أنا ما كُنتُ عليهِ قبلَ أن أعي “الله”/ أحمد كيّال

هذا الإطار الديني بكُليّته هو إطار غير مُتَأصِّل في الكيان الإنساني. الإيمان ليسَ فِطريًا ■ لتنمية فِكر “نظيف” و”خالٍ من الشوائب” علينا “بَسْتَرة” اللغة ■ “ستأتي حين تذهب، ثم تأتي حين تذهب، ثم يبتعد الوصول”

أنا ما كُنتُ عليهِ قبلَ أن أعي “الله”/ أحمد كيّال

"المسيح العجيب": أن تؤمن أو لا تؤمن هذا هو السؤال! - فكرة وتصميم: وليد (لتكبير الصورة الرجاء الضغط عليها)


|أحمد كيّال|

أحمد كيّال

إبحَث عَن الفِكرة؛ تساءَل أو كُفَّ عَن الوُجود.

ألهو بالفِكرة، أعبَثُ بها بأصابعي وأظفاري غير المُقلّمة وأشحذُها. أشحذُها بتمعُّن.

تسألُني صديقة عن:

هذا الوجود العاري من الأسماء، من الأشخاص، من المواقِف، منَ التَغييرات، من كُلِّ ما يفعَلهُ الزمن؛ كُل هذا سيلاقي في النهاية حقيقة مُطلَقة وهي الموت- العَدَم. أليسَ كذلِك؟

الآن أسألُكَ: أليسَ من الطبيعي أن أُفَكِّر لأجلِ ماذا أنا هُنا الآن على بعدٍ مسافة ما من تِلكَ الحقيقة المُطلّقة؟”

تُذكِّرُني وتَذكُر لي قولين، أوّلهما نَفَثَهُ فريدريك نيتشه من تَحتِ شاربِه “الله مات”، والثاني كان قولُ إيفان -إحدى شخصيات دويستويفسكي “إن لَم يَكُن الله موجوداً، فكُلُّ شيءٍ مُباح”.

إن كانَت ماهيَتُنا مرهونة بوجود الله، إلامَ نُولي في حال انعدام وجودِه؟

ماذا لو كانَ الله موجوداً؟

هل تؤمِن بالله؟”- كطالب فلسفة يُطرَح عليَّ السؤال دائماً كالصفعة. ووجهٌ ما ينظُرُ وينتَظر إجابتي باعتقادِهِ أنَّ الأجوبةَ لدي مُجَهّزة، مُجّففة ومحفوظة.

تَردُدي بالإجابة أو امتناعي عن الإجابة، عادةً ما يكسوني بثوبِ “الملحِد”.

لدي اعتِراضات على هذا النَعت واعتراضٌ على وَضعي بين المطرقة والسدّان وحصري بينَ إجابتين (نعم، لا). هناك إجابة ثالثة ورابعة. اعتراض على اللغة والمفاهيم التي وُضِعَت في الصميم الفِكري.

أنا أرفُض أن أُعَرِّفَ نفسي ضمنَ نظام المعتقدات هذا. لا أحَد يستطيع إلزامي أو إجباري على الخيار بين إيمان أو إلحاد.

هذا التعريف، مَنْح الإنسان الوَصفَ الديني، إن صح التعبير، وهذا الإطار الديني بكُليّته هو إطار غير مُتَأصِّل في الكيان الإنساني. الإيمان ليسَ فِطريًا.

أنا ما كُنتُ عليهِ قبلَ أن أعي “الله”. وأنا أمتعِض من هذا الإرهاب اللغوي، بوصفي بـ “الملحِد”. بوصفي كنفي للمؤمِن على وجه التحديد.

الوضع الطبيعي للإنسان هوَ كونَهُ إنسانًا فوقَ كُلِّ شيء. من يختارُ ألا يؤمِن فهو إنسان، نُقطة. من يختارُ أن يؤمِن فهوَ إنسان مؤمِن. هذا كُلّ شيء.

أنا إنسان خالٍ من الإضافات والمواد الحافِظة.

 

لقَد أصبحَت اللغةُ لغَة مُحرِّضة. فضلُ “تحريض” اللغة كبير في بلورة فِكرِنا وأفكارنا. لُغَتُنا مليئة بالأفكار المُسبَقة المُنسَلّة إليها منذُ بدايةِ تكوين الكلمات الأولي. أي أنَّ اختيارنا لدلالات ألفاظٍ معينة دونَ سِواها يأتي مُحَمَّلاً ومُحَمِّلاً بالأفكار المُسبَقة. كلمات كـ “مُلحِد”، “لوطي”، “شذوذ جنسي”، “زِنا”. هذهِ كَلِمات ذات دلالات سلبيّة أو ذات سياق سابِق لصكّها، لهذا تحتوي على أحكام مُسبَقة من دون الإفصاح بأكثر مِنها نفسها.

لتنمية فِكر “نظيف” و”خالٍ من الشوائب” علينا “بَسْتَرة” اللغة. علاقتنا باللغة ليست أُحاديّة الاتجاه. كما نستَعمِلُ اللغة للتعبير عَن أفكارنا. للّغة تأثير على تشكيلِ هذهِ الأفكارِ والفِكر. اللغة أداة للتفكير، لكن خلافًا للتفكير، اللغة محدودة. نقاش اللغة وعلاقتنا بها أوسعُ من أن أحتويه في مقالتي.

أعودُ إلى موضوعي إذًا.

أبحثُ عن الله إذًا، إلى أن يغدو جسدي يمامة تبحَثُ عن قصفةِ زيتون. وهذا البحثُ موت. وهذا الموتُ حريصٌ جِداً على ألا أموت. “ستأتي حين تذهب، ثم تأتي حين تذهب، ثم يبتعد الوصول”- تطِنُّ هذه الكلماتُ في أذني.

 

بعيداً عن إيجاب أو سَلب وجود الله توجد الإمكانية الثالثة، وهي اللأدريّة. الإقرار بعَدَم المعرفة وانعِدام القرار. والانشطار بينَ قُطبين. هذهِ الإمكانية لا تَحُلُّ شيئاً.

الإمكانية الرابعة، هيَ عَدَم الיكتِراث. إلغاء هذا النظام المُعتقّدي لأسباب تطرقتُ إليها جزئياً أعلاه.

- لماذا علينا إلغاء الحوار اللاهوتي؟

(للتوضيح: المقصود بـ “الله” هو الله الديني)

أولاً، صُعود العِلمانية. العِلم. لا شيءَ يُثبِت وجود الله (حتى الآن، سأدعُ مكاناً لمن يُفضِّلُ الشّكّ). صحيح أنَّ لا شيء يُثبِت عَدَم وجود الله أيضاً. المشكلة هنا أنّهُ من غير المُمكِن إثبات عَدَم وجود الله. “عدميّة الوجود” هو مصطلح يُعاني إشكالاً ما. إثباتُ وجود الشيء يعتَمِد على قدرَتُنا تيقّنه حِسياً أو فِكرياً. لا يُمكِن تيقّن الانعِدام.

ثانياً، العِلمانية لا تكفي، يجب التركيز على العقلانيّة. عِلمانيّة من دون عقلانيّة هي كالجّسَد من دون رأس. وقَد شهدَ التاريخ ولا زال يعرِض ما خلقتهُ العِلمانيّة من دون العَقلانيّة. أقبَحَ ما دبَّ في الأرض. النازيّة، الفاشيّة، الصهيونيّة وخِلافه مِن أيديولوجيات ذات أساس عِلماني يفتَقِر العَقلانيّة.

العِلمانيّة فحوى لكنها تحتاج إلى إطار يُوجّهُها. هذا هو دور العقلانيّة. العقلانيّة هي مصدر الدستور الأخلاقي. لا حاجة لإله ليُملى ما هوَ صحيح وخَيِّر.

أنا لا أدّعي عدَم وجود اللّه، أو وجوده. في كلا الحالتين، عليّنا طَرح الأسئلة الصحيحة. وفي حال وُجِد الله أو لم يوجَد، هَل علينا أن نتصرّف بشكل مُختَلِف؟ هل الخَير مشروط بوجود الله؟

هل لله (في حال وجودِه) إيمانٌ بِنا كبَشَر؟ هَل نَحنُ حِملَ أنفسِنا؟

 

الإحِالة إلى العَدَميّة ومُشكلة البحث عن المعنى

أرخميديس طَلَب نقطة اتكاء واحدة ثابتة كي يزيحَ العالم. المشكلة (مُشكِلتُنا) في البَحثِ عن المعنى هي في النقطة. نقطة اتكائنا الأرخميدية في البحث عن المعنى. نقطة البداية التي منها نستوعب، نَعي وَنَتَيقّن في محاولتنا إغلاق الفجوة بين “المعنى” و”حقيقة موضوعيّة” من جهة، ومُنطَلَق ذاتي من جهة أخرى.

أنا. أنت. نحنُ(نا) جميعاً، هذا الكوكب بأسره في هذا الكون المُتّسِع باستمرار، عديمي أيّةَ معنى (موضوعي). وجودُنا أو إنعِدامه بالكادِ يَهرُشُ جِلدَ الكون.

الغاية والمعنى ليسا من خاصيّات الكون كما الحال بالنسبة للكتلة والطاقة. بالأحرى، الغاية والمعنى هما مِن خَلق البَشَر- فخرُنا ومأساتُنا”. (برنارد ليكيند)

المذهَب الذاتي هو الحقيقة” وبالتالي “الحشد هو عدم الحقيقة” هذا ما جزمهُ الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغراد. حينَ نمتَثِلُ بالغير تتلاشى الذات (ذاتُنا) بين الجمهور. حيثُ أنَّ لا مكان للفصل بين الأنتَ والآخر. هذا ما يفعَلهُ الدين. الدين يُلغي الذات، يُضَحي بها من أجلِ معنىً وحقيقة موضوعية في الكون (طاعة الله مثلاً).

نيتشه، كَكيركغراد، وَصَلَ إلى أنّ “الحشد هو عَدَم الحقيقة”. وِفقاً لنيتشه النظام الأخلاقي اليهودي-مسيحي (ممكن إضافة الإسلامي أيضاً) صَعَدَ كتَعبير عن امتِعاض الضعيف ضدّ القُوّة المُمارسة عليه من القوي كأداة للتصدّي لتلكَ القوّة. وَمع مرور الوقت تمّ تذويت هذا النظام الأخلاقي على صورة وَعي (التَأثير واضِع في اللغة كما ذكرت أعلاه).

نتيجة لذلك، الفرد ذو الحُكم والتشريع الذاتي لم يَعُد إلّا كحيوان في قطيع، حيثُ مرّنَ نفسه على الانصياع وانعدام الحُريّة بواسطة التكيُّف مع معايير أخلاقية “عالميّة” وشاملة.

هذه هي عقليّة القطيع (الحشد). لكن بالرُغم مِن ذلك، رأى نيتشه بأنّ لدى الفرد القدرة على أن يكونَ شيئاً آخر. “القِيَم العالية” (الدينيّة) وِفقاً لنيتشه، بدأت في القرن التاسع عشر بالحَطِّ من نفسِها. مثلاً قيمة “قول الحق”، حطت من نفسِها بواسطة العِلم. نظريّة داروين للتَطوُّر (مثلاً) أو اكتشافات جاليليو جاليلي. هذهِ الانقلابات العلمية قد أضعفت مِن أساس الإيمان بالله، حيث أصبحَت الميول إلى العِلم كمَرجع أوّلي بدلاً من الكنيسة وبالتالي بدأ العالم بإزالة السِحر من العالم وإزالة المفاهيم الأخلاقيّة المقبولة سَلَفاً.

من هذه النقطة سينطوي الفَرد على نفسه. ضعيفو البُنية سيقعون ضحيّة لليأس في وجه العَدَميّة إثرَ الإدراك بأنّ الحياة تفتقر لمعنى جوهري. بينما في كفّة الميزان الأخرى، العَدَميّة هي فرصة بالنسبة لِـ “القوي”. فُرصة تَحرُّرُه كي يأخذ المسؤولية عن المعنى. ومُمارستهُ الإبداع في تَعَدّي قِيَمِه وتحويلها وبناء نظام درجات مفاهيم جديد.

جان بول سارتر يُقدِّم أكثر ما هُوَ تمييزاً في مذهب الوجوديّة. “الوجود يسبُق الماهيّة”. أي أنّ الماهية تتبع الوجود. أي أنّه لا توجَد ماهيّة مُحددة لنا قبلَ الوِلادة.

فَكيفَ نعيش؟ كيفَ نُحَقق ذاتنا؟ من غَير المُمكِن إعطاء وصف شامِل لما يعنيه أن تكون إنساناً أو إملاء مذهب حياتيّ معيّن. يَتِم صُنع وبلورة وتحديد المعنى لحياتنا داخِلَ ومن خلال ممارسَتنا لوُجودِنا. هَدَفُ الحياةِ أن تُحيا. علينا ألا نَضَعَ العربة أمام الحِصان.

حتى وإن كان الوجودُ لَحظيّ، فنَحنُ لا نحيا لنموت، نحنُ نحيا لِنحيا.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

6 تعقيبات

  1. الرغيف العجيب، هادا المهم حسب رأيك؟!!! وضعك صعب

  2. أنا مش ناطق بإسم هيئة التحرير, لكن أظن أنه تم التحرير, جلّ من لا يسهو. بفضّل ما أفتح جبهة لنقد قديتا هون, أظن هيئة التحرير بعنيها هيك ملاحظات, فممكن تتواصلي معهن وتعبري عنهن.

    الخَّطأ على عاتقي. أنا بتحمّل مسؤوليّة جميع أخطائي. :) ويسعدني أي ملاحظات أو نقد أو نقاش حول النص.

  3. نفهم من هذا أن قديتا مساحة تلمّ شمل التدوينات المختلفة دون أن تقع تحت يد المحرّر قبل النشر؟

  4. سعيد بملاحظتك, شكرا على التصحيح.

  5. أظن أن كلمة علمانية تُقرأ بفتح العين (عَلمانية)، ومصدرها من كلمة عالَم وليس من عِلم،

  6. مقلتلناش: بتآمن بالله؟
    :))))))

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>