للعودة ضفتان: فلسطين واللاجئون

إسرائيل تسيطر على المعلومات عن املاك اللاجئين وتجعلها شأنًا إسرائيليًّا داخليًّا خاصًّا، مختزلةً بذلك حصّة وحقّ الشعب الفلسطيني في هذه المعلومات التي من شأنها تحديد ملامح حقّ العودة

للعودة ضفتان: فلسطين واللاجئون

من أملاك اللاجئين المنهوبة


|حنين نعامنة|

لم يكن لمستندات السلطة الوطنية الفلسطينية التي قامت قناة الجزيرة باستعراضها، أواخر الشهر الماضي، على ما جاء فيها من كشف لاقتراحات “بديلة” للتنازل عن حقّ العودة الفلسطيني، إلا لتعني منح الوصاية الشرعية لإسرائيل على أملاك اللاجئين الفلسطينيين الموجودين في الشتات وفي أرض فلسطين التاريخية، والتبنّي الكامل للخطاب الإسرائيلي الذي يشترط ويحصر حقّ العودة بحدود الدولة الفلسطينية العتيدة أيًّا كانت، علمًا بأنّه لا مبرّر إنسانيّ أو أخلاقيّ أو قانونيّ يجيز ذلك. فبداية محنة اللاجئين الفلسطينيين تعود إلى ما قبل مفاوضات ومخطّطات “الدولة الفلسطينية”، وجذورهم تضرب عميقاً في أرض فلسطين لا في “دولة فلسطين”، وفي تلك الأرض بقيت ممتلكاتهم ماثلة في الذاكرة فيما هم ينتظرون عودتهم إليها.

تشمل ممتلكات اللاجئين الفلسطينيين، بالإضافة إلى الأراضي والعقارات، الممتلكات المنقولة الفردية والعامة، وحسابات البنوك والأسهم التجارية، وممتلكات الإرث الأدبيّ والثقافيّ من المكتبات العامة والخاصة واللوحات والوثائق والمستندات وغيرها، علاوةً على أملاك الوقف الإسلامي من مساجد ومقابر ومبانٍ أخرى. وقد قامت إسرائيل بشرعنة الاستيلاء على هذه الأملاك منذ نكبة فلسطين عام 1948، عبر سنّ “قانون أملاك الغائبين” عام 1953، الذي تمّ وفقًا له الإعلان عن اللاجئين الفلسطينيين (بمَن في ذلك المهجَّرون الداخليون) كـ”غائبين”، تُحَوّل أملاكهم إلى “الوصيّ على أملاك الغائبين”، “لحماية” هذه الممتلكات إلى حين إيجاد حلّ لقضيّة اللاجئين. ورغم امتعاض واستنكار الأمم المتحدة من سنّ القانون، قامت إسرائيل بتهدئة زوبعة الغبار التي لفّت الحدث آنذاك، بتقديمها توضيحًا مفاده أنّ وصاية إسرائيل على هذه الأملاك مؤقتة إلى حين التوصّل إلى اتفاق سياسيّ مستقبليّ بهذا الشأن مع الفلسطينيين.

إلا أنّ إسرائيل دأبت، على مدى السنوات الستين الأخيرة منذ نكبة فلسطين، على التصرّف والتفريط بهذه الممتلكات بدون أية مسوّغات قانونية، والتعامل معها كغنائم حرب دون حسيب أو رقيب، إمّا عن طريق نقلها لتصرّف “الصندوق القومي اليهودي” وإلى عهدة ما سمته بـ”سلطة التطوير” التي قامت بتأجير البيوت والمساجد وغيرها بعقود تمتدّ إلى قرن من الزمن، وإمّا عن طريق بيع جزء كبير منها عبر مناقصات وصفقات علنية وسرية، ناهيك عن هدمها بعد أن باتت حطامًا أو مباني آيلة للانهيار نتيجة لعدم ترميمها والاعتناء بها لعقود طويلة. فلم يأتِ القانون الذي سنّه “الكنيست” الإسرائيلي في شهر آب 2009، والذي يجيز “خصخصة” 800 ألف دونم، جزء كبير منها هي أراضي اللاجئين الفلسطينيين، عبر تسويقها وبيعها في السوق الحرّة لأفراد وجهات ربحية، شرط أن يكون هؤلاء مواطنين في إسرائيل أو يهودًا وفقًا لقانون العودة الإسرائيلي، إلا للإجهاز على ما تبقّى من هذه الممتلكات وتصفيتها بالمزادات العلنية بتغطية قانونيّة، علمًا بأنّ ذلك يعتبر منافيًا للمواثيق الدولية ولقرار الأمم المتحدة رقم 194 الذي أقرّ عودة اللاجئين الفورية إلى أراضيهم ومساكنهم.

ولم يكن غريبًا أن يُحاط تصرّف إسرائيل بالأملاك الفلسطينية الفردية والعامة والوقفية، منذ السنوات الأولى التي تلت النكبة، بالسرية وبالتستّر على أفعالها بهدف بلورة خطّة إستراتيجية لتصفية حقوق الملكية الفلسطينية على هذه الأملاك، كإستراتيجيّة لتصفية حقّ العودة. ويُشكل القانون الإسرائيلي الأخير الذي تمّ سنّه في آب 2009 نقلة “قانونية” مفادها الانتقال إلى المرحلة التالية من عملية التصفية هذه، ألا وهو البيع النهائيّ لممتلكات اللاجئين. وما كان لإسرائيل أن تتّخذ خطوة كهذه بهذه العلنية، لولا توفّر بيئة سياسية داعمة في إطار التفاوض المتباين القوى حدّ السخرية بينها وبين الفلسطينيين، حيث نجحت في قلب المعادلة الثابتة والشرعية المبنية على الترابط العضويّ بين حق العودة وأملاك اللاجئين الفلسطينيين، بحيث يعني تقويض الأوّل، بالضرورة وبشكل مباشر على ضوء المعطيات الأخرى التي فرضتها إسرائيل، تقويضًا للآخر، إلا أنّنا رأينا – كما تشير الوثائق التي كشفتها الجزيرة – أنّ سيرورة المفاوضات أفضَت إلى التعامل مع معادلة “حقّ العودة منوط ومحصور بإقامة الدولة الفلسطينية” كمعطى لا يمكن زحزحته. بهذه الطريقة، تمّ دفع قضية الممتلكات وبيعها إلى الهامش، حتى غدت العودة وضعًا سورياليًّا يتجاوز مجريات الواقع ولا يمتّ إليه بصلة.

وكجزء من مشروع تصفية الملكية الفلسطينية على هذه الأملاك، اتبعت إسرائيل إستراتيجية احتكار المعلومات التي تخصّ أملاك اللاجئين وصبغ هذه الممتلكات بصبغة اللامرئية وإخفائها عن أعين اللاجئين والباحثين وحتى عن المفاوضين أنفسهم. وقد باءت بالفشل المحاولات والمبادرات العديدة التي تمّ اتخاذها في المساقات القانونية في السنوات الأخيرة للكشف عن لائحة الأملاك التي استولت عليها إسرائيل وقامت بنقلها إلى حوزة “الوصي على أملاك الغائبين” وعن مصير هذه الممتلكات اليوم. فقد رُفضَت الالتماسات التي تمّ تقديمها إلى المحاكم الإسرائيلية والطلبات للتزوّد بهذه المعلومات، بادّعاء (حرفيًّا) “أن من شأن هذه المعلومات المسّ بعلاقات ومصالح إسرائيل الخارجية”! هكذا تلعب إسرائيل، بإتقان، دورها كقوة مستعمرة تقوم بالتسلّط والتمسّك بالمعلومات والسيطرة على مصادرها بجعلها شأنًا إسرائيليًّا داخليًّا خاصًّا، مختزلةً بذلك حصّة وحقّ الشعب الفلسطيني في هذه المعلومات التي من شأنها تحديد ملامح حقّ العودة، إمّا كحقّ فارغ أو قابل للتحقيق.

ليست إسرائيل الوحيدة الممسكة عن هذه المعلومات، فللأمم المتحدة كيل وصاع في هذا الشأن، حيث أنّ لجنة التوفيق من أجل فلسطين التي باشرت عملها في كانون الثاني 1949 وفقًا للقرار 194، عُهد إليها بمهمّة إحصاء ملكيّات الأراضي والعقارات التابعة للاجئين في فلسطين، إلا أنّ الأمم المتحدة أبقت على هذه الإحصاءات سرية في أرشيفاتها الموزّعة حول العالم، ولم تقم بتوظيفها لمصلحة اللاجئين بتاتًا. وتشير مصادر عدّة إلى أنّ السلطة الوطنية الفلسطينية كانت قد حصلت على نسخة من هذه الإحصاءات، لكنّها لم تقم بأي عمل جدّيّ وهادف لمطالبة إسرائيل رسميًّا بالمعلومات حول مصير هذه الملكيّات، واقتصر جُلّ ما قامت به من إحصاءات على تخمينات للقيمة المادية الإجماليّة لهذه العقارات!

وأخيرًا، للعودة ضفّتان: فلسطين واللاجئون في الضفّة الأخرى، وكلاهما ما يزال موجودًا وسيبقى، وعليه فلا يمكن للعودة أن تكون رمزيةً أو شكليةً أو صوريةً. الحقّ والمضمون واضحان، ولا يبقى إلا أن يعيد الفلسطينيون صياغة مركبات معادلة الحق في العودة؛ عمادهم فلسطين الأرض وفلسطين اللجوء.

(الكاتبة محامية في مركز “عدالة” الحقوقي في حيفا)

 

إقرأوا أيضًا: مصير ممتلكات اللاجئين/ هنري كتن


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. اختنا الكريمة عندما انشاءت الدول العربية منظمة التحرير كان هدفها الاول من ذلك تصفية القضية الفلسطينية و الوصول الى تثبيت دولة اسرائيل بايدي فلسطينية و اقامة دويلة ليس حول و لاقوة الا فقط حماية دولة اسرائيل و ما تفعله اسرائيل بقضم الاراضي هو جزء من مؤامرة منظمة التحرير

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>