ديوان فرحات فرحات الأخير بين الفرد والمجموع/ باسيليوس حنا بواردي

مداخلة حول كتاب أن نشرب السراب للشاعر فرحات فرحات • مراوحة بين الشكل والمعنى وبين الحداثة في معناها الشعريّ المعاصر: الكتابة من داخل المجموع أم من داخل الفرد، وهل يمكن الجمع بين الاثنين؟

ديوان فرحات فرحات الأخير بين الفرد والمجموع/ باسيليوس حنا بواردي

غلاف "أن نشرب السراب"


|باسيليوس حنا بواردي |

نجتمع اليومَ هنا[1] لمناقشة كتاب أن نشرب السّراب للشاعر فرحات فرحات ابن الكرمل. فالكرمل حاضر علنا وإضمارا في قصائد الكتاب عامة. هذه المقاربة تحاول أن تلقي بعضا من الضوء على تجربة الشاعر من خلال قراءة نصّية متلازمة، هي أقرب لقراءة مذهب النقد الحديث المعوّل على تحليل العناصر الداخلية للنصّ أساسا، والمهمِلِ للعناصر الخارج نصية، على الأقل في المراحل الأولى لفهم النص ككينونة مستقلة. وأقول في المراحل الأولى على الأقل، لأنني أومن بأنّ الحضور الشائك للشاعر له مكانته في فهم النص، على أنّ حضوره قد يعرقل بعضًا من رؤية الناقد الموضوعية وتحيّد مركزية التفاعلات الشعرية الداخلية، تلك التي تقول كل شيء. وتتخذ هذه المداخلة، بأغلبها، وجهة القراءة الفاحصة؛ أي القراءة البنائية الأسلوبية للعمل الفنّي بحدّ ذاته، وتحليله تحليلا دلاليا، يكشف عن مقوّماته الإبداعية. ويتحدّد العمل النقدي فيها من خلال تهميش الحقائق المتعلقة بحياة المؤلف[2]، أو الحقائق الخارجية الأخرى، كحقائق التاريخ، أو العقيدة. وتتركز قراءتنا بالعمل الأدبي وخصائصه الداخلية، كغاية في ذاته. من هنا، يصبح النقد لبنة أخرى في الممارسة الحدثاوية، تأخذ على عاتقها دورًا مسؤولاً في عملية النهوض، واسمحوا لي أن اقتبس كلمات الناقدة خالدة سعيد لما فيها من إشارة إلى ما أقصده، تقول: “النقد اليوم مسؤول أكثر منه في أيّ ظرف آخر، لأنه يعاصر بداية نهضة. وإذن، فمن أولى مهماته ليس الاهتمام بنقد الأفراد بعينهم بقدر ما هو مرافقة حركة النهضة والإشارة إلى تياراتها والدفعات الجديدة التي تعطفها نحو وجهة جديدة تفتح أمامها مسالك جديدة، تزيدها زخمًا، أو ترسخ لهذه الحركة أساسًا، أو بكلّ بساطة تحمل قطرة متأججة تنضاف إلى الموكب الذي يتلمّس الطريق”[3].


المحور الأول: الانتماء الشعري

الكتاب عامة، ومن حيث انتماءاته الشعرية، مزيج من الرؤية الرومانسية الخجولة في التصريح عن وجودها، والواقعية النافرة من الواقعية المُشبعة بالشّعارات والتقريريّة والمباشرة. هذا المزيج المتضادّ في هيئته الخارجية إنما هو المزيج الأكثر شيوعًا في الشعر العربي الآنيّ، وهو يحمل في داخله نوعا من التوافق في ماهيته. فالرومانسية توفّر الشعور بالحرية والتدفق العاطفي والتوق إلى المثل الأخلاقية المفقودة والتمرّد الشعوري الذاتي، بينما تقدّم الواقعية صوت الجماعة وحيّزا من التواجد الفيزيائي شبه الحقيقي لنقد الوضع القائم موضوعيا. على أنه في كثير من الأحيان تأتي الحلول التي تقترحها هاتان المدرستان مصبوغة على الأغلب بالصبغة المثالية.

الشاعر فرحات فرحات أثناء الأمسية الاحتفالية بديوانه الأخير "أن نشرب السّراب"- الصورة عن موقع إذاعة "الشمس"

الوضع الوجودي الذي تصوّره نصوص الكتاب عامة وضع تغلب عليه مركبات سلوكية غير أخلاقية، وهي أنماط سلوكية تعكس وضع الحاكم والمحكوم، السيد والعبد، العربي والعالمي عامة. وضع محكوم بالبؤس واليأس؛ يقول فرحات: “أيها النائمون على مطايا الحراب/ ما عاد تاريخكم إلا قطعة حلوى/… ما عدت أحتمل التخلف في مسار التائهين/ ما عدت أحتمل التعصّب/ في قلوب المؤمنين” (قصيدة “رقصة الموت”، ص 82).

وتزوّدنا قصيدة “كبوة”، بشكل خاصّ، بمدى تشاؤم الشاعر من الراهن العربي على وجه الخصوص؛ فالفارس العربي المقداد، النموذج الأعلى للإنسان العربي أينما كان تواجده، يعاني كبوة دائمة تحيّد وجوده الفروسيّ، أو بكلمات أخرى تبطل ماهية وجوده. يقول: “كل صباح،/ يمتطي الفارس العربي جواده/ يكتشف أنه من خشب/… لن تكون لحصاني كبوةٌ/ لن أقاتل الريح/ وسيفي لن يشهر في وجه المستحيل”(ص 59). إنّ الفارس العربي على أنواعه، المفكّر والمنظر السياسي، يعاني قهرًا وجوديًا مردّه السلطة واليأس الداخلي.

يبحث الأنا الشعري المتكلم في قصائد الكتاب عن مساحات وجودية بديلة تخوّله إيجاد المثل والأخلاق العالية، مساحات تجعل العيش أقربَ إلى تفاعلات بيضاء لا تشوبُها حقائق واقع الوجود الإنسانيّ المعهود. فهو يحذّر جماعة الوضع القائم من أنه اختار الوضعيات المختلفة كليا عن ماهيتهم الروحانية وسلوكياتهم الاجتماعية. فها هو يغلق سماءَه أمام فراش الوضع الراهن، فراش لا براءة فيه، ويعلن براءته من مجموعة العيّنات التاريخية المشكِّلة لصيرورته الماضوية والمستقبلية، وللموروث الشعري. يقول: “فراشاتكم،/ لن تطير بعد الآن فوق سمائي/ وأهازيجكم/ لن تخرق بعد الآن طبلة أذني/ فأنتم خرافة ككلّ الخرافات/… وأضحوكة في سفر التكوين” (قصيدة رقصة الموت، ص 83).

الوضع الوجودي الذي تصوّره نصوص الكتاب عامة وضع تغلب عليه مركبات سلوكية غير أخلاقية، وهي أنماط سلوكية تعكس وضع الحاكم والمحكوم، السيد والعبد، العربي والعالمي عامة

الحلول المطروحة في أغلبية القصائد هي حلول الالتجاء إلى المساحات البيضاء، إذا أمكن التعبير؛ إنها بكلمات أخرى تكريس لملامح النظرة الرومانسية العامة في الكتاب، وهي أيضًا إثبات نصّيّ لذلك التمازج بين الرُومانسي والواقعيّ في القصائد. يقول الشاعر: “فأعود إلى سكرة أحلامي/ وكوابيسي الشخصية” (“كبوة”، ص 63). اللجوء إلى الذاتي الشخصي يعكس التماوج بين ذاتية الشاعر وهمومه الجمعية، على أنه في الأخير يعود إلى الذات مكتشفا ملاذه.


المحور الثاني: الأداء الموضوعي والذاتي

وإذا فرّقنا بين قضية الأداء الموضوعي، والأداء الذاتي في الشعر، وما لهذه القضية من أبعاد مهمة في التعامل مع النصّ الشعريّ، والممارسة النقدية، فإنّ النصوص الشعرية في الكتاب تقترب من الأداء الذاتيّ، مع بعض التحفّظات التي سأوردها عمّا قريب. أما الأداء الموضوعي فيعتمد، بالأساس، على الموروث العربي التقليديّ، الذي تحتلّ الفكرة الموضوعية قسمه الأكبر. بينما يعانق الذاتيُّ الذاتَ المبدعة من أجل الغوص في الأعماق الإنسانية، وهو، من هذه الناحية، ينسجم وقضيةَ الشخصانية في العملية الإبداعية. الشعر الذاتي يبتعد عن محاكاة الواقع السّطحي المباشر ويستعيض عن ذلك بالتعمّق في النواحي الإنسانية الفردية، ذات المردود الشمولي. الذاتي، إذًا، لا ينطلق من مسايرة الذوق العام، بل يبدأ وينتهي مع حدود الشخص المبدع، وليتّصل من خلالها مع الإرث الإنساني العام. هذه القضية ذات اتصال وثيق مع جماهيرية الشعر، أو نخبويته. وهي ترتدّ، أيضًا، إلى تحديد مفهوم تناول الشعر والنقد.

إنّ النصوص الشعرية المبثوثة في الكتاب تقترب من الأداء الذاتي كما ذكرت سابقا، فهي ليست محاكاة مبسطة للواقع، وليست محكومة في كثير من الأحيان بمحاكاة الواقع بمركباته العادية، على أن الشاعر قد فضل عدم الخوض في تجربة الغموض الشعرية، وهي تجربة تعني الدخول إلى سمة الحداثة الأولى، وأقصد الغموض. ليس الغموض كهدف إنما كأسلوب تعبيري مغاير. وإذا كانت الوجهة الرؤيوية للشعر هي ابتعاد عن قشور المسائل الحياتية اليومية الآنية، فهي، بكلمات أخرى، فعل الغموض والباطن، وبالتالي فعل المشاركة الذهنية المكثّفة بين النص والقارئ.

إذًا، كيف يتقرّب الشاعر من الأداء الذاتي؟ برأيي من خلال صدق التعبير عن الذات. والصدق، هنا، إنما يعني ممارسة الكتابة من خلال موقف حياتي منبعث عن الذات المبدعة، وغير المَقودة بتقاليد موضوعية، تملي عليها جوهر الإبداع. الأداء الذاتي، من هنا، يشكّل جبهة مغايرة رافضة.


المحور الثالث: الميتا-شعرية

إنّ للعملية الشعرية في الكتاب حضورًا مسيطرًا على نصوصه. فالشاعر قد أعطى لنفسه الحق في التعبير غير المباشر عن دور العملية الشعرية ووظيفة الشعر، من خلال قصائد تتضمّن في ماهيتها نقدًا معلنا أو مبطّنا للشعر والكتابة الشعرية. يتفرّع هذا المصطلح الميتا شعرية عن المصطلح العام ّ الميتا-أدب، الذي يتضمّن في داخله الميتا-دراما والميتا-قصة، والميتا-نقد والميتا-شعر الخ. في الأدب العربي يحمل هذا المصطلح أسماء عديدة منها القصيدة النرجسية، والقصيدة في مرآة ذاتها، القصيدة الملتوية على ذاتها. وتعكس النصوص الميتا-شعرية وضعيّتها من أجل الكشف عن العلاقة بين الشعر والواقع والشعر ونفسه، بغية إعادة بناء العالم وفق مشاحنات اللغة. إنها نصوص تعيد، من خلال القصيدة، النظرَ في العملية الشعرية ومقوّماتها. القصيدة الشارحة، إذًا، توازي في المحصّلة النهائية النصّ النقديّ للشعر، يعبّر الشاعر من خلالها عن وجهة نظره الشخصية من الكتابة الشعرية. على أنّ القصيدة الشارحة تهدف برأيي إلى ما هو أبعد من النقد الأدبي المجرّد؛ إنها محاولة من الشاعر لتبْئير (focalization) الفكرة الشعرية وصبّ الاهتمام على مدى مركزيّتها، ليس فقط في القصيدة، وإنما في إجراء أيّة تغييرات جذرية لوجودنا. فلنستمع لفرحات يقول:

“أغنيتي إن بُترت منك الأطراف/ فالنغمة ما زالت تدمي وهجا/ مطرا/ دمعا” ص 8.

“تمت القصيدة بعملية قيصرية/ خرجت مبتورة الأطراف/ بكت عليها الورقة البيضاء/ وهمّت بتقبيلها/ تبخر الحبر/ واختفت” ص 97

إنّ النصوص الشعرية المبثوثة في الكتاب تقترب من الأداء الذاتي كما ذكرت سابقا، فهي ليست محاكاة مبسطة للواقع، وليست محكومة في كثير من الأحيان بمحاكاة الواقع بمركباته العادية

إن الناظر في هاتين القصيدتين يعرف مدى مركزية العملية الشعرية في الكتاب. فالقصيدة الأولى “كيف سأبدأ أغنيتي” تتشابه بل تكمل الخط الشعري في القصيدة الأخيرة “ولادة”، مُوضحًا من البداية وخاتمًا مع النهاية أنّ العملية الشعرية عملية مَشوبة بالألم العظيم إلا أنه ألم يعطي الحياة لنصوص لها عالمها الخاصّ ككلّ ولادة تتمّ. الشعر في قصيدة “دعاء” ملجأ للإنسانية، تقيها من المحن، بل وقد يكون الشعر/الأغنية الملاذ الأخير للإنسان أمام محن الواقع الراهن. يقول: “فلتنثري هذا البكاء لأنني سأصوغه شعرا على صدر الزمن وأصونه في مهجتي ودفاتري ضربا من الإيمان في وجه المحن”.


المحور الرابع: قضية الصورة او الشكل

إنّ قيادة اللغة والسيطرة على التكنيك الشعري شرطان أوليان في الشعر، وفي الشعر الحديث، خصوصًا. “لا شعر من دون شكل. واللاشكل نقيض الفن، فطاقة الخلق هي، بمعنى ما، طاقة بنائية، مع ذلك ترفض أن تحدّد وأن تكون لها أشكال، أو قوالب نهائية”. (راجع: شعر، ع 21، 1962، ص 129). هذا وفي مرحلة متأخرة يعود أدونيس ويخرج للدفاع عن أهمية شكل القصيدة، أو العمل الإبداعي، وعن “نظام القول” فيه، ليصبح هذا النظام عنده، المرتكز الأساسي في عملية الإبداع والثورة؛ فالشكل تعبير عن قيم المبدع ومدى خروجه عن السائد، “فموضوعية هذا النتاج أو شيئيته لا تكمن في مادة القول، وإنما تكمن في نظام القول [...] ولهذا فإن النقد الذي يريد أن يغير؛ أي أن يعيد تكوين الواقع في اتجاه الثورة، لا يمكن أن يكتفي بتفسير محتوى النص الذي ينتقده، وإنما يجب أن يتناول في الدرجة الأولى نظامه القولي؛ أي بنيته الشكلية-الإيقاعية، أعني موضوعيته، أو شيئيته كنص معطى للقارئ”. ويحدّد النقاد، من وجهة نظر فلسفية، أهمية الاتحاد الكلي بين المادة والصورة، أي بين المضمون والشكل، على أنّ العلاقة بينهما تشكّل الموجود في العالم، “كل موجود لا يقوم وجوده ميتافيزيقيا، إلا بمادة وبصورة، لا الصورة توجد بلا مادة ولا مادة توجد بلا صورة، إذ الكائن الموجود مادة مصورة؛ من المادة ماهية ومن الصورة وجود وهما معا يصير الموجود”. (راجع: شعر، ع 22، 1962، ص 98.) وإذا كانت الصورة الشعرية في هذا الكتاب متأطرة ضمن أشكال تعبيرية غنائية محدودة، تعتمد شعر التفعيلة والقصيدة الكلاسيكية، فإننا أمام تجربة أخذت على عاتقها عدم الارتطام أو على الأقل عدم الاختراق شكلا وتعبيرا، وقد يصب ذلك في مصلحة جماهيرية الشاعر أو العكس.


المحور الخامس: مفهوم الحداثة

وإذا كان المعنى المركزي لمصطلح الحداثة ينهض “على مفهوم المغايرة، وتعارض الصيغ الحديثة مع كل ما هو تقليديّ، ونمطيّ، وأحاديّ، وهذه التعددية التي هي من صفات الحداثي ليست سوى نتيجة لعجز البنى القديمة عن حلّ مشكلات تفتح الوعي الذي ظهرت مؤشراته جليا مع بداية عصر التنوير، والذي أبدى رغبته في مخالفة العهود السابقة انطلاقا من القطيعة المعرفية التي دعا إليها التفكير الفلسفي، أو الميتافيزيقا الحديثة، والذي أخضع القيم المعرفية لمعطيات العقل، والبرهان، والتجريب، فإنّ هذه التجربة الشعرية للشاعر فرحات فرحات تقترب من النموذج الحداثي بشكل حذر، وتقرّر البقاء ضمن الأشكال التعبيرية الرومانسية بشكل ما، والنماذج الواقعية بطريقة ما.

“لا شعر من دون شكل. واللاشكل نقيض الفن، فطاقة الخلق هي، بمعنى ما، طاقة بنائية، مع ذلك ترفض أن تحدّد وأن تكون لها أشكال، أو قوالب نهائية”

هذا الاقتراب الحذر عند فرحات يعود برأيي إلى تبنيه أدب الانفصال السياسي. فقد تعوَّدَ الناظر إلى الشعر العربي الحديث الالتفات إلى مسألة طالما ترجع إلى مركز دائرة النقاش الأدبي؛ ونقصد مسألة الدور الذي على الشعر/الشاعر تأديته تجاه المسائل الجمعيّة المحيطة به. وتحيلنا هذه القضية بالضرورة إلى مصطلحي “أدب الاتصال”/ الأدب الأيديولوجي و”أدب الانفصال”/ السياسي، بمعنى أنّ الاتصال/الأيديولوجي، منطلِقا من مفهوم المحاكاة، يتمّ من خلال التصاق الشاعر بالنظم المعرفية والأخلاقية الثابتة. أي أنّ النصّ الأدبي عاكس سلبي للأنساق المعرفية الجاهزة.

الأدب في هذه الحالة لا يحدث تغييرا في الموضوعات، أو في تصوّر هذه الموضوعات، إنه في الحقيقة أدب يعكس الصورة الثابتة للعالم الموجود، من دون محاولة تغيير في مفهومه أو وعيه. العقل من هذا المنظور يشغل حيّزا سلبيا في إدراك العالم، لأنّ الصورة اللفظية الكلامية تتطابق تماما والصورةَ الذهنية، وعليه فإنّ الأديب وفق هذا المفهوم يلتزم بمحاكاة عالم جاهز من دون أية محاولة تذكر منه لإعادة تشكيله. أما في ما يتعلّق بمعنى أدب الانفصال/السياسي فهو انفصال المبدع عن العالم الخارجي بملامحه الثابتة، نحو غوره وأعماقه الإنسانية والعاطفية الداخلية، ليصل إلى العام من خلال الخاصّ، ويتوسّل الرّمز للكشف عن الأعماق الإنسانية. بكلمات أخرى هل يمكن للشاعر الانفصال عن الذات الجمعية والغوص في هموم الفرد الإنسانية، أم عليه الانصياع لقسريات جمعية مفروضة عليه تجنّده لمصلحة العام والكلّ، من دون الالتفات لفرديته أو فلنقل لتميّزه الفردي؟

المسألة إذًا، قد تبدو أنها تقف عند حدّين متقاطبين؛ القطب الجمعيّ يولي اهتمامه لخطاب الواحد، الكلّي، الاندماج والانخراط والانصهار، وبالتالي للولاء، أما القطب الفردي فيصبّ تركيزه على خطاب المتعدِّد، المختلف، التميّز والفرادة والإبداع، وبالتالي الرفض. فالقسريات الجمعية، الأدبية منها وغير الأدبية، تبحث عن مادة التلاحم والانسجام انطلاقا من سعيها لتأسيس النظام الواحد. من جهته يقوم القطب الفردي على محاولة بناء مختلفة في جوهرها مفادها تأسيس لنظم فردية متشعّبة، تتشابك من خلال اختلافاتها المتعدّدة الألوان. على المستوى الأدبي، يعني الولاءُ الانسيابَ ضمن التيار المألوف، لغةً ومضمونا وشكلا، بمعنى العُدول مُسبقا عن الإبداع الأدبي المتجدّد على الدوام. التجديد في الإطار الجمعيّ يجب أن يراعي الظروف العامّة، أي أنه التجديد المشروط بشرط الولاء للإطار. يجمع في داخله مكوّنات متناقضة بشكل حادّ. فالتجديد المشروط بالهم الجمعيّ المسيِّر يعني إلغاء صفة الخلق عنه؛ إنه من هنا تجديد سطحي زائل، لا يخدم على المدى البعيد حتى الهمّ الجمعيّ.

على أن أمام هذين القطبين قد ينبثق قطب ثالث يجيب بالأخير عن متطلّبات المبدع المأزوم أمام النسق الجمعي السّكونيّ. هذا القطب الذي يحمل بعض سمات التوفيق يتيح للمبدع التزامًا من نوع آخر؛ التزامًا بالقضايا الوجودية والكيانية الإنسانية التي تحيد عن الشعارات المبتذلة المألوفة. هنا تدخل تجربة فرحات الشعرية منظور الحداثة، بشكل حذر. من هنا يعالج فرحات كفرد مبدع قضاياه وهمومه من منطلقاته الفردية لتصبّ، كخيط مميّز وجلي، ضمن نسيج العلاقات الجمعية المتشابكة. إنه، إذًا، ذلك التشابك المثري القائم بشكل مستقل في البناء الجمعيّ، غير المنسلخ، وفي الوقت ذاته غير المنصهر في الإطار.

(الكاتب محاضر في قسم اللغة العربية في جامعة حيفا وحاصل على رسالة الدكتوراة في الشعر العربي المعاصر)



[1] ألقيت هذه المداخلة في أمسية شعرية جرت في دالية الكرمل في مطلع تشرين الثاني 2010.

[2] ونعني به نقد السيرة الذاتية (autobiography)، حيث يتحوّل العمل الأدبي ليكون مجرد تكأة لمقولة نفسية أو فلسفية. ويكون النص، في هذه الحالة، مصدرا لوثائق وأغراض؛ أي يكون الأدب شاهدا ونقطة انطلاق لتفسير ما وراء العمل الأدبي.

[3] راجع مقال خالدة سعيد (تحت اسمها المستعار خزامى صبري)، “أدونيس في البعث والرماد، أو تجربة البعث والتجدّد”، في شعر، ع 5، 1958، ص 92.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>