بين الانتماء إلى المعركة الاجتماعية وأدلجة ضيق الأفق!/ عصام مخول

بعض “القوميين” العرب يستطيبون الوقوع في شراك الفكر الصهيوني المأزوم، ويتقمصون مقولاته الأساسية ومن موقع الأفق القومي الضيق نفسه، يكرّرون مقولاته المتنكرة لوجود تناقضات طبقية بين اليهود، ليصبح هؤلاء “القوميون” الوجه الآخر للعملة الصهيونية ذاتها

بين الانتماء إلى المعركة الاجتماعية وأدلجة ضيق الأفق!/ عصام مخول

من مظاهرة تل أبيب أمس السبت- تصوير: AFP

|عصام مخول|

عصام مخول

المعركة الاجتماعية المتدحرجة الآخذة بالتراكم في إسرائيل اليوم، تشكل علامة فارقة وتطورا نوعيا غير مسبوق، يضع أكثر من علامة استفهام على المقولات التاريخية المؤسّسة للخطاب الفكري والاجتماعي المهيمن في إسرائيل، وعى ذلك المشاركون في هذا الحراك الشعبي الواسع أم غفلوا عنه.

والحقيقة أن السياق الذي يجري فيه هذا الحراك ويمده بهذا الزخم ليس سياقا محليا إسرائيليا وإنما سياق العولمة الرأسمالية المأزومة، وفشل الليبرالية الجديدة التي نشرت الوهم بأن إطلاق أيدي الاقتصاد الحر (حرية رأس المال وعبودية العمل)، كفيل بتحقيق جنة الرأسمالية على الارض وتعميمها، لكنها في الواقع عمّقت الفقر والاستغلال والتبعية والحروب، بشكل مرعب ومتواصل ومتراكم.

ولم تقتصر الليبرالية الجديدة على التنكر لحقوق الطبقة العاملة التقليدية، ولكنها وجهت ضربة قاصمة لأوهام الطبقات الوسطى التي اعتقدت للحظة أنها “عماد” الرأسمالية المعولمة و”الاقتصاد الجديد”، فما لبثت أن اكتشفت أنها ليست أكثر من حطب في جحيم سياسة الخصخصة وتعميق التقاطب الاجتماعي، في خدمة أرباح رأس المال الكبير وهيمنته، على حساب أوهامها هي.

وإذا كانت الأزمة الرأسمالية قد اتخذت أشكالا مختلفة في مواقع متفرقة من النظام العالمي ذي القطب الواحد، من أزمة الديون الأمريكية مؤخرا وأزمة دول الاتحاد الأوروبي التي انفجرت في اليونان واسبانيا والبرتغال، مرورا بدول أمريكا الجنوبية والعالم العربي ووصولا إلى إسرائيل، فإن أشكال المقاومة الشعبية والطبقية لتبعات هذه الأزمة اختلفت أشكالها هي الأخرى من موقع إلى آخر، ولكنها احتفظت بجوهر مشترك تلتف من حوله الطبقات الشعبية وضحايا الليبرالية الجديدة بكل شرائحها، بما في ذلك في إسرائيل، وفي صلبه رفضها أن تحمل عبء الأزمة الرأسمالية العالمية وعجزها عن أن تدفع ثمنها، واستعدادها  للنزول إلى الشوارع وميادين التحرير بهدف إسقاط النظام القائم وفرض سلم أولويات اجتماعي-اقتصادي-سياسي بديل.

إنّ ما يميز هذا الحراك الاجتماعي في مواجهة الأزمة الرأسمالية العالمية ويزيد من أهميته، لا ينحصر في كونه حراكا متزامنا في مواقع متفرقة من مراكز العالم الرأسمالي ومن أطرافه، وإنما يميزه أيضًا أنه حراك مترابط ومتواصل ومتكامل. وإذا كانت العولمة هي الطابع المميز للرأسمالية الجشعة في المرحلة التاريخية الراهنة، فإنّ ما نشهده اليوم من زخم الحراك الاجتماعي والشعبي وامتداده عالميا بما في ذلك إلى إسرائيل، يوحي بفرصة حقيقية لم تصل أوجها بعد لبلورة مقاومة اجتماعية معولمة بدورها أيضا، تكفر بالليبرالية الجديدة وتعلن المواجهة مع قواعد اللعبة التي فرضتها وتطالب بعقد اجتماعي بديل.

ومن المفارقات أنّ ميادين التحرير العربية المنطلقة من القاهرة وتونس والتي لم تُنهِ مهماتها بعد، تحوّلت إلى مصدر وحي وإلهام عالمي لثقافة مقاومة اجتماعية وسياسية مبدعة في هذا السياق، وباتت تشكّل نموذجا ومصدر وحي وإلهام، للهبة الاجتماعية غير المسبوقة في مراكز المدن والبلدات في إسرائيل أيضا ، مهما أنكر رئيس الحكومة نتنياهو هذا الرابط ومهما نأى عن نفسه منه.


الاحتجاج الاجتماعي والتفكيك الايديولوجي

إنّ تطور الاحتجاج الاجتماعي الآخذ بالتراكم في إسرائيل اليوم، وسعته وسياقه العالميّ، يزعج أكثر ما يزعج المؤسسة الصهيونية الحاكمة في إسرائيل. وهو يتناقض جوهريا مع مقولاتها الفكرية والسياسية السائدة، وينسف فكرها القومي الضيق، الذي يرفض التعامل مع المجتمع الإسرائيلي كمجتمع رأسمالي طبقي عادي، خاضع لقوانين التطور الاجتماعي العامة.

نحن ننتمي باعتزاز إلى المتظاهرين في ميادين التحرير العربية، والمتظاهرين ضد الليبرالية الجديدة في شوارع أثينا ومدريد وباريس وكراكاس وهافانا وريو وتل أبيب؛ أولئك إخواني وأولئك شعبي

وعوضا عن ذلك، فإنّ الفكر والممارسة الصهيونية يقومان على نشر الوهم والتضليل بأنّ الصراع الطبقي والتناقضات الاجتماعية لا تنطبق على الشعب اليهودي في إسرائيل؛ فاليهود -كل اليهود- يشكلون حالة تاريخية استثنائية تلاحقها لاسامية أبدية، تقع خارج دائرة الصراع الطبقي والتناقضات الاجتماعية الطبقية. واليهود في المفهوم الصهيوني القومي الضيق، يقبعون في قارب قومي واحد بين فكي الصهيونية المستندة إلى منطق التخويف، والعدوان وإثارة الأحقاد العنصرية، بينما العرب -كل العرب- يقبعون في قارب نقيض. والغريب أن بعض “القوميين” العرب يستطيبون الوقوع في شراك الفكر الصهيوني المأزوم، ويتقمصون مقولاته الأساسية ومن موقع الأفق القومي الضيق نفسه، يكرّرون مقولاته المتنكرة لوجود تناقضات طبقية بين اليهود، ليصبح هؤلاء “القوميون” الوجه الآخر للعملة الصهيونية ذاتها. يتغنّون بالتسطيح الفكري والسياسي و”يُأدلجون” ضيق الأفق، ويسألون سؤال المستنكر: كيف يمكن الحديث عن صراع طبقي في إسرائيل في ظل صراع قومي دام؟ وكأنّ الموقف من الصراع القومي ليس موقفا طبقيا. إنّ فهم الصراع القومي ليس معزولا عن المنطلقات الطبقية في قراءته ، وإلا لما اختلفت مواقف الرئيس المصري “القومي” المخلوع ورموز حكمه الطبقي، عن مواقف ثوار ميدان التحرير، ولما اختلفت مواقف الطنطاوي والعدلي عن مواقف الشيخ إمام وعمال المحلة الكبرى وشركة قناة السويس.

إنّ التوجّه الطبقي والأمميّ لا يتجاهل الصراع القومي بل يواجهه بالتزام وطني ومثابرة أكثر من أيّ توجّه آخر، ولكنه يقسّم العالم بطريقة مغايرة. إنّ التقسيمة الأساسية بالنسبة لنا في إسرائيل ليست بين اليهود -كل اليهود- من جهة، والعرب -كل العرب- من الجهة الأخرى، وإنما بين أولئك الذين لهم مصلحة في الحفاظ على النظام الطبقي والاجتماعي والسياسي الصهيوني القائم، وأولئك من اليهود والعرب، الذين لهم مصلحة في تغييره تغييرا جذريا. إن هذا التغيير لن يحدث بمعزل عن وزن الاقلية القومية العربية، ولكنه لا يمكن أن يحدث بفعل نضالها وحده ومن دون إحداث التغيير في داخل شعب الاكثرية. ومهمتنا الصعبة والمعقدة لا تقتصر على النضال لتحرير الشعب الفلسطيني من الاحتلال والهيمنة الصهيونية فقط، فالشيوعيون اليهود والعرب يناضلون إضافة إلى ذلك من أجل تخليص الشعب اليهودي نفسه من براثن الهيمنة الصهيونية الأيديولوجية والسياسية. وهذا لا يتم بتقديس وتكريس ضيق الافق.

يأخذ علينا بعضهم أننا نشيد بالمقاومة الاجتماعية في إسرائيل بينما تمارس إسرائيل اضطهادًا قوميًا ضدّ العرب. ليس هناك أيّ تناقض بين قيام التقدميين العرب واليهود بمقاومة سياسة الاضطهاد القومي ومقاومة الاحتلال والدفاع عن الحقوق القومية للشعب الفلسطيني والتصدّي للتدهور الفاشي من جهة، وبين الانضمام بقوّة إلى مقاومة الظلم الاجتماعي الرأسمالي اللاحق بالعاملين والمنتجين العرب واليهود. العكس هو الصّحيح؛ فربط المعركة على التغيير الاجتماعي  بالمعركة على التغيير السياسي وما يرافق ذلك من تغيير في الوعي، يشكل شرطا أساسيا للنجاح في المعركة الاجتماعية والسياسية سواء بسواء. ولكن أولئك “القوميين العروبيين” الذين يضيقون ذرعًا ويتأففون بسبب تفاعل الجماهير العربية مع المعركة الاجتماعية العامة، فإنهم يلعبون بشكل طوعي بائس على ملعب غلاة اليمين الإسرائيلي المتطرف، المشغول في هذه الأيام بسن القوانين العنصرية لإقصاء الجماهير العربية المنهجي وحرمانها بالقانون، من حقها بإلقاء وزنها والتأثير على الساحة الإسرائيلية اجتماعيا وسياسيا وفكريا.

إنّ الفرصة لإحداث التغيير في إسرائيل من خلال الحراك الاجتماعي المتصاعد ليست فرصة لليهود مقابل العرب، وليست فرصة للعرب مقابل اليهود ولكنها فرصة ضحايا النظام القائم وضحايا سياساته الليبرالية الجديدة، بما فيها الاقلية القومية العربية الفلسطينية وحقها بالمساواة الكاملة في الحقوق القومية والمدنية، من العراقيب وما بعدها جنوبا وحتى سخنين وما بعدها شمالا، في مواجهة النظام اليميني المتطرف اجتماعيا وسياسيا. وهي فرصة مرهونة بمدى جاهزيتهم، عربًا ويهودَ، للنزول إلى الشوارع ونصب خيام الاحتجاج والانخراط  في هذه المقاومة الاجتماعية الزاخرة التي لا تنحصر في مطالب فئة محددة أو قطاع واحد، بل ترتقي الى مطلب أساسي جامع: تغيير النظام وتغيير السياسة السائدة وتحقيق العدالة الاجتماعية.

نحن ننتمي باعتزاز إلى هذه المعركة، إلى يهودها وعربها، إلى المتظاهرين في ميادين التحرير العربية، إلى المتظاهرين ضد الليبرالية الجديدة في شوارع أثينا ومدريد وباريس وكراكاس وهافانا وريو وتل أبيب؛ أولئك إخواني وأولئك شعبي. هل يُغضب هذا أيديولجيي ضيق الافق؟ نحن الذين حفرنا في الوعي في وثيقة السادس من حزيران 1980 مقولة: “إننا جزء حيّ وفاعل ونشيط من الشعب العربي الفلسطيني، لم ننكر ولا يمكن أن ننكر حتى لو جوبهنا بالموت نفسه انتماءنا الى شعبنا الفلسطيني العريق…”

إنّ الانتماء إلى المعركة الاجتماعية لا ينتقص من انتمائنا الفلسطيني بل يزيده إنسانية وفخارًا.

>>>

 أنا لست فخورًا/ مطانس فرح

• مخّول سندروم/ علاء أبو دياب

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

11 تعقيبات

  1. مقال سياسي تحليلي رائع يؤكد أممية الكاتب ويؤكد بعض الحتميات التاريخية وأن للظلم نهاية وأن الصراع الطبقي هو أساس كل صراع على الرغم من محاولة البعض إستخدام وتأجيج أمور عصبية أخرى لتحقيق أهدافهم من الصراع فتارة بأسم الدين وتارة بأسم القومية وتارة بأسم الحمولة في أضيق الحالات ومن لا يفهم ولا يعترف بالصراع الطبقي لم ولن يفهم ما يجري اليوم ليس فقط في إسرائيل وفي العالم أنني أحي الحراك الشعبي في إسرائيل وعلينا كجماهير عربية متضررة من سياسة الحكومات الأسرائيلة الأقتصادية أكثر من غيرناأن ننخرط في هذا النضال والذي يحدث لأول مرة في إسرائيل وتغليب الأجتماعي على الأمني والذي طالما حاولت الحكومات أسر الجماهير الأسرائيليةفي المربع الأمني تعالو لنساهم في فضح هذه السياسة عن طريق المشاركة المكثفة في كل المظاهرات الشعبية وفي المدن اليهودية والمدن المختلطة, وأخيراً من المؤسف أن بعض المعلقين على المقال ما زالوا أسيري التقوقع القومي الضيق وكما وصفهم الكاتب يلعبون في الملاعب الصهيونية عن وعي أو بدون وعي وحتى يصلوا لوعيهم سنواصل طريقنا والذي لا يقلل من نضالنا الى جانب شعبنا الفلسطيني في نيل حريتة وإستقلالهواى جانب كل المظلومين في العالم

  2. أخي عصام
    لا شك عندي في أنك لا تقل وطنية من من انتقدوك في الأسابيع الفائتة إلا أن إنتماءك لحزب فشلت مبادئه على الصعيد العملي شر فشل يشوب من قدرك كسياسي سابق. والأنكى من ذلك، أنك تفضل انتماؤك الحزبي على انتمائك القومي وهذا ما يستفزنا نحن من لم نرضع حليب الأم الإتحاد السوفييتي له الرحمة. مقالك هذا وإن استسهبت في كتابته يثير غضبنا أنه ينتقص من ذكاء الفارئ لا كونك أذكى, بل أنها محاولة فاشلة لتعليل مقولاتك الخطيرة. ما يزيد الطين بلة أنك أدرجت ثورة تل أبيب بتلقائية (نونشلنطيوت) مع ثورة التحرير المجيدة في نفس السياق. وهذا خزي وعار.
    أما بالنسبة لموضوع الرأسمالية والمقارنة مع البروليتاريا وفكرة انهيار سياسة رأسالمال؛فكفانا عهراً. أسرائيل اليهودية لا تسعى لتحقيق عدالة اجتماعية لان هذا يتعارض مبدئياً مع كونها موطن اليهود. إعلم أن المحتجين في تل أبيب ينتمون للطبقات العليا في سلم التدريج ومطالبهم مدفوعة من أنهم يريدون مسكن رخيص داخل تل أبيب وليس خارجها.
    تجاهلك لأسباب التظاهرات (إن لم يكن جهلك) وتفضيلك لانتمائك الحزبي وتملقك لليهود لهو شيء مقزز ومقلق في نفس الوقت.
    دمت خيراً لإسرائيليتك

  3. وجهة نظر ما فيها اشي مفاجئ يا جماعة، عصام مخول بمثل آرائه وآراء الحزب تبعه، وهادا من حقه بالنهاية. بكفي انو رد وصار في نقاش على الموضوع، والمهم النا ككل انو يصير في نقاش على هذا الموضوع. بس للتوضيح، عصام مخول نسي في رده يفسر ليش احنا المفروض نشارك ب”ثورة” أبطالها مش معنيين انا نكون جزء منها ! حتى لو افترضنا انو الاغلبية من الاقلية العربية هي من “الطبقة الوسطى” وبتشارك اخوانا اليهود نفس الهموم، فاخوانا هدول، الله يباركهم، من اول ما بلش هالحراك وهني يقولوا ويوضحوا ويشددوا على انو هالمعركة “اجتماعية”.. و”اجتماعية” باسرائيل يعني ما الها علاقة لا بالأقلية العربية ولا بالشعب الفسطيني .. وبالعربي يعني “داخلية وبتخصنا بس احنا اليهود”… وعليه، اكبر تناقض بهاد الحراك وبدوافعه انو بفترض انو ممكن يطالب بعدل اجتماعي – بدون ما يطالب بمساواة ل20% من المواطنين بالدولة – وبدون ما يطالب بانهاء احتلال شعب كامل ! وهادا اللي اخوانا مش قادرين يفهموا لليوم. كل شي مرتبط ببعضه، وما دام في احتلال مش رح يكون في عدل لا بروتشيلد ولا ببلعين.
    ” injustice anywhere is a threat to justice everywhere” Martin Luther King Jr

  4. كل الاحترام، الى جميع المتفلسفين الذين يملكون دار مع مكيّف نحن لا نملك دور وفلسطينيون اكثر منكم. لا تريدون مشاركتنا في النضال لتحصيل منزل حقكم. وليس من حقكم تعريف نضال لم تشتركون فيه

  5. وبتعرف تتسفسط يخزي العين!

    إيش هاد؟ ثورة تعايش؟ ولا ثور الله في برسيمة؟

  6. اتمااااااااااااااااااااااااام عاد معمالنا بنبخ

  7. ليش فش كبسة “لا يعجبني” في موقع قديتا؟ بدي أعمل Unlike ومش عارفة كيف!

  8. بخخخخخخخخخ

  9. رد كافي وتوضيح لموقف مشرف , لكل كل من لم يريدك ان توضح :)

  10. اليس هؤلاء المحتجين انفسهم هم الذين اوصلوا ليبرمان ونتنياهو الى سدة الحكم ؟
    مجرد سؤال.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>