إحكام المقاطعة بأحكام المقاومة/ إسماعيل ناشف

المقاطعة المادية والرمزية الأخلاقية للنظام الاستعماري لا تكفي بذاتها و/أو لذاتها، إن هي لم تؤدِّ إلى فحص متأمل للفلسطيني، بغضّ النظر عن سياقه الخاص، في ذاته كفاعل في التاريخ الاجتماعي الباني لجماعيته

إحكام المقاطعة بأحكام المقاومة/ إسماعيل ناشف

.

|إسماعيل ناشف|

إسماعيل ناشف

إن مقاطعة النظام الاستعماري في فلسطين، على أنواعها المختلفة، لهي خطوة مباركة إن كانت ممارستها تبغي المساهمة في تقويض هذا النظام. وقد تكون نوايا ومقاصد القائمين على حملات المقاطعة المختلفة حقاً تسعى إلى المساهمة في والعمل على تقويض النظام الصهيوني في فلسطين من خلال قراءاتهم المحددة لتناقضات هذا النظام.

إلا أن مسألة مقاطعة النظام الاستعماري في فلسطين تستدعي جملة من القضايا التي غالباً تغيب عن أفق العمل الفلسطيني الجماعيّ، وقد تكون أبرز هذه القضايا مسألة العلاقة بين أداة المقاومة ومستخدمها. وهذه المسألة ترد إلى الإطار الرؤيوي الذي تُشتق منه مباشرة الأدوات التي تُستخدَم في المقاومة؛ فالمقاطعة من هذا الجانب غير قائمة بذاتها وإنما تصبح ذات جدوى إن كانت ممارسة في إطار أعمّ يسعى لتقويض الاستعمار. سأقوم فيما يلي بفحص العلاقة بين الإطار العام الاجتماعي الفكري/السياسي، والمقاطعة، بما هي أداة للمقاومة، والفلسطيني/ة الذي يستخدم هذه الأداة لتقويض النظام الاستعماري في فلسطين. السؤال الذي سيقود عملية الفحص هذه هو شكل الذات الفاعلة الجماعيّة التي قد تتشكل في حال استخدام المقاطعة كممارسة أساسية في إطار العلاقة العامة النافية للنظام الصهيوني في فلسطين.

لعلّ من أهم ما يميز المقاطعة كأداة كونها اشتقاقًا من فهم أساسي لطبيعة النظام الصهيوني كنظام مشتق من البنية الرأسمالية من جانبه الاقتصادي الاجتماعي، من جانب، وكنظام يسعى لاحتكار إرث أخلاقيات الضحية والشرعية الناتجة عن ذلك لتسيير وبناء مؤسساته الاقتصادية والعسكرية، من جانب آخر. المقاطعة هي خلق حالة اجتماعية سياسية تمنع الأفراد والجماعات والمؤسسات والشركات الربحية من أن يشاركوا في ممارسات شتى تساهم، أو تصب، في صيانة، وأحياناً تقوية، النظام الاستعماري إما من حيث بنيته الاقتصادية العسكرية، وإما من حيث متانة شرعيته الأخلاقية. المنع في حالته المُثلى هو امتناع إرادي للأفراد والمؤسسات والشركات عن القيام بهذه الممارسات، أي تذويت جمعيّ لبنية ذهنية شعورية ترفض أن تساهم، أو تتواطأ مع من يساهم، في الأجهزة الاستعمارية التي تقوم بنفي الوجود الفلسطيني إلا كشكل مربح لهذه الأجهزة. المنع، في حدّه الأخلاقي الأدنى، هو عبارة عن شرطة أخلاقية تعنيفية تقوم بملاحقة من يخالف المنع كي تنبذه عن سائر السياق الاجتماعي السياسي السائد، وتحقق بذلك الامتناع عن هذه الممارسات التي تصب في بنية الاستعمار، بشقيها الاقتصادي العسكري وذلك الأخلاقيّ. يحدد هذان القطبان، الامتناع الإراديّ والمنع البوليسي، نوعاً من الاستمرارية تحتوي على تراكيب شتى منهما، وذلك تبعاً لراهن الواقع الاجتماعي الاقتصادي للسياق الفلسطيني المُحدد. لذلك، وكأي أداة مقاومة أخرى، يجب إعادة موضعتها في سياق انبثاقها كما في سياق استخدامها، أي بالنسبة لنا أنواع السياقات الفلسطينية المختلفة والعلاقات بينها من حيث المقاطعة ومقاومة الاستعمار الصهيوني ومن يقف خلفه.

هناك عدة تقاطعات فلسطينية ذات صلة مباشرة بمسألة المقاطعة، تفرض علينا أن نعيد التفكير بأشكال العلاقات الممكنة مع النظام الاستعماري. التقاطعات التي سأتطرق إليها هي: فلسطينيو 48، الضفة الغربية، قطاع غزة، والشتات اللاجئ في الدول العربية المجاورة لفلسطين. في الوضع الراهن اليوم، لا يوجد إطار اجتماعي فكري/سياسي شامل لهذه الأجزاء الفلسطينية المختلفة، بحيث يبدو أن كل جزء من هذه التقاطعات منفصل عن الآخر وذو سياق مختلف قائم بذاته يحتم نوعًا مختلفًا من أدوات المقاومة عامة ومن المقاطعة تحديداً. فالأغلبية من فلسطينيي 48 منشبكون بجلّ تفاصيل حياتهم المادية والرمزية بالنظام الاستعماري على أجهزته المختلفة التي تسُيِر حياتهم اليومية، وذلك إلى جانب هامش ضامر من الممارسات والعمل الاجتماعي التي تسعى لكسر طوق التبعية للنظام. أما بالنسبة للضفة الغربية، فالسلطة الوطنية الفلسطينية هي بمثابة مقاول ثانوي للنظام الاستعماري، هذا سقفها بنيوياً، أي أن هذا لا يتعلق بالأفراد العاملين بها وعليها وإنما ببنيتها داخل الصراع الاستعماري في فلسطين. إن تجربة غزة هي سيف ذو حدّين؛ فمن جانب استطاعت حركات المقاومة المختلفة أن تخلق لحظة مفصلية أدّت إلى انسحاب النظام من غزة، ولكن هذا الانسحاب أدى إلى سيطرة من نوع آخر على حركة البشر والمواد الأساسية، وتكريس انفصال غزة عن الجسد الفلسطيني الأعمّ. يبدو الشتات الفلسطيني اللاجئ على مختلف أماكن تواجده كحالة منغمسة بواقعها اليومي المباشر من تناقضات داخلية وأخرى مع الأنظمة العربية السائدة، ممّا أدى إلى تراجع أولوية فحص علاقاتها مع النظام الاستعماري إلى مرتبة ثالثة أو رابعة. من هنا، فالمقاطعة في الشتات تأخذ أبعاداً أخرى بالإضافة إلى قضية المنع المذكورة أعلاه.

من هذا الجرد الأولي يتبين لنا أنّ المقاطعة بشكلها الحالي نتجت مباشرة عن تجربة الضفة الغربية بالأساس، وكعلاقة نافية لطبيعة مبنى السلطة الوطنية الفلسطينية كمقاول ثانوي للنظام الاستعماري. من هنا يبرز، وبشكل حاد، غياب الرؤيا العامة أو الإطار الاجتماعي الفكري/السياسي للجماعة الفلسطينية العامة؛ غياب أدى على ضمور ممارسة المقاطعة واختزالها بتجربة صعود نخب مدينية محددة نتيجة انحسار المؤسسات الشاملة للمجتمع الفلسطيني عامة على اختلاف تقاطعاته. هذه النخب الفلسطينية، وبسبب من طبيعة أجهزة الاستعمار التي تُمارس عليها، ترى بالمقاطعة ممارسة ذات هدف معلن هو انصياع إسرائيل للقانون الدولي، وآخر غير مُعلن هو استخدام إستراتيجية الطُهرانية، أي تطهير الفلسطيني من إسرائيليته، في صراعها مع نخب السلطة الوطنية للسيطرة على المجتمع الفلسطيني واحتكار تمثيله أمام المجتمع الدولي. فالسلطة تتميز بعلاقاتها مع إسرائيل، أما أغلب النخب التي تستخدم المقاطعة كأداة أساسية لها، تتميز من خلال إنشاء خطاب نافٍ لهذه العلاقات من ماديتها، البضائع، وحتى رمزيتها، شرعيتها كمحتل في الضفة الغربية. من هنا، فالإشكال الأساسي في شكل المقاطعة الحالي هو كونها انبثاق عن تجربة فلسطينية جزئية تعمم على أنها تشمل كل التجربة، فمثلاً تطرح حلاً جذرياً للضفة وغزة عبر الدعوة لإنهاء الاحتلال بينما تطلب من فلسطينيي 48 القبول بمساواة تامة وانخراط في ذات النظام الذي تخرج ضده في الأجزاء الأخرى، وتدعو إلى عودة اللاجئين من دون التطرق الجذريّ إلى شكل النظام الذي سيعودون إليه.

إنّ المقاطعة المادية والرمزية الأخلاقية للنظام الاستعماري لا تكفي بذاتها و/أو لذاتها، إن هي لم تؤدِّ إلى فحص متأمل للفلسطيني، بغضّ النظر عن سياقه الخاص، في ذاته كفاعل في التاريخ الاجتماعي الباني لجماعيته. ففي حال استخدام المقاطعة كأداة تصبح الذات الفلسطينية مجمل الممارسات النافية للحضور الاستعماري، وبهذا فهي مرهونة بأشكال حضوره لتنفيه. من المميزات الأساسية للتشكيلة الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين شموليتها حدّ المطلق لكلّ مناحي الحياة، ويعود هذا إلى انبثاق الصهيونية من المشروع الرأسمالي وتمفصلها فيه؛ فالحضور الاستعماري شامل لجلّ مناحي الحياة الفلسطينية اليومية والرمزية على السواء. من هنا فإن نفي أشكال الحضور الاستعماري يحتم إعمال مجمل طاقة الحياة الفلسطينية، من جانب، وتشغيلها بكيفية شمولية تتلاءم ومنطق الاستعمار الشمولي لتستطيع مقاطعته ومن ثم نفيه، من جانب آخر. هذا المأزق الارتهانيّ هو عامل أساسيّ في تشكيل الذات الفلسطينية كضحية لا تستطيع الإفلات من نكبتها، وإدراكها من طرف الفلسطينيين بأنها كذلك، وتداولها في شبكة المنظومات الرأسمالية على أطوارها المختلفة، ولكن بالأساس ما يمكّن أجهزة النظام الاستعماريّ من التعامل مع ذاتها كفاعل تاريخي له –بالضرورة- ضحايا مختلفون أهمهم الفلسطينيون. لعلّ البينة الأكبر على هذه العمليات هي أن الفلسطينيين منقسمون إلى أنواع بحسب شكل حضور الاستعمار في جسدهم الجمعي والفردي، ومن ثم فإنّ مدى وشكل المقاطعة النافية للمُستعمِر وحضوره فيهم/ن يشكلهم كتحوير على بنية الضحية بتكرار مأساويّ.

إن تاريخ المقاومة الفلسطينية لا يفتقر إلى بنية اشتقاق أدوات للمقاومة بقدر افتقاره إلى خطاب نقدي يُصوِب استخدام هذا الاشتقاق وما ينتج عنه ليرتقي بهما إلى آفاق تحررية أعمق وأشمل. المقاطعة، بما هي أداة مقاومة، تستحضر نقص الإطار الفلسطيني العام الذي يجمع شتى فئات هذه الجماعة من دون أن يلتصق بتناقضات النظام الاستعماري ويتبعها بالضرورة. من هنا، يجب أن تشمل المقاطعة -على الأقل- تبعية الوعي الفلسطيني للفعل الاستعماري الصهيوني، بحيث تنتج حالة من الوعي للتبعية لتقطع معها. هذا هو الحدث الفلسطيني الذي قد يشمل مجمل الفئات الفلسطينية المختلفة من دون أن يلتصق بواقع الحدث الاستعماري ويتبعه. إن المقاطعة بما هي اشتقاق من حاضنة الوعي القاطع مع شكل تبعية الوعي السائدة، لا تعمل بشكل مرهون بأشكال حضور النظام الاستعماري في الذات الفلسطينية، وإنما حدثه هو استشراف لحظة الوجود الفلسطيني بعد نفي مبدأ حضور الجاني في تشكيل ذات الضحية الفلسطينية. فالآخر ليس إلا طريقة من عدة طرق في تعريف الذات ومجازها أفقياً، بينما نفيها يفتح العودة إلى أعماق شتى في وعي الذات الجماعية، ما يُحتم موضعة أداة المقاطعة هذه في سياق حضاري تاريخي عربي-إسلامي كمرجعية أساسية، وليس في سياق مرجعية طُهرانية غربية كما هو اليوم، بحيث تنصهر المقاطعة بحدث الانعتاق من الحضور الاستعماري في الذات.

إنّ الحدث الفلسطيني فيما بعد لحظته الاستعمارية هو عربيّ-إسلاميّ بما هو تحقق طبقات جيولوجية من الإرث الحضاري في لحظة حدث الانعتاق المُؤَسِسة له، من جانب، وهو حدث مُحوّل لهذا الإرث باتجاه تشكيلات آنية بسبب من حمولته الإنسانية تحديداً، من جانب آخر. ولعلّ الأهم في إعادة قراءة الحدث الفلسطيني عبر حاضنته العربية الإسلامية هو سؤال السّعي لتشكيل الجماعة الوطنية الفلسطينية من جديد.

(نُشرت المقالة في العدد الجديد من مجلة “جدل” الصادرة عن مركز “مدى الكرمل” للأبحاث)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>