الفيلم الفلسطيني في قبضة السوق والممول/ فراس خوري

الفيلم الفلسطيني في قبضة السوق والممول/ فراس خوري

لا بدّ لارتباط الفن بالسوق أن يؤثر على فحوى العمل الفني. قليلة هي الأعمال السينمائية في العالم التي يمكن اعتبارها متحرّرة من الارتباطات ومن توقعات الجهة المموّلة… علينا أن نعتمد أكثر على أموالنا وطاقتنا العربية

المخرج الفلسطيني إبراهيم حسن سرحان (1915 - 1987)

المخرج الفلسطيني إبراهيم حسن سرحان (1915 – 1987)

>

|فراس خوري| 

كثرت في السنوات الأخيرة المحافل الدولية التي تحتفي بـ “السينما الفلسطينية”؛ فبالإضافة إلى مهرجانات الأفلام حول العالم التي تصرّح باحتفائها بـ”السينما الفلسطينية”، هناك مهرجانات أخرى نراها تكرّم “السينما الفلسطينية” ضمن فعالياتها. ورغم تأييدنا وتشجيعنا ودعمنا لمثل تلك البرامج، لا بدّ من وضع النقاط على الحروف. فالحقيقة هي أنه لا وجود لـ”سينما فلسطينيّة”.

قبل أن أُهاجَم على الجملة الأخيرة، تمهّلوا لحظة، وحاولوا أن تذكروا عشرة أفلام فلسطينيّة روائيّة طويلة. تخيّلوا مثلاً أنّ عدد الروايات الفلسطينية التي كتبت، والمسرحيات الفلسطينية التي مُثلت مساوية لعدد الأفلام الفلسطينية الروائية التي صوّرت، هل كنا سنقول وقتها إن هناك أدباً فلسطينياً أو مسرحاً فلسطينياً؟ لا وجود لسينما فلسطينية، بل هناك أفلام بادر إليها أساساً وأخرجها سينمائيّون فلسطينيّون، وأغلب هذه الأفلام تتعلّق بطريقة أو بأخرى باللحظة التي توقّف التاريخ عندنا عن العدّ؛ “النكبة”.

أدّت النكبة إلى تعثر سيرورة تطوّر سليمة للسينما الفلسطينية، بحيث يمكن وحتى الساعة، تصنيف أغلب الأفلام الفلسطينية كـ”سينما مقاومة”، أكثر من أي تصنيف آخر. وحتى حين نتذكّر النكبة في أفلامنا، فنحن إنما ننتقد/نقاوم المحتل الصهيونيّ، الذي ما زال ينتهج نفس الأساليب القديمة حتى يومنا هذا.

إن أحد مساوئ “سينما المقاومة” هو شيوع الخطاب السياسي المباشر في أفواه الشخصيات، فعوضاً عن استعمال أدوات التعبير السينمائية المختلفة، يضْعُف كاتب السيناريو أو المخرج أمام الفرصة السانحة بأن يصرخ ويعبّر عن رأيه بشكل مباشر. شيوع الخطاب السياسي المباشر في الأفلام الفلسطينية، سببه الإمكانيات المادية المحدودة المتوفرة من أجل صناعة هذا النوع المكلّف من الفنون. إذ يعرف صانعو الأفلام الفلسطينيون المجهود والوقت الطويل الذي يتطلبه تخصيص الأموال للفيلم الواحد، فتراهم وكأنهم يتشبّثون بالفرصة التي أتيحت أمامهم للبوح بكلّ ما يفكرون، الأمر الذي يثقل على المشاهد ويبعده عن التعاطف مع الشخصيات وبالتالي عن صراعها وقضيّتها.

نسقط الفرد على القضية بدل إسقاط القضية على الفرد

تحول هذه الحقائق عادة دون إمكانيّة مساهمة الأفلام الفلسطينيّة في بناء السرديّة الفلسطينيّة الجمعيّة (وأنا لا أتحدّث هنا عن تشجيع سينما قومية مجيّشة، بل عن السيرورة الطبيعية والتلقائية للسينما)، حيث يتم إسقاط الفرد على القضية عوضاً عن إسقاط القضية على الفرد. السردية الجمعية التي تبنى بواسطة الأدب والمسرح والسينما، كانت وستبقى تروى عن طريق “قصة شخص معيّن” أي عن طريق قصة الشخصية المركزية في العمل الفني، وصراعها الخاصّ في ظلّ الظروف الاجتماعية والسياسية. من خلال ذلك، يمكن للقارئ أو المشاهد أن يضع لبنة إضافية من قصة المجتمع أو الشعب الذي ينتمي إليه البطل الدرامي. حين يتعاطف المتلقي، فهو يتعاطف مع شخص معيّن، لا مع شعب.

بإمكان الفيلم أن يكون فيلماً مقاوماً من دون أن يستعمل الخطاب السياسي المباشر الذي يُفقده قيمته الفنية والدرامية. الطريق الوحيد لتحصيل ذلك هو فقط طريق التثقيف السينمائيّ وتوسيع رقعة الفاعلين في العمل السينمائي الفلسطيني. لكن حتى لو كانت هناك نسبة عالية من السينمائيين المثقفين الجيّدين في فلسطين واللجوء، فهل بإمكاننا أن نروي قصصنا بحريّة؟ الحقيقة أنه وإذا ما أردنا مثلاً أن ندرج شخصية “القائد” الصهيوني ورئيس الحكومة الإسرائيلي الأول دافيد بن غوريون في فيلم فلسطيني، فلا مفرّ من تصويره إلّا مجرماً؛ فالشخص حاول محو شعب بأكمله عن خارطة أرادها لمجموعة أخرى. لكن الحقيقة الأخرى هي أنك إذا أردت أن تتكلم عن إجرام هذا “الأب المؤسّس” للمشروع الإسرائيلي، فلن تحصل على دولار واحد من صناديق التمويل الأوروبية، والتي من دونها لن يتمكن معظم السينمائيين الفلسطينيين من إخراج أفلامهم. ثم إذا نجحت بالتصوير في نهاية الأمر من غير معونات الصناديق الأوروبية، ووافق مهرجان أفلام غربي واحد على عرض فيلمك ستُتهم أنت والمهرجان بـ “اللا-سامية”. لا طريقة لتجميل هذه الواقع المرّ. إنّ ارتباط الفن بالسوق لا بدّ أن يؤثر على فحوى العمل الفني. قليلة هي الأعمال السينمائية في العالم التي يمكن اعتبارها متحرّرة من الارتباطات ومن توقعات الجهة المموّلة. لكي نروي قصصنا في السينما بحرية أكثر، علينا أن نعتمد أكثر على أموالنا وطاقتنا العربية. إنّ الأدب والرسم وحتى المسرح الفلسطيني يتعامل مع النكبة بحرية أكثر لأنّ هذه الفنون تكلفتها أقلّ من تكلفة السينما وبالتالي أقلّ ارتباطاً برغبات وتوقعات المموّلين. ما زلنا نخطو خطواتنا السينمائية الأولى، ولا بد من أن نبدأ بالمعالجة السينمائية للقصص المؤسسة، إلا أن هذا يتطلّب منّا استقلالاً في تمويل أفلامنا. هذه هي الطريقة الوحيدة لكي يتطوّر عندنا ما يمكن أن ندعوه “سينما فلسطينية”. حتى ذلك الحين سنستمر بصناعة أفلام فلسطينية فقط.

(عن “العربي الجديد”)

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>