قراءة في صورة الرئيس السابق*: رمزيّة المحاكمة وعِبر المصالحة/ ياسمين ظاهر

ليس صدفة إذاً أن مؤيدي الرئيس المخلوع لم يستطيعوا أن يعبروا عن دعمهم له -منذ بداية الثورة وحتى محاكمته أخيرًا- الاّ بالدموع تارة والعنف تارة أخرى. إنَّ انكسار “الأسطورة” مدعاة للغضب، وغياب الأب فجيعة مبكية… لأنَّ النديّة ثقافة لم تذوَّت بعد تمامًا

قراءة في صورة الرئيس السابق*: رمزيّة المحاكمة وعِبر المصالحة/ ياسمين ظاهر

مبارك أثناء محاكمته. فجيعة!

|ياسمين ظاهر|

لقد بدا التأثر واضحًا على أصوات الصحفيين والصحفيات الذين نقلوا أحداث محاكمة الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك. قد يكون هذا التأثر نتيجة فرحٍ لسريان مفعول مقولة “الشعب يحاكم الرئيس”، والتي هي الترجمة المباشرة لصورة الرئيس السابق قابعًا وراء القضبان. قد يكون فرحًا مشوبًا ببؤس وشفقةٍ على الرجل وهو يدخل بسريره المتحرك، وهو الذي كان يُعّد نجله قبل شهور ليحتل عرشه الملكيّ، وها هما يقبعان معًا في ذات الزنزانة. على الأرجح، أنَّ التأثر الذي رافق ناقل الحدث كما الشاهد عليه، هو ما سجلته هذه الصورة من رمزيّة ومعنى في وعي ومخيلة الانسان المصري والعربي، وهي قدرة الشعب المصري على تحويل رئيسه السابق إلى إنسان حتى لو كان هذا رغمًا عنه.

إنها مصالحة تاريخيّة، بين المسار الذي اتخذه الفعل الثوريّ والجماعيّ وبين علاقة هذا الفعل بوعي الإنسان الفرد ومفهومه لطبيعة العلاقة التي يجب أن تسود بين الرئيس والشعب. لم يكتفِ المصريون بتحويل الرئيس إلى ماضٍ، فممارسة مواطنتهم وإنسانيتهم التي سُلبت منهم على مدار عقود مضت ارتأت تحويل الرئيس أيضًا الى إنسان ومواطن، وبطبيعة الحال يُحاكَم على ارتكاب جرائم بحق الآخرين. وبعيداً عن دعوات الانتقام، أو “الشماتة”-كما يسمّيها المصريون- فهذه المحاكمة هي تصويب المستقبل على حساب الماضي، وليست ملاحقة للأخير؛ فالشعب بحاجة لأن يتصالح مع ماضيه، وهو يفعل ذلك بتصحيح مساره من خلال أهمية ورمزية محاكمة الرئيس.

إنها لحظة يعلن فيها الشعب المصري تحررّه من السلطة الأبويةّ. وهو مفهوم على  المواطن أن يتخلص منه كي يعتاد مواطنته، فصناعة الأساطير وتأليه الذات، صاحبت تولي العديد من الحكام سلطتهم ومكنِّتهم من البقاء عليها أطول مدة ممكنة. تأليه ذاتهم  كان يستوجب مكانة العبيد للشعب، وطريقهم نحو صناعة الهالة حول شخوصهم اختلفت وتعددت، فمنهم من تفاخر ببطولة عسكرية أو سلالة نبويّة ومنهم من سجَّل نسبًا الى تأريخ مجيد. ولا بدَّ أن المشترك بينهم جميعها هو اعتمادهم صورة الأب، والاعتماد على روح الأسرة -روح الشعب- ليحافظوا على مكانتهم.

كل شيء ممكن في سبيل الدور الأهم: أب الوطن وحامي الحماة. وخروج “الابن” عنه ما هو إلاّ اعتداء على سلطة إلهية أو تقليدية. فالرّاعي والرّعايا كلمات ترادف أجيالاً؛ الراعي هو البالغ، الأب الحاكم، والإله. والرعايا هم العبيد، الأطفال أو القاصرون والخاضعون. ليس صدفة إذاً أن مؤيدي الرئيس المخلوع لم يستطيعوا أن يعبروا عن دعمهم له – منذ بداية الثورة وحتى محاكمته أخيرًا- الاّ بالدموع تارة والعنف تارة اخرى. إنَّ انكسار “الأسطورة” مدعاة للغضب، وغياب الأب فجيعة مبكية. ولم تكن بجعبتهم ادعاءات أقوى، أو رزم من الانجازات تدعوهم الى افتقاد الرئيس. وهم ليسوا -بالضرورة- حفنة من المأجورين او المنتفعين، فمشاعر الشفقة التي انتابتهم في أعقاب محاكمة الرئيس، هي كل ما كان بوسعهم أن يقدموه لأسطورة أو أب، لأنَّ النديّة ثقافة لم تذوَّت بعد تمامًا. فغالبية الشعوب العربية كانت -ومنها للأسف لا يزال- فريسة “الرئيس- الأب”؛ آلهة لا تخطئ وإن فعل فمن المؤكد أن الأبناء قد أذنبوا. إنَّ هذا الخطاب هو الوجه الثاني لخطاب مماثل حاول على مدى عقود أن يؤكد لنا أنَّ الشعوب العربية لا تستحق ديمقراطية وليست جاهزة بعد، ما زالت “طفولتنا” وقدراتنا العقلية في طور البناء، وأن هناك من يعرف مصلحتنا أكثر منا! فذوَّتت الشعوب العربية علاقة الأبوة هذه الفرضية والمفروضة.

لن يكون بالإمكان محاسبة كل من كانوا على صلة مع النظام. وهناك حاجة ملّحة للبدء بالتفكير بنموذج “لجان الحقيقة والمصالحة” الذي طبق في جنوب أفريقا، او نماذج اخرى

وبعيداً عن غضب الناس المفهوم الذي يكرَّر وينادي بالانتقام أو القصاص -كقدر وليس كتحمل مسؤولية- فمن الواضح أنَّ ما يبتغيه أغلب المصريين وبالذات حركات الشباب الواعيّة والديمقراطية، هو بناء وعي مختلف تذوّت فيه النديّة وسواسية أبناء البشر. فالرئيس يُحاسَب كإنسان ارتكب جرائم، ويتحمل مسؤولية أفعاله وستترك هذه المحاكمة أثرها في وعي الملايين وستكون عبرة لرؤساء قادمين. على أن يكون هو ونجوم النظام السابق خاتمة المحاكمات. فالحلّ الأفضل للخلاص من القصاص والانتقام، هو نشر روح التسامح والمصالحة.

فمسار الفعل الثوري أو الفعل التغييري، يعي جيدا بنية وتشكيلة الانظمة، والتي بفحواها تعتمد على ديناميكية وليس على بشر بعينهم وتعتمد على قدرتها على تحويل البشر إلى أدوات. كما أنها تمتدّ لتصل شرائح وقطاعات واسعة من المجتمع، ومصر ليست بحالة شاذة في هذا. لن يكون بالإمكان محاسبة كل من كانوا على صلة مع النظام. وهناك حاجة ملّحة للبدء بالتفكير بنموذج “لجان الحقيقة والمصالحة” الذي طبق في جنوب أفريقا، او نماذج أخرى. فلبناء مجتمع جديد، التسامح أهم بكثير من العقاب، فالعقاب ينهي الحوار الذي قد يفتحه الاعتراف، بين الانسان وذاته وبينه وبين الاخرين، كما انه لا يعني بتاتا تحمل مسؤولية وهو يقطع الامل عن بناء مجتمع جديد.

سننتظر مجريات المحكمة وما ستؤول اليه، وإن كانت ستتم بنزاهة وستكشف كل التهم، ولكن شيئًا واحدًا أكيدًا اليوم هو أنَّ أحدًا لن يستطيع أن يسرق من الشعب المصري هذا الإنجاز، إنه أول شعب عربي يخلع ويحاكم رئيسه.

(* نتفهم جدًا غضبَ المصرين والمصريات ومناصري الثورات على تسميّة “الرئيس السابق”، ودفعهم للتشديد على إنجازات الثورة بخلع الرئيس. نوَّد أن نشير إلى أنَّ مصطلح سابق لا يتناقض مع مخلوع، خصوصًا  وأنَّ “سابق” هي صفة لحالة الوضع الراهن (أي إنه الآن بالفعل سابق)، دون التطرق الى طريقة حدوث هذا الوضع. وهو مصطلح أشمل، من المحبذ استعماله، بالذات في صدد نقاش عقلاني.)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>