“الوقت الحالي هو الأفضل لبدء المقاومة اللاعنفية”/ بشار حميض

مقابلة قديمة/جديدة مع رائد المقاومة المدنية في فلسطين، بروفسور مبارك عوض ■ “إبعادي من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي بسبب استخدامي لوسائل اللاعنف هو بحدّ ذاته دليل هام يؤكد جدوى استخدام اللاعنف” ■ “التوصل إلى قيادة يمكن الوثوق بها أمر يحتاج لوقت طويل

“الوقت الحالي هو الأفضل لبدء المقاومة اللاعنفية”/ بشار حميض

بروفيسرو مبارك عوض. من "مهندسي" الانتفاضة الأولى ومبعديها


|بشار حميض|

بينما كانت القضية الفلسطينية تعيش أحلك فصولها في 2009 مع انتهاء الحرب على غزة وتعمق الانقسام الفلسطيني، تصاعدت رغبتي بضرورة السعي الفكري للوصول إلى مخرج للأزمة الفلسطينية. وبدأت بالكتابة والنشر حول هذا الموضوع، وكانت الفكرة الأساسية هي ضرورة الانتقال إلى نوع جديد من المقاومة المدنية يعتمد على التقنيات الجديدة التي طوّرت في العقود الماضية من طاقة متجددة وأبنية خضراء مستقلة ذاتيا وأنظمة إدارة محلية تعمق الصمود الفلسطيني، وذلك في إطار مقاومة تخلصنا من القواعد التي يضعها لنا الاحتلال الإسرائيلي المسيطر على الطاقة والمياه، حتى في غزة التي سميت بـ”المحررة” مع أنها محتلة كباقي المدن الفلسطينية التي “حررتها” اتفاقيات أوسلو. في إطار هذا السعي، الذي تحوّل إلى بحث علمي حول هذه المسألة، أجريت مقابلة مع البروفسور الفلسطيني مبارك عوض، الشخصية الأولى التي ترد في البال عند الحديث عن المقاومة المدنية في فلسطين المعاصرة. فقد  ساهم هذا الناشط في إشعال المقاومة اللاعنفية في فلسطين عام 1985 من خلال وسائل مبتكرة، وساهم نهجه في تشكيل الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي حققت نجاحًا كبيرًا رغم اعتمادها على مستوى منخفض من العنف. والمسألة كانت بسيطة لكنها مؤثرة؛ فقد نظم حملات لرفع العلم الفلسطيني على المنازل في القرى والبلدات مُربكًا قوات الاحتلال التي كانت تحاول منع ذلك ولا تستطيع.

لكن لا يزال في جعبة عوض العديد من الوسائل الأخرى التي نشرها في ورقة إستراتيجية له عام 1984 تبناها معهد الدراسات الفلسطيني، وها نحن نرى اليوم أولى بوادر تطبيق ما دُعي إليه قبل 38 عامًا.. فقد كان ممّا اقترحه مبارك عوض أن تنظم حملات لهجر المخيمات الفلسطينية وعودة أهلها جماعيًا إلى ديارهم، مُحدثين بذلك ضغطًا معنويًا هائلا على إسرائيل. اليوم ننشر هذه المقابلة كاملة لأول مرة. ورغم مرور حوالي سنتين على إجرائها، إلا أنها لا تزال تمتلك أهمية كبيرة نظرًا لما يحصل من تغيّرات عميقة وتحوّل المقاومة المدنية من الفكرة الهامشية إلى الشعبية العارمة. فيما يلي نص المقابلة التي أجريت في أغسطس/آب 2009:


التدريب الذي تلقته سلطات الاحتلال كان على استخدام القوة والبندقية للقمع، ولذا فإنّها تخاف انتشار المقاومة اللاعنفية فتفقد الدولة الإسرائيلية قدرتها على السيطرة

- إن تجربتك الشخصية مع قوات الاحتلال الإسرائيلي التي أبعدتك عن أرض فلسطين تأخذ في العادة كدليل على عدم إمكانية ممارسة المقاومة اللاعنفية في فلسطين. هل نستطيع أن نقاوم الاحتلال الإسرائيلي ذا القوة الهمجية باستخدام وسائل لاعنفية؟

عوض: “إنّ إبعادي من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي بسبب استخدامي لوسائل اللاعنف هو بحدّ ذاته دليل هام يؤكد جدوى استخدام اللاعنف. فالسلطات الإسرائيلية فكرت كثيرا قبل أن تتخذ قرارًا بإبعادي لأنها تعلم أنّ حركة اللاعنف يمكنها أن تنتشر في كل أنحاء فلسطين وأنها حينئذ لن تمتلك الوسائل التي تستطيع من خلالها التعامل مع هذه الحركة. فمعظم التدريب الذي تلقته سلطات الاحتلال كان على استخدام القوة والبندقية للقمع، ولم تدرب على السيطرة على الجماهير. كما أنه ليس لديها القدرة البشرية الكافية لذلك. لذا فإنّ خوفها هو من انتشار المقاومة اللاعنفية في جميع الأنحاء وأن تفقد الدولة الإسرائيلية قدرتها على السيطرة.

“ولا ننسى هنا أن الدولة في تلك الحالة لن تكون قادرة على مواصلة دعايتها التي تقول إنّ أعداءها هم الأشرار وعديمو الإنسانية ولا يستحقون إلا القتل، لأنه إن لم تفعل ذلك فإنّ مواطنيها سيُقتلون. إنّ الذين سيستخدمون وسائل اللاعنف سيغيرون حينها المعادلة بشكل جذريّ.”

- يُفترض أن تفتح الوسائل غير العنيفة المجالَ لقطاعات واسعة من الشعب لممارسة المقاومة، لكن لماذا لا يحدث ذلك في فلسطين اليوم؟

عوض: “اللاعنف هو نظرية ووسائل لا تزال في طور التجريب. وهي بحاجة لقيادة تقول للناس ماذا عليهم أن يفعلوا ومتى عليهم أن يفعلوا ذلك. أنا أعتقد أنّ القيادة الفلسطينية ينقصها إلى الآن الفهم العميق والاستراتيجي الذي يتيح لها قبول اللاعنف كوسيلة للمقاومة. إنّ القيادات الفلسطينية لا تستطيع إلى الآن الخروج عن الإطار الثوري القديم. وهي حتى غير راغبة في تحويل حركة فتح إلى حزب سياسيّ. إنهم يعيشون في الماضي وباقي مؤيديهم غير راغبين أيضًا في عمل شيء مختلف.”

من المهم أن يكون لكلّ فرد دور. بعض هذه الأدوار سيكون سهلا والأخرى ستكون صعبة، ولكن الكل يستطيع أن يتحكم بما يأكل ويلبس ويشرب وحتى يدخّن

- في ورقتك “المقاومة اللاعنفية: استراتيجية للأراضي المحتلة” التي نشرتها عام 1984 تحدثت عن الخطة الإسرائيلية لتهويد الضفة التي كانت مطروحة آنذاك وأصبحت اليوم واقعا على الأرض. لو أردتَ اليوم أن تضع خطة إستراتيجية جديدة للمقاومة اللاعنفية، فماذا ستكون أهم النقاط فيها وبماذا ستختلف عن إستراتيجية عام 1984؟

عوض: “لن تختلف خطة اليوم عن خطة عام 1984 كثيرًا سوى في أنها ستركّز بشكل أكبر على تنسيق الجهود مع القوى الإسرائيلية السلمية التي يمكن أن تقنع الإسرائيليين للتصويت لقادة يرغبون بالسلام.”

- كيف تقيم نتائج نهج المقاومة المسلحة التي طبقت خلال الـ 15 عاما الماضية؟

عوض: “إنّ هذا النهج في المقاومة لم يؤدِّ إلى إحداث أيّ فرق في إسرائيل. فإسرائيل أصبحت أكثر تقدّمًا في المجال العسكري وأثبتت أنها تستطيع الوقوف أمام أعدائها عسكريًا، سواء أكانوا مجتمعين أو منفردين. وبحسب كتاب ماري كينج بعنوان “الثورة الهادئة” (Quiet Revolution) فإنّ إسرائيل لم تتغير كثيرا إلا بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى. فبعد هذه الانتفاضة جاء مؤتمر مدريد ثم عملية أوسلو ثم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبعدها أيضًا جاء ياسر عرفات إلى غزة. أما بعد التحول إلى المقاومة العسكرية في الانتفاضة الثانية فإنّ النتيجة كانت بناء جدار الفصل وإقامة المئات من الحواجز الأمنية وتقسيم الضفة وحصار غزة.”

- هل حان الوقت للبدء بالمقاومة اللاعنفية؟

عوض: “إذا قمنا بتحليل الوضع الفلسطيني بشكل جيّد فإننا سنرى أنّ الوقت الحالي هو الوقت الأفضل لبدء المقاومة اللاعنفية. إلا أنّ هذا يحتاج إلى قيادة وتثقيف، خصوصًا من طرف حركة فتح الممسكة بزمام الحكومة.”

- إحدى الوسائل التي اقترحتها في ورقتك التي نشرت عام 1984 كانت وسيلة المقاطعة وعدم التعاون مع الاحتلال. اتخاذ مثل هذه الوسيلة سيتسبب في نقص في المواد الأساسية لدى الشعب الفلسطيني ونقص في الكهرباء والماء والمحروقات. هل ترى أنّ تطوير وسائل تقنية بديلة تنمي قدرة الشعب الفلسطيني على الاكتفاء الذاتي يمكن أن يكون عنصرا أساسيا في المقاومة اللاعنفية؟

عوض: “من المهم أن يكون لكلّ فرد دور ما يقوم به. بعض هذه الأدوار سيكون سهلا وأخرى ستكون صعبة، ولكن الكل يستطيع أن يتحكم بما يأكل ويلبس ويشرب وحتى يدخّن. إنّ المسألة هي مسألة تربية. يجب توعية الناس وجعلهم فخورين بأنّ ما يقومون به هو لمصلحة المجموع. للأسف فإنّ المسؤولين الفلسطينيين هم أنفسهم الذين يستغلون الشعب لتلبية مصالحهم الشخصية بدلا من العمل لمصلحة القضية. إن التوصل إلى قيادة يمكن الوثوق بها أمر يحتاج لوقت طويل، ويجب التأكيد على أنه في حال فقدان الثقة بالقيادة فإن الناس لن يكونوا مستعدين للتضحية.”

لن تختلف خطة اليوم عن خطة عام 1984 كثيرًا سوى في أنها ستركّز بشكل أكبر على تنسيق الجهود مع القوى الإسرائيلية السلمية التي يمكن أن تقنع الإسرائيليين للتصويت لقادة يرغبون بالسلام

- ما هي آفاق القضية الفلسطينية في المستقبل القريب؟

عوض: “إنّ وضعنا الفلسطيني سيسوء وسنتعرّض لمزيد من الانقسام وستضيع المزيد من الأراضي وستقلّ رغبة الناس في المقاومة، كما أننا سنفقد كلّ القوة اللازمة للمفاوضات. إننا نحتاج لأن نستعيد قوانا ولأن لا ننتظر من الولايات المتحدة أو غيرها أن تقوم بالجهد الذي يجب أن نقوم به بأنفسنا.”

- ما هو دور فلسطينيي الداخل في المقاومة اللاعنفية خصوصا مع تزايد الحديث عن خطط ترحيلهم؟

عوض: “إنّ دور “فلسطينيي 1948” هام خصوصا لتحقيق هدف المساواة. ولكن في نفس الوقت يجب أن لا نظلم “فلسطيني الـ 48” بجعلهم يعملون معنا. إنّ عليهم مواصلة العمل لتحقيق المساواة مع اليهود، وعلينا جميعا أن نفكر مليا في تجربة شعب جنوب أفريقيا الذي ناضل من أجل تحقيق المساواة للجميع وأن نستفيد من هذه التجربة لتحقيق تقدم في المسيرة الفلسطينية.”



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>