نهايتان: جنازةٌ وفرح/ مجد كيّال

البطولة المؤجّلة، ليست بطولة. السجن تأجيل البطولة إلى حين كبوة السجان والانتصار. أما حين يستعجل الناس تَبدّلهم، وعندما نملّ التمسّك في ما نعتقد، وعندما نكرس الثوابت لزمن اللمح لا الرؤية، يتبدل سريعًا مفهوم البطولة

نهايتان: جنازةٌ وفرح/ مجد كيّال

|مجد كيّال|


لا أبطال في السيرك

سريعًا، من دون أن تلمس الشفاه، تنقضي القهوةُ البخيلة من الفناجين ضربة واحدة، كالموت قنصًا. ينحصر شربها في الثواني السريعة فينحصر الجالسون السبعة في الزاوية البعيدة، على الهامش. في بيت العزاء، آمال خائبة وأمتار تبعِد المتبقّين السبعة عن صدارةِ الحدث؛ فصُدورهم تقوقعت في كروشهم، لمّا فاتهم التمهُلُ اليوميّ على جرف الفناجين، والانتظارُ المُحبّ لأفق يُبدل لونَه للونِ القهوة، فيطفئُ السجّان مصابيح الخيام: “عدد وعالنوم.. عدد وعالنوم.”

أو لمّا تنازل السجّان عنهم مرغمًا، عندما صفّق الملاك جبريل.

لن تكذبوا عليهم. تلك الأمور غير مجدية. لن يفيدكم شيء، لا ملصقات تحمل اسم رفيقهم ولا علمٌ يلف تابوته، لا طبلٌ يسبق الموكب، ولا خبرٌ في صُحف الأحزاب غير المقروءة. لن تنجحوا بالكذب، فالأمور تبدو لهم واضحة. هي واضحة. إلى الجنازات العادية لا يصطحبون الأطفال. يصطحبونهم إلى جنازات الرموز والمشاهير وإلى جنازات الأبطال، فامتحان البطولة تعدادُ ظهور البطل في خيالات الصغار. الحقيقة واضحة، لا دور لهم في روايةٍ جاسوسية ولم يغيّروا التاريخ، لم ينتعلوا النياشين ولم يحالفهم الموت في المعركة. الأمور واضحة، قد تنقلها شبكات الاتصال العسكرية أو قصة الجد الحزين: “لقد فشلت الشبكة بأداء المهام المطلوبة، ووقعت في الأسر. أكرّر.”

فوق هزيمة الحرب، فادحة السجن البطيئة. سوى أحفاد الفقيد، لا أطفال في الجنازة.

عبثًا، تهمُّ الخطابة لانتشال ما تبقّى من خلود. وحدهم الأصحاب السبعة يقفون بعيدًا عند سور المقبرة ولا يسمعون الخطاب. هم يعرفون المعاني الحقيقية، ويعرفون المغامرة ولا يكشفون أسرار تهريب البلاغات العسكرية أبدًا، تلك المكشوفة، الآن، للجميع. خسروا الرفيق الأول، الأول الذي ربح التنصل من الخيبة. خيبة الملحميين العائدين من المعركة أمام سيركٍ سياسيّ العجائب احتضنته البلاد: “لأننا نحبّ الحياة.”

السيرك متجوّل في عادته، إلا أنه استسهل النجاح في أرضِ مَن ضلَّ، فظلّ.


البطولة المؤجّلة، ليست بطولة. السجن تأجيل البطولة إلى حين كبوة السجان والانتصار. أما حين يستعجل الناس تَبدّلهم، وعندما نملّ التمسّك في ما نعتقد، وعندما نكرس الثوابت لزمن اللمح لا الرؤية، يتبدل سريعًا مفهوم البطولة. فيأتي السجن بعد الفعل البطولي، ليؤجّل، ويطلق البطل في زمنٍ تفقد بطولته معناها الأول؛ حين تصبح شيئًا آخر أكثر “رُقيا”، فلا يعود البطل بطلًا. طوبى لمن يفرضون البطولة  على سياقها الزمني. طوبى لمن يرفضون البطولة في سياق الزمن الرديء.

الجبروت-موضوع الخلود- لحظي دون انتماء للزمن. فالمجد المؤرَّخ لا يحتمل الهبوط عند محور التوقيت.


بلاغ أخير: “رفيق، إن سألتك الملائكة أكثر من المتفق عليه في القرآن، لا تعترف. لا تعترف.”


رقصة الطوفان

يقرع جرس الحصة الأخيرة، أحشو مُسرعًا، في حقيبتي السوداء، كتاب التاريخ، مبادئ من ثدي أمي، دفاتر تعج بالرسومات الغريبة والخطوط الحمراء، والخطوط الحمراء. إلى محطة الباص أهرول من الطريق الإلتفافية، لأسبقها وأتخذ وقتًا مستقطعًا لتناسي ما في الحقيبة، وتقمص دور آخر، أكثر تواطؤًا… أكثر مراهقةً في السياسة.. أكثر مراهقةً في الحُب.

حين رددت أمّي التهليلة قبل نومي: “ثريّا وقُمَر ونجوم، شفت بصدرها.” لم تكن تقصد نجمة داهود المعلقة على صدر الزميلة، هكذا أظن. وعندما قال أبي ذو الشاربين الصغيرين: “لا نقاش مع العملاء.. مصيرهم أعمدة الكهرباء!” كان يقصد ما يقول، هكذا لا أظن، هكذا أجزم. إلا أني تركت صراع الاجيال يحوي صراعات تقتل الأجيال. أتطفل فأستمر بالنقاش الذي بدأناه في ساحة المدرسة… يا لحدّتي المراهقة ويا لتهرب الصغيرات الخجول… أنتصر في النقاش.. انتصرت في النقاش الذي انتهى لتوّه.. بعد ان فاتتني حافلتي نحو البلدة التحتى… وبعد أن استقلّت هي حافلتها إلى حوران الكرمل.

أغمضت عيني ولمست كفيها. عددت أصابعها، عشرة أصابع صغيرة، وكان العبث الطفولي الرياضي هذا كافيًا، لنجسد الأعداد المجردة

انتصارٌ بدائي على فيثاغوروس في المقعد الأخير في الصف التاسع، حصة الرياضيات للمستوى المتوسط. معلمة الرياضيات اللطيفة تتجاهل ثرثرتنا المزعجة في المقعد الأخير… وإن عاقبتنا، تعاقبنا سويًا… فتطردنا من صفٍ لا تنتهي به الارقام، إلى رقمٍ واحدٍ نجتمع فيه اثنيْن. فلخصنا، هكذا، الحقيقة في الملعب الخلفي لمدرسة انجيلية: أغمضت عيني ولمست كفيها. عددت أصابعها، عشرة أصابع صغيرة، وكان العبث الطفولي الرياضي هذا كافيًا، لنجسد الأعداد المجردة.

نكبر، فينبت الحب، ويزيد تِعداد الكتب. تغوص الصغيرة في الفكرة والكلام، فقد صار دفء المكتبة أكثر بكثير من مخبئٍ للقائنا، صار مذبحًا توضع فيه المنزلات خارجًا، وندخل إليه: “تابولا راسا!”. يصبح التحدي الجدلي عادلًا بيننا، فقد سرقت مني المطرقة والازميل لتتوغل بيجماليونًا ينحت ذاته كل يومٍ من جديد؛ في الطرقة الأولى تكسر سورًا سواد، متنفسًا للعقل ينشقُ وبحرًا للسؤال، فنبحر للحقيقة. في الطرقة الأولى تتمم ما في مهنة الإغراء من مهام تكويني فتشعلني نارًا من دون أن أغدو رمادًا. أصيرُ رمضاء تصهر جليدي الشاعري، ويأخذني نهر إلى مصبه، مرة أخرى.. بحرًا للسؤال.

“على شفا جرفٍ هارٍ” ترقص الأميرة السعيدة المترددة، المرأة التي تعرف، الفتاة ذات الحذاء الرياضي وزي المدرسة. تحيط سُبابتها أصابع مارد الغابة “نشتكين” فتدور أمامه راقصةً، تبتسم، وتفلت منه، إلى حضن “الحكمة”. على إنحدارات حوران ترقص. تراقصني، ولا ترقص معي، تقبّلني ولا تقابلني إلا في خلوةٍ ترادف حجة استعجال الوداع . تناور، ولا تحالفني. تغريني وتأخذني من الاسراف في التفصيل، إلى قراءة بارمنيديس بعد أن رفضت توحّدنا في السرير وذكرتني أنها رهينة “الموحدين.”

يزعجني دخان صديقي المتشائم: “حين يكبرن، يتعلمن المراوغة. ستتعلم.” تناشدني الابتعاد، صديقتها المتفهمة: “ستتسبب بقتلها.”

أتمهّل قبل الوصول الى المحطة، وأمي نفّضت ثيابها التهليلة، أبي صار أكثر تفهمًا، أكثر اعتدالًا وواقعية ويسأل رأيي في “بنت الحلال.” كرمل الشعراء انتهى من دوره البائس على مسرح يكذب دون أن يحكي الحقيقة في المقاهي التي نخرتني. ليس كل من في المتحف بيجماليون، هكذا تعلمت الآن، وليس كل ما نغرق فيه يصبح بحرًا للسؤال؛ سرعان ما يستنقع الطوفان. أعد أصابعي مرةٌ أخرى؛ عشرة أصابع.

يشعل لي، الصديق المتشائم، سيجارة أخرى: “إجلس، سأسكب لك كأسًا أخرى.”

تزغرد، الإشبينة المتفهمة، في حفل الزفاف الأميرة السعيدة المترددة، المرأة التي لا تعرف، الفتاة ذات الحذاء الرياضي وزيّ المدرسة.

(حيفا)



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>