعاداة الأفكار الشيوعية ومحاربة الأفكار والثقافة الأجنبية. يشكل ذاك العداء للثورة الكوبية مفصلاً رئيسياً في حياة الشاعر استمر حتى مماته وكان السبب الرئيسي في هروبه إلى المنفى، حيث تعرض لشتى أنواع التنكيل على يد القوات الحكومية، فمثليته المعلنة كانت موضع إدانة دائمة، حيث ألصقت به الحكومة تهم التحرش بقاصرين، بينما كانت تهمته الأخرى نشر كتابه الأول خارج البلاد من دون موافقة رسمية.

تمّ التنكيل بأريناس ومضايقته وملاحقته ومنعه من الكتابة، في ظل الجو العام السائد المناهض للمثلية الجنسية والفنانين غير المنضوين تحت لواء الثورة وزُجّ به في السجن لسنة كاملة، نرى كيف استغلها في الفيلم لتأليف كتابه الثاني حيث ساعد السجناء في كتابة رسائل حب لزوجاتهم وعشيقاتهم وتمكن من جمع ما يكفي من الورق لمواصلة كتاباته التي تمكن من تهريبها إلى خارج السجن لنشرها، لكنّ محاولته باءت بالفشل وعوقب وهدد بالقتل فاضطر إلى نبذ مجمل أعماله والاعتراف بأنه أخطأ بحق الثورة فأفرج عنه في عام 1976.

يتمكن أريناس من الهروب إلى الولايات المتحدة عام 1980 ويصور الفيلم مشهد وصوله تحت الثلوج إلى هناك على أنغام ترنيمة “قامت مريم” للسيدة فيروز. لكن سرعان ما تبدلت فرحته إلى حزن عميق، فقد هرب من سجن صغير إلى سجن كبير، حيث يقول في الفيلم بعد وصوله إلى الولايات المتحدة: “الفارق بين النظام الشيوعي والنظام الرأسمالي هو أنّك عندما تتعرّض إلى ركلة في مؤخرتكَ في النظام الشيوعي فعليك أن تصفّق، أما في النظام الرأسمالي فيمكنك الصراخ”.

تختصر النصف ساعة الأخيرة من الفيلم معاناة الشاعر في المنفى بعد إصابته بمرض فقدان المناعة المكتسبة (الإيدز) وعدم تمكنه من تغطية تكاليف علاجه وحالة البؤس الشديد التي رافقت ذلك حتى وصل به اليأس إلى الانتحار بمساعدة صديقه وشريكه لازارو كارييس (الذي شارك في كتابة سيناريو الفيلم).

تقارب قصة الفيلم مفهوم الثورات وانقلابها على مبادئها عند تسلمها السلطة، حيث تذكر فترة القمع الثقافي في كوبا بعد انتصار الثورة بالثورة الثقافية في الصين التي كبحت جماح الفنانين وصادرت حرية الرأي والإبداع وقمعت كل من يخالفها الرأي، والمفارقة أنّ انتحار أريناس عام 1990 تزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي حيث تمثّل أمام أعين الشعب الكوبيّ انهيار المدينة الفاضلة الممثّلة في الخطاب السياسي والثقافي مع انهيار ما كان يُعرف بالمعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقيّة وكان لهذا الانهيار تداعيات جمّة على الحياة الثقافية في كوبا.

بالعودة إلى الفيلم، فقد صور في المكسيك وأخرجه جوليان شنايبل، وشنايبل هو مخرج وفنان تشكيلي أميركي فاز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان كان وبجوائز غولدن كلوب وبافتا وسيزار. ومن الجدير ذكره أنّ المخرج اليهودي الديانة جمعته علاقة دامت 4 أعوام  مع الصحافية الفلسطينية رولا جبريل التي اقتبس روايتها (ميرال) وحوّله إلى فيلم سينمائي عام 2010.

الفيلم من بطولة خافيير بارديم الذي أتقن الدور وحصل عنه على ترشيح لجائزة أوسكار عن فئة أفضل ممثل وفاز بجائزة كان السينمائية عن الفئة نفسها. وقد أمضى بارديم شهراً ونصف الشهر مع لازارو كارييس شريك أريناس لدراسة طريقة تصرفه وكلامه ومشيته. جاء اختيار بارديم للدور ممتازاً حيث قدّم أداء تمثيلياً رائعاً واعتبر هذا الدور فاتحة له، إذ انهالت عليه الأدوار الصعبة والمتقنة حصل من خلالها على أهمّ الجوائز العالمية في مسيرته.

يشارك في الفيلم الممثل جوني ديب في دورين مميزين وملفتين، إذ يلعب دور الضابط الذكوري الذي يستجوب أريناس في مشهد يحوّله الشاعر جنسياً في خياله لينتهي بإقحام المسدس في فمه كي ينبذ مجمل أعماله، ويلعب على النقيض تماماً دوراً أنثوياً متمثلاً في رجل متحول جنسياً يساعد الشاعر على تهريب أعماله إلى خارج السجن عبر إقحام لفافات الورق في مؤخرته لإخراجها في فترة زيارة السجناء وإعطائها لزائرته لتهرّبها إلى الخارج.

وعن عنوان الفيلم، «قبل حلول الليل»، يقول أريناس في كتابه التي حوّله المخرج إلى هذا الفيلم: “سبق لي أن بدأت تدوين سيرتي الشخصية في كوبا وكنت قد عنونتها بـ«قبل حلول الليل». في ذلك الوقت، بما أني كنت أحيا كبدائي في الغابات، كان عليَّ أن أكتب دائماً قبل حلول الظلام؛ الآن يقترب الظلام نحو داخلي أكثر فأكثر، هذا الليل الأسود للموت، وعليَّ، بالفعل، أن أتمّ مذكراتي قبل حلول ذلك الليل”.

الفيلم: “قبل حلول الليل” Before night falls

إنتاج: الولايات المتحدة 2000

إخراج: جوليان شنايبل

كتابة: كونينغهام أوكيفي – لازارو غوميز كاريليس – جوليان شنايبل

تمثيل: خافيير بارديم – أوليفييه مارتينيز – جوني ديب – شون بين

المدّة: 133 دقيقة

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>