الدوغما والدوغما المضادة: قراءة في آليات الفكر النخبوي؛ مرزوق الحلبي مثالاً!/ هشام روحانا

ما هي هذه الحاجة القاهرة والمُلحّة التي تصل حد الاستحواذ في إشهار موقف بات معروفا، إن لم يكن من المرة الأولى فمن الثانية، في وجه من يعتقد أنهم قد أداروا عجيزتهم في وجه آلام السوريين؟

الدوغما والدوغما المضادة: قراءة في آليات الفكر النخبوي؛ مرزوق الحلبي مثالاً!/ هشام روحانا

 

من هو الدوغمائي؟

(أو محنة النرجس ومأساة الياسمين)

|هشام روحانا|

 

هذه قراءة لمقالة الأستاذ مرزوق الحلبي المنشورة على موقع قديتا الإلكتروني (عن سورية: الدوغماـ بعض شيوعيي بلادنا نموذجا!/ مرزوق الحلبي)، والتي يهاجم فيها موقف محمد نفاع وبعض رفاقه من الأزمة في سوريا. ليست هذه القراءة تعبيرًا عن موقف شخصيّ لي يتقاطع مع موقف الأول أحيانا ويختلف مع موقف الثاني أحيانًا. ونعتمد فيها آليات ما يسمى “تأويل الشكّ” المشتغل على النصّ (أو الخطاب أو الحلم) في شقّه اللاواعي، للكشف عن “مضمونه الكامن” بعكس “مضمونه الظاهر” عند قراءته الأولية، من خلال عمل النصّ (أو الخطاب أو الحلم)، أي من خلال تبيان مواقع التحريف والالتباس وأشكال التغيب والحذف والإزاحة والتعمية والخلط.

■ يعالج الأستاذ مرزوق الحلبي موقف الأديب محمد نفاع، الأمين العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي، من الأحداث في سوريا، مستخدماً مفهوم الدوغما. ويبيّن لنا أنّ هذا المفهوم يُستعمل في النقاش مع الماركسية وبأنه قد يُستعمل بشكل أوسع في النقاش مع أتباع العقائد الأخرى ويزيد أنّ أصحاب المذاهب الشمولية هم أكثر عرضة من غيرهم للتورّط في “شرك الدوغما وإغوائها”، ذلك لأنّ: “أداته المعرفية جاهزة، و”حقيقته ناجزة” وموقفه غبّ الطلب مسنود إلى النظرية التي لا تخيب ولا تخذل. على أنّ ما لا يذكره الحلبي هو متى بالضبط يُستعمل هذا المفهوم في النقاش مع الماركسي ومتى يتم استعمال مصطلحات أو مفاهيم أخرى كالتّزمت والتحجّر والتعسّف مع هذا الماركسي. إنه لا يذكر هذا لأنه يعرف أنّ هذا المصطلح يستعمل مع الماركسي حين يُرجع الأخير كل قضية إلى أيمان مطلق لديه بحتمية فجة تتأتى من صراع الطبقات وبمادية تاريخية ليقتبس من النص الماركسي اللينيني باعتباره نصًا مقدساً. إلا أنّ نفاع -وكما يبين لنا الحلبي- لا يلجأ إلى ذلك الأيمان بالحتمية والمادّية التاريخية ولا يقتبس نصًّا مقدّسًا حين يحدّد موقفه من سوريا، بل يلجأ إلى أسباب أربعه كما يعرضها الحلبي: “أولاـ إن النظام السوري نظام ممانع [.......]. ثانياـ الأخذ بادعاءات النظام [.......]. ثالثاـ أنّ في سورية حراكا شعبيا وطنيا حقيقيا وإنتهازيون [.............]. رابعاـ وجود “إمبريالية” متحفزة [.........] مما يقوده لاتخاذ موقف “التصدي لمشاريع إسقاط النظام المقاوم إلخ…”. هذه الأسباب ليست الأسباب التي يقف عندها الماركسي الدوغمائي. إنها أسباب قد ننعتها بأنها أسباب سياسية عامة لكنها ليست أسبابا “عقائدية ماركسية” تحديداً، أي أنّ ما يُنعت به نفاع من دوغمائية ليس سوى خروج عن الدوغما التي كان عليه أن يتقيّد بها عند قياسه كماركسيّ للأمور. لماذا يلجأ الحلبي إلى هذا المفهوم ولديه من الحجج والنقاش الكثير؟ هل هذا لأنّ مفهوم الدوغما يُستعمل ضد الماركسي وفي كثير من الأحيان، بل في معظمها، بوصفه تهمة مُعدّة سلفاً؟ يكفي أن نطلقها عليه ليقع في شركها (شرك التهمة وليس الدوغما). وبإطلاقه هذه التهمة منزوعة الأساس يعتقد الحلبي أنه قد أتى بالضربة القاضية.

■ ومن ثمّ يستحضر الحلبي في حركة نرجسية نمطية مقولته المشهورة: ” قلنا في مكان آخر إنّ المعرفة ليست قدرًا وإنما اختيار واع وخيار أخلاقي من الدرجة الأولى“. فهل حقا المعرفة هي خيار واعٍ وأخلاقيّ؟ هل المعرفة مثلا هي الخيار الواعي والأخلاقي لعموم الأمّيين في الوطن العربي والعالم؟ وهل هي خيارهم أم قدرهم؟ هل المعرفة المنزّهة قائمة هكذا، هنالك، في موقع أمين لتطالها كلّ يد؟ أم أنها عرضة لاقتصاد السلطة والقوة والطبقة؟ وهل إرادة المعرفة والمعرفة مفهومان متطابقان؟ وماذا مع المعرفة في علاقاتها المتشعبة مع احتكارات المعرفة والمعلومات أو في علاقاتها مع المعارف الزائفة أو المشوّهة أو المُجتزَأة؟ وماذا مع تلك المعرفة التي يتم إقصائها إلى اللاوعي؟ أسئلة لا نجد لديه أجوبة عليها، لأنّ المعرفة لديه هي تلك المعرفة المطابقة لمعرفته هو لا غير، وكلّ معرفة أخرى لا تحتسب. وليس هذا فحسب؛ بل على هذه المعرفة أن تقود حتماً إلى موقف أخلاقيّ مُطابق لموقفه هو وإلا فالثبور وعظائم الأمور.

إنه يشكك بوجود الإمبريالية من ثم يفترضه ليلغيه لاحقاً ومن ثم يثبت وجوده في تعريف لا يزيدنا إلا قناعة بوجودها. لماذا؟

■ إلا أنّ المفاجأة الأكثر بلاغة هي تلك التي يقضي فيها على الامبريالية بقوة نور فكره السّاطع، مستعملا تقنيات ساحر أعسر اليديْن. ففي أول المقالة يضع المفهوم إمبريالية بين مزدوجين ليشكّك بوجودها، من ثم يفترض وجودها مرات عده فينعتها بالـ “إمبريالية المفترضة” و”المتخيلة”، إلى أن يصل إلى القول: “ويُبرطعون نضالات ضد إمبريالية لم تعد قائمة أصلا“، نافياً وجود الإمبريالية هكذا وبجرّة قلم. لماذا؟ ذلك لأنّ العلاقات اليوم بين الدول تقوم بحسبه على:  ”لأن العالم تغيّر إلى حدّ كبير منذ انتهاء الحرب الباردة ودخل دوامة العولمة وتعدد المحاور ومراكز القوة، وامتلأ بالمحاور الإقليمية وبتشابك القوى العالمية حدّ ضياع حدودها وضياع حدود الدول وانحسار سياداتها في كل مكان”. أليس هذا هو (مع بعض التدقيق والذي لا نطلبه منه ) تعريف الإمبريالية؟ [فمثلاً، يُعرف "معجم الماركسية النقدي" (عام 1999) الإمبريالية على الشكل التالي: تعني الامبريالية أنّ التبعية الاقتصادية التي تفرضها الاحتكارات تُطبق على كل مكان. أنها تُلحق كل التشكيلات الاقتصادية وتربطها بالسّوق العالمية وبنسق اقتصادي عالمي سِمته التفاوت في التطوّر وفي شروط الإنتاج]. إنه يشكك بوجودها من ثم يفترضه ليلغيه لاحقاً ومن ثم يثبت وجوده في تعريف لا يزيدنا إلا قناعة بوجودها. لماذا؟ هل لأنّ إرادة المعرفة قد خانته؟ أم لأنه يريد إخفاء وجود الإمبريالية لكي يتسنى له الاستفراد في جرد حساباته مع نفاع ورفاقه بمعزل عن الواقع العيني الملموس في نقاش للأخلاق المتعالية عن شرطها؟

■ يفترض الحلبي أنّ الموقف الأخلاقيّ الوحيد والممكن إزاء الحَراك في سوريا هو في الوقوف في صفّ من يطلب إسقاط النظام من دون قيد وشرط، وكلّ موقف عداه هو موقف غير أخلاقيّ ومنافٍ للضّمير. كيف يصل الأستاذ الكريم إلى هذا الموقف؟ إنه لا يصل إليه إلا بعد أن سفّه موقف الآخرين (وهم كثر وليس بعض الشيوعيين أكثرهم). ليس هذا فحسب؛ بل إنه يجتزئ اقتباساته ويزوّر مواقف الآخرين ويحوّرها ويبدّلها، وما عليك لتبيان هذا سوى نقرة على الفارة للوصول إلى موقع “الجبهة” ومقال محمد نفاع (وسأقتبس هنا بعض ما جاء للتسهيل. يقول محمد نفاع: “النقاش ليس مع المطالب الحقّة والعادلة للشعب السوري في الحرية والديمقراطية، وضدّ التسلط والقتل وقوانين  الطوارئ والاعتقالات السياسية، النقاش والصّراع مع المركبات المهيمنة للأسف الشديد في المعارضة والمدعومة من الاستعمار والرجعية”؛ وأيضًا: “هذا مع استنكارنا الشديد لسقوط الضحايا في سوريا من قِبل النظام، ومن قِبل المعارضة المسلّحة”؛ وأيضًا: “البيان الأول للمكتب السياسي لحزبنا قال: “إنّ ما يقوم به النظام السوري ضدّ المتظاهرين هو عمل إجرامي”؛ وأيضًا: “نحن مع الشعب السوري ومطالبه العادلة ضد النظام، ونحن مع الشعب السّوري والنظام ضد الإمبريالية.”).  أنه يُسفه الموقف الأخلاقي المترتب على أولوية مُعادة الاستعمار والهيمنة ويُسفّه الخوف على وحدة سوريا ويُسفّه الخوف المشروع من حرب طائفية ويلغي أو يخفي موقف نفاع من مطالبته النظام بالإصلاح ووقف العنف وقانون الطوارئ. لماذا عليه أن يبدو أكثر أخلاقية من غيره؟ وما هي حاجته إلى ذلك؟

وبعد أن وسم الحلبي خصومه بانعدام الأخلاق والضمير فإنه يغرقهم بتوصيفات عديدة؛ فهم “المتورطين في العقائد الشمولية” والمعفيين من عناء البحث والتقصّي”، وهم الذين “لا يتيحون للحقائق أن تعطّل عليهم “راحتهم”” وهم من “يشهر الادعاءات لتبرير القتل فلا تتعب ضمائرهم ولا تتعطّل متعة الاستسلام للدوغما لديهم”، وهم “بالعو الضفادع” عديمو “الاستقامة والاستنارة”. رويدك رويدك!. أكلّ هذا لأنهم وقفوا موقفاً مغايراً لموقفك في أحداث هي بعيدة كلّ البعد عمّا قد يتأثر بصفاء موقفك “الأخلاقيّ”؟ إنّ اللجوء المتكرّر ومتعدّد الأوجه (والمجرور من مقال إلى مقال ) لخطاب “الأخلاق” في نقاش سياسيّ يثير التساؤل حول الدوافع والحاجات الحقيقية الكامنة وراء استجلابه!

■ يقع الحلبي أسير الدوغما المضادة، هذه الدوغما التي تفترض أن كل حراك في الوطن العربي هو حراك ثوري وسلمي ومُحقّ وأنه لا حقائق سوى الحقائق الحاضرة أمام عينه هو بالذات. وتدّعي هذه الدوغما انعدام الاستقامة السياسية والأخلاقية لدى نفاع ورفاقه، وتغيب العامل المضادّ للثورة السورية في محاولة حرفها عن مسارها الديمقراطي والسلمي وتنفي وجود قوى رجعية واستعمارية تقوم بدور مشبوه في الأزمة في سوريا. دوغما تفترض أنّ ما يحدث في سوريا معزول عن مطامع ومصالح وأطماع قوى الهيمنة وتنفي وجود قوى سورية معارضة تستدعي الخارج للتدخل العسكري و”الإنساني”. وهكذا يغدو الحلبي أسير دوغماه هو، وهي دوغما مضادة للثورة السورية أولا وأخيراً. فمع كل ثورة تنشأ الثورة المضادة، والحالة السورية ليست استثناءً.

يكشف هذا الخطاب “مضمونا ظاهراً” قوامه الأخلاق والحداثة والتنوّر الفكري، وهو خطاب يُكرر ويُعاد في مقالات تجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة منذ نشوء الأزمة في سوريا. ما هي هذه الحاجة القاهرة والمُلحّة التي تصل حد الاستحواذ في إشهار موقف بات معروفا، إن لم يكن من المرة الأولى فمن الثانية، في وجه من يعتقد أنهم قد أداروا عجيزتهم في وجه آلام السوريين؟ أليس هذا هو حال تلك الأميرة في برجها وعلى جزيرتها النائية وقد أحرقت جميع سفن العودة إذ تقف أمام مرآتها صائحة: “ما أجملني هذا الصباح، ما أجملني هذا الصباح!”. أليس هذا هو “المضمون الكامن” للنصّ؟

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

4 تعقيبات

  1. لا أعتقد أن هنالك فلسطيني عاقل مناهض للحرية ،الديمقراطية والدولة المدنية !! بالتالي فإن الأختلاف (الأنقسام )الحاصل بالشأن السوري والذي يبدو وكأنه بين مؤيدين “للثوار ” من جهة ومؤيدين للنظام من جهة أخرى … ليس حقيقيا !! إن ما يُستشف من الكتابات المتعددة حول هذه الأزمة ،أن الداعين الى إسقاط النظام ، الديمقراطية ، الحرية ووووو…. وهم غالبا صادقون بقناعاتهم إلا أنهم لا يحتملون الرأي المغاير الذي بالأساس مصدره القلق والخوف على مصير سويا وشعبها ، وكأن حرية التفكير ليست ضمن الحريات المنشودة !!!؟

  2. أستاذ هشام
    يُمكن أن نسحب ادعاءاتك كلها على ما قلته حضرتك
    كما أنك لم تناقش أي من ادعاءات الحلبي في أي من مقالاته
    يبدو جليا أنها مداخلة مبتذلة من شخص كان في وضعية كمين أو تربص واعتقد أنه حانت فرصته!
    المسألة في سورية تتطلب جرأة في الموقف أكثر منه التفلسف

  3. البيان الأول للمكتب السياسي لحزبنا قال: “إن ما يقوم به النظام السوري ضد المتظاهرين هو عمل إجرامي”.
    اين هذا البيان منشور ومتى؟
    اذا كان ما يقوم به النظام السوري ضد المتظاهرين عمل اجرامي فمن المسؤوول ومن عليه ان يحاسب ؟ أليس رئيس النظام ، حزب النظام، عصابات اجنبيه ام قوى الأمن ؟
    يحق للشعب ان يطيح بالنظام عندما اجرم بحقه وبدون نقاش¡!!!!!!¡ 

  4. …بوركت يا هشام وبورك يراعك المتربّص للرِّبضة المأبونين!

    :)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>