وسورية التي هنا!/ مرزوق الحلبي

المنظومة القمعية التي يجسّدها نظام الأسد مثلا موجودة بين ظهرانينا. ومثلما تفعل تلك التي هناك بأدوات القمع والبطش الروسية أو الإيرانية فإن التي هنا تسوطنا بمقالات وتعقيبات تشي برائحة الدم لو أُتيح لها

وسورية التي هنا!/ مرزوق الحلبي

رسمة جدارية تجمع حافظ الأسد وابنيه باسل وبشار. واحة للديمقراطية؟؟


|مرزوق الحلبي|

في وقت مضى، قبل دخول الإنترنت على الخط، وقبل فتح إمكانيات التفاعل تعقيبا وردّا وسجالا، قلنا إننا نستطيع أن نتعلّم عن مجتمعنا من خلال ما يُنشر من تهانٍ وتعازٍ في الصحافة المكتوبة. لكنّ الخيار التفاعلي المتاح الآن عبر المواقع الشبكية يبدو فرصة أفضل بكثير لمن يريد رؤية “نفسية” الجماعة في تجلياتها. وهي “نفسية” تبدو معطوبة تماما، أحيانا، ثم نضرة كزهر اللوز، ثم مُتعبة، ثم فاعلة أو مفعولا بها. هي الأحداث تفعل فعلها أو الإيديولوجية أو العقيدة أو الجنس أو الانتماء الحزبي أو هوية الموقع المفتوح للتفاعل.

وإذا اعتبرنا الثورات العربية حالة متواصلة فإنّ في موازاتها حالة عندنا. وقد اعتادت روح الأحداث العربية أن تنعكس في مجتمعنا هنا. ساحة اللعب إسرائيلية لكن الروح والتيارات الجوفية عربية بامتياز. بمعنى، أنّ كثيرا من التحولات هناك تنعكس هنا أو تتسرّب إلى مجتمعنا وتحصل فيه، أيضًا. فالثورات انعكست “ثورات” هنا في الكلام على الأقلّ. والأنظمة التي جرت الثورات استئنافا على جورها وقهرها، وجدناها هنا، أيضًا، حاضرة بكلّ أدواتها وديماغوغيتها وخطابها المُنهك للروح المستفزّ للعقل. مرة في أقلام بعض الكتاب ومرات متكرّرة بكلمات معقّبات ومعقبّين متفاعلين إلى حدّ التماهي التامّ مع بشار الأسد مثلا!

أي أنّ المنظومة القمعية التي يجسّدها نظام الأسد مثلا موجودة بين ظهرانينا. ومثلما تفعل تلك التي هناك بأدوات القمع والبطش الروسية أو الإيرانية فإن التي هنا تسوطنا بمقالات وتعقيبات تشي برائحة الدم لو أُتيح لها. كاتب هنا أو هناك ومعه جيش من الهتافين. وهؤلاء، لا يكتفون بترداد ما يفتري به النظام هناك على شعبه ووطنييه، بل نراهم ينزلقون إلى تصوير سورية واحة الديمقراطية العربية وبلد الإصلاحات من كلّ صنف ونوع! وليس هذا فحسب، بل أنهم مستعدون للاختلاف والاشتباك الكلامي غير المهذّب مع كل مَن يسأل أو يُدين القتل بأيدي الأمن السوري، وشبّيحته! وهي “حركة” مماثلة طبق الأصل لحركة الأشخاص ذاتهم أو نسخ عنهم ضد كلّ ما كان يصدر ويصدر الآن من أسئلة حيال الرواية الرسمية للحزب أو المؤسسة أو الإطار أو الجماعة!

التجارب في الاتحاد السوفييتي وكوبا كانت على مرمى عصا، وهذا بالذات ما يُنتج أكثرية صامتة لا تقول شيئا أو تتحرك بين الجنة والنار!

وهو ما يأخذنا إلى ثقافتنا السياسية وتنظيماتها على اختلاف مشاربها. فهي في جوهرها تعمل بروح الحالة العربية وكجزء منها. قليل من الهواء المنعش وكثير من العتمة؛ قليل من النقاش وكثير من القرارات؛ قليل من الحوار وكثير من الأوامر. ومثلنا مثلهم هناك، نُكِبنا بالمركزية الديمقراطية وبمفهوم عسكريّ للالتزام أو بمفهوم دينيّ أصوليّ للانتظام والتفكير. وأخذنا عن غير العرب في هذا ما استطعنا؛ فالتجارب في الاتحاد السوفييتي وكوبا مثلا، كانت على مرمى عصا! وهذا بالذات ما يُنتج أكثرية صامتة لا تقول شيئا أو تتحرك بين الجنة والنار! تقول بعضا من الكلام دعما للثورة الشعبية في سوريا وبعضا آخر يربت على كتف النظام! هذا، علما أنّ في لحظات محددة من العُمر، من السياسة، من الوضع، ينبغي أن يخرج الإنسان عن صمته بأعلى صوته، كما يفعل السوريون كل يوم وكل ليلة رغم البطش!

هنا، لا بدّ أن نستعيد ما قلناه وقاله غيرنا من وجوب أن تغيّر الثورات العربية فينا، في أنماط تفكيرنا، في ممارساتنا، في ثقافتنا السياسية، في أخلاقياتنا، في نظام تعاملنا مع العالم ومعاييرنا واعتباراتنا، في تفكيرنا وإدراكنا، لا أن نكتفي بتسجيل المواقف أو الهتاف! وهذا ما يستدعي أن نقول ونصرخ في وجه المسؤولين عن هذا العطب في ثقافتنا هنا: “إلى الجحيم كلّ ما أنتجناه وصنعناه… إلى الجحيم وبئس المصير كل ما ألفناه من كلام وتنظير بائس وأنماط… إلى الجحيم كلّ الأحزاب والتنظيمات والحركات والعقائد التي ورثناها أو شوّهناها… إلى الجحيم كل هذه القيادات والرموز والنُخب… إلى الجحيم كل هذا وأكثر ما دمنا نجدنا مستعدين، حتى الآن ورغم كل ما شاهدناه وجرّبناه وراكمناه، لكتابة أطروحات دفاع عن نظام بطش واستبداد وقتل يوميّ، وما دمنا مستعدين أن نهتف لسفاحين خطفوا الوطن وها هم يذبحون أهله؛ إلى الجحيم ما دامت قيادات ورموز تدّعي الوطن والوطنية مستعدة لأن تصمت لتسلم علمًا بأنّ لسانها ـمنذ عرفتهاـ لا يُردّ إلى حلقها”.

هذا ما يعتريني منذ بدء الثورات الشعبية وبدأت الردود التفاعلية عليها وعلى ما يُنشر حولها. وهو ما أريد أن أفعله لو أننا في ساحة أثينا أو لو كان لدينا ميدان تحرير! وهذه هي العبرة من “درس سورية”. فهي ليست هناك فقط، هي بين ظهرانينا، أيضًا. و”هنا” مثل “هناك” أنماط قمع واستبداد، وأناس أحرار ووطنيون يسعون إلى تغييرها. والفارق أن السيادة الإسرائيلية ـويا للمفارقةـ تمنع من المستبدين الذين هنا أن يخرجوا علينا مثل خروج الذين هناك!


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>