2011، الثورة لم تنتهِ/ هشام نفّاع

ديسمبر 31, 2011 سياسة, مواضيع ساخنة | 8 comments

"متفائل". بريشة: جان سيشرمان

>

|هشام نفّاع|

لم أكن أعرف ظهيرة الحادي عشر من شباط 2011 أنني سأعيش أسعد أيام حياتي. في ذلك الأسبوع عاد حسني مبارك مرة أخرى ليقول إنه يرفض الاستجابة لمطلب الثورة. وككل يوم في تلك الفترة منذ 25 يناير (باسمه الشهير) كانت مصر شغلنا الشاغل بل أكثر قطعة حيّة في وجداننا. “نحن” هم الرفاق والرفيقات والأصدقاء والصديقات والمعارف الذين يتبادلون في اللقاءات الحقيقية والافتراضية الفرحَ الممزوج بالترقب والخشية مما يجري ومما سيجري، في متابعة لا تتوقف لما يشهده ميدان التحرير.

نتمسّك بسيل الأخبار والمستجدات كمن يمسك خيطًا في عتمة دامسة ويسير معه نحو مجهول، قد يكون شرفة على الشمس أو جدارًا صخريًا صلدًا، فلا أحد يدري.

بعض الأصدقاء متشائم، بل غاضب: “ماذا يفعلون في الميدان حتى الآن، لماذا لا يخرجون لمحاصرة التلفزيون وقصر الرئاسة؟”. بيني وبين نفسي، أولا، وبيني وبينهم أيضًا كنت مصرًّا على التفاؤل، رغم ما فيه من سذاجة غير قابلة للإخفاء. ففي النهاية لن تؤثّر إرادتي في شيء، ولا المقالات السريعة والتعليقات القصيرة التي أكتبها، كي أتوهّم أني أقوم بشيء ما على هامش افتراضيّ ضئيلٍ ضئيلْ لثورة بحجم الدنيا.

كنت في بعض اللحظات أفقد القدرة على الصبر مقابل الكم الهائل من النقاشات الباحثة بتسرّع صبياني عن نهاية سعيدة كالسينما الهوليوودية. في ذلك الأسبوع أو قبله، صرختُ في وجه بائع الخضار المشاكس الذي أعزّه كثيرًا، لما أبداه من قلة إيمان بالشعوب والشباب العرب ولاعتقاده بأن كل هذه المظاهرات لن تغيّر شيئًا! لم أطق أبدًا أن يتحدث شاب فلسطيني كادح بكل هذا العجز والتشاؤم وسط حدث بهذا الحجم الهائل.

لا أدري إن كان يمكنني الآن القول بيقين إني كنت على يقين حينذاك من أن الثورة ستخلع ذلك التمساح، لكني أعتقد أنني “تنّحت” بقناعة قوية على أن هذا ما سيحدث، على الرغم من انعدام قدرتي (كالجميع) على اثبات صحة توقعي.

في ذلك اليوم، 11 فبراير المصري، وصلت الدار “بين العصر والمغرب” وتوجّهت بالطبع إلى الحاسوب فورًا بحثًا عن أي بث مباشر فوجدت أنّ عمر سليمان قد سبقني بلحظات ولأستمع مذهولا لنصّه القصير قليل البلاغة بالغ الأثر، والذي سأكرّر الاستماع اليه لاحقًا مرات ومرات: مبارك تنحّى.

تلك اللحظات وما تلاها كانت ولا تزال الأكثر سعادة في حياتي.

لكن هذه السعادة ستصطدم بنقائضها لاحقًا طبعًا، بحكم طبيعة التاريخ، وليس تاريخ الثورات فحسب. ستصدمنا ممارسات عسكر “المجلس” المصري القمعية، ونجاحات القوى الرجعية المتاجرة بالدين.

ستصدمنا تعقيدات الحالة الليبية حيث سارعت قوى الامبريالية وزعانفها، ممثلة بحلف “الناتو” وممالك وإمارات النفط، إلى التدخل لحرف سكة الغضب الشعبي الصادق نحو دوامات داخلية من التناحر بغية إعادة ترتيب الطاولة بحيث لا يخرج الشعب الليبي رابحًا لثرواته الوطنية.

ستصدمنا كميات النفاق والعهر التجارية ازاء ما تشهده البحرين، حيث دخلت قوات ممالك النفط المحيطة لقمع المحتجات والمحتجين بدموية قاسية، وسط صمت وتأتأة كثيرين ظهروا كفرسان نبلاء النفس طالما لم يقترب “الربيع العربي” من طغم ممالك النفط.

ستصدمنا الحالة اليمنيّة، على الرغم من أن هذا الشعب العزيز المعروف بكثرة اقتنائه السلاح، تصرّف بدرجات عالية من الصبر والصمود والمسؤولية، في حين ظلت ممالك النفط العميلة تسعى لتطويل أمد الأزمة الداخلية، منعًا للتغيير.

ستصدمنا فسيفساء الدماء في سوريا، حيث اجتمعت بشاعات النظام وبشاعات القوى المسلحة والمدعومة خارجيًا وبشاعات التآمر الامبريالي، والأمريكي في مركزه، لتغطي كلها على صوت الاحتجاج الشعبي السوري العادل الصادق النبيل.

ستصدمنا أيضًا أصوات من يؤبنون الثورات العربية بأثر استرجاعي لأنها لم تحقق كافة المطالب التي رفعتها في غضون أشهر.. ولأن هناك قوى ذات مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية وعالمية تسارع للعمل ليل نهار لحرف الحراك الثوري العربي الشاب بعيدًا عن مصالحه الحقيقية! فوجدنا هؤلاء المؤبّنين يشككون في الثورات كفعل واحتمال بدلا من التأني والتأمّل والتحليل المتعمق والمتواضع لتحديد أعداء الثورة وقوّادي الثورات المضادة.

ستصدمنا وقائع وتطورات كثيرة، ومن لا يملك نفسًا ثوريًا وبعدَ نظر و “طول بال” سيجد نفسه عائدًا منكفئًا الى مربعات الاحباط القديمة، تلك التي لا تخلو من ثقة منقوصة بالنفس الفردية والجماعية والطبقية معًا.. وما أسهل الاستسلام حتى لو كان ذلك باسم شعارات وتنظيرات جوفاء غاية في الثورية المتضّخمة بالكلام.

ستصدمنا جرائم سقط فيها شهيدات وشهداء يناضلون من اجل الحرية والعدالة والكرامة. ستصدمنا موبقات وانكفاءات كثيرة، ولكن يبقى السؤال: هل نحوّل الصدمات الى حفلات للتذمّر على شاكلة “متى تنتهي الثورات لنرتاح؟”..  أم الى تجارب لمراكمة الوعي والتجربة  والاستفادة للاستمرار. فالثورة لا تنتهي بل تتطوّر وتستمر. يجب أن نعيش مع هذه الحقيقة!

أما من يعتقد بأن الشعوب تنجز ثوراتها في بضعة أشهر وتنتقل فيها من الجحيم الى الجنة، فهو إنما يردد قصص أطفال خيالية أو مقولات غيبيّة بعيدة عن الواقع وعن فنّ فهمه وحكمة مقاربته، حتى لو ادعى هذا أو ذاك أنهم إنما يخاطبوننا وهم متكئون على مؤلفات ماركس ولينين.. لا، هذه المؤلفات ليست مخدّات لكسلنا، بل مادة للتحليل والنقد (ونقدها هي اذا اقتضت الحاجة لأنها ليست مُنزلة ولا شيء منزل أصلا) من أجل التغيير الحقيقي. تغييرٌ لا يمكن أن يكتفي بتقسيم العالم الى مطلقيْن أسود وأبيض، وكأننا نتحدث عن “الآخرة”! وتغيير لا يقوم الثوري فيه، مهما جرى، كي يهلّل لأيّ دكتاتور ونظامه. فالمؤامرات ليست جديدة، لا حاجة لاكتشاف العجلة مجددًا، ومن يلوكها اكثر من اللازم دفاعًا عن عائلات حاكمة يجب أن يعيد النظر في انتسابه الى الأسرة الثورية!

ثورات الشعوب استغرقت وستظل تستغرق سنوات بل عقودًا. هذا هو قانون التاريخ. فإما أن يختار المرء الاستغراق في كسل الإحباط والترديد بغباء “هذه ليست ثورات، وانظروا من تنتخب الشعوب”، وإما أن يستغرق بجديّة ومسؤولية في التفكير والعمل والنضال بالقلب واللسان واليد كي “يضيء شمعة صغيرة واحدة بدلا من لعن الظلام”. والطامة تصبح أكبر بالطبع حين يكون قوم اللاعنين هم بالذات من قرروا احتكار الثورية لأنفسهم كما لو أننا نلعب في بورصة!